شيخ العيطة الحسين السطاتي
المغرب كسائر بلدان العالم، يزخر بفسيفساء من التراث الغنائي المتنوع، وتختلف أنواع فنون هذا الغناء لغة وأداء ونغما باختلاف مناطقه، وكثير منه يتخذ اللهجة العربية الدارجة “العامية المغربية” لغة في التعبير، ومن بين هذه الفنون نجد فن “العيطة”، الذي يشكل أحد أهم روافد الثقافة المغربية، فهو فن موسيقي غنائي يندرج ضمن الفنون التراثية والأغاني الشعبية المغربية التي تَغنى ومازال يتغنى بها جمهور عريض من المغاربة، إذ يعتبر تراثا موسيقيا وغنائيا، وتعبيرا ثقافيا وشعرا شفويا، كما يعد أحد التعبيرات التمثيلية الفرجوية المغربية، يؤديه فنانون مغنون “شيخات” و”أشياخ” صناع الفرجة والفرح في الثقافة المغربية بشكل عام، والثقافة الشعبية بشكل خاص، على طول جغرافية الوطن، فنا أصيلا وتراثا شعبيا رافق المغاربة طوال عقود من الزمن ولا يزال مستمرا. وإنتاجا فنيا قام بالتعبير عن هموم وأفراح جزء كبير من المغاربة الشعبيين خلال فترة حاسمة من تاريخ البلاد..وسجل لنا مظاهر حية من معيشهم وطقوسهم وأحلامهم…ومازال يحتل الصدارة رغم هجوم العولمة والغزو التكنولوجي للفنون التراثية، وتختلف مواضيعه بين العاطفي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي، والفنان العيطي “شيخ أو شيخة” كان هو الراوي والزجال والمؤلف والمغني والممثل المسرحي..تتمثل فيه تقاليد الجماعة التي نشأ فيها، بما فيها معتقداتها ومواهبها، وطقوس حياتها، وأمثالها، وحكمها، وحكاياتها، وأهازيجها، وأساطيرها التي لم تظهر في كتب، والعيطة بالنسبة للبدو بمثابة مرآة تعكس صورة حياتهم، وكل هذا الزخم العيطي يؤدى في جو يمتزج في فضائه الديني بما هو دنيوي في جدلية المقدس والمدنس، متحدين بذلك تلك النظرة المعادية من بعض رجال الدين صوب فنهم.
“وإن هذا الغناء الذي يطلقون عليه اسم العيطة، وأحيانا أسماء أخرى للتمييز، هذا النفس الساخن الصاعد من الدواخل، عبر الأصوات البشرية- الأنثوية والذكورية- والإيقاعات والألحان الآسرة، هو الذي أسعف على ميلاد شعر شفوي ظل يخرج من الجراح الفردية والجماعية مثل النزف الدافق، ويلتصق بذوات وبمصائر الفلاحين والمزارعين والرعاة، والقرويين عموما، المنحدرين من ذاكرة عميقة ومن سلالات عربية لها تاريخ بعيد، مهمل، مكبوت ومسكوت عنه”. المرجع: الباحث الدكتور حسن نجمي في كتابه بعنوان: “غناء العيطة، الشعر الشفوي والموسيقى التقليدية بالمغرب 1″، الصفحة 17.
إن فن العيطة هو فن شفوي وصلنا عبر التواتر والتناقل الشفهي من جيل لجيل، وقد ضاع الكثير من المتون العيطية بسبب الشفهية والتشردم الذي اقتضاه نمط الحياة البدوية الرعوية، وكذا من جراء انتشار الأمية بشكل واسع، وكان الزجل هو فن التعبير البدوي الذي بلغ حدا من النضج والاستواء، وكان متغلغلا في ضميرهم مستوعبا لشتى جوانب حياتهم الروحية والوجدانية والفكرية، مسجلا لروح حقبة تاريخية مغربية، والشاهد المستخلص من هذا الإرث الفني يتمثل حقيقة في الاعتماد على الرواية الشفوية المتواترة والتحرز الشديد الذي يذهب إليه بعض الأشياخ والشيخات والمؤلفين خوفا من المساءلة والعقاب واتهامهم بالفحش والزندقة، فظلت العيطة منشدة للرواية الشفوية والتتلمذ السماعي المباشر على الأشياخ والشيخات، لهذا ظل الشاعر والمؤلف العيطي مجهولا، واستنادا إلى ما توفر لدينا من ربائد عيطية، محفوظات مرجعية “أرشيف” غنائي قديم، (بعض الكتب لباحثين مهتمين بفن العيطة، وأسطوانات اللفة، وأشرطة الكاسيت، وأشرطة الفيديو، وتسجيلات بالكاميرا لحفلات عيطية، وأقراص مدمجة، وتسجيلات لسهرات عمومية وتلفزيونية، وصور فوتوغرافية، ومنشورات فيديو على موقع التواصل الاجتماعي “يوتيوب”، فايسبوك، تيك توك..)، وما سمعته شخصيا بالمباشر من أفواه “الأشياخ” و”الشيخات” والرواة..منهم الذين ماتوا الله يرحمهم، ومنهم الذين مازالوا على قيد الحياة، إضافة إلى صفتي الفنية، لكوني فنان شعبي شيخ للعيطة مغني وعازف كمنجة، “كومنجي لرباعة الشيخات”، ومهتم بهذا الفن وللأمانة البحثية وجب علي أن أنقل ما عشته وما عايشته وما وصل إلى علمي في هذا الحقل الفني بكل صدق وأمانة للقارئ، فمن خلال هذه المراجع وممارستي الميدانية لهذا الفن التراثي الأصيل يتضح لنا حضور المقدس والمدنس جنبا إلى جنب في النص العيطي كما في الفرقة العيطية كجماعة متمثلة في المجموعة الغنائية “الرباعة”، حيث نجدها تنشط حفلات دينية وتقوم بمهام علاجية لمرضى، وتنشد ابتهالات وأدعية دينية ضمن أغاني عيطية خالدة معمرة، مازالت تغنى إلى يومنا الحاضر، عيوط أصيلة على إيقاع الرقص والنغم بالصوت النائح الصادح، والرقص الفاضح، أغاني خالدة كانت وما زالت تُغنى حيث يختلط المقدس بالمدنس في فرجة الغناء والرقص.
يحضر فن العيطة في مختلف الحفلات والأفراح، إذ نجده بحفلة، العقيقة، وبالختان وبالزفاف، وأيام الأعياد الدينية والوطنية، وطقوس طلب الغيث والاستسقاء” تاغنجة”، والتداوي والعلاج بالموسيقى والغناء “عيطة الساكن”، وبنجده كذلك بفضاء المسرح الحي “الحلقة”، وبمواسم أولياء الله الصالحين، ومواسم التبوريدة، وبالمهرجانات، وحفلات الخروج من السجن، وحفلات النجاح، وحتى حفلات الطلاق، وحفلات عودة الحجاج من أداء مناسك الحج.. وبهذا نجد فرجة العيطة حاضرة في حياة البدوي المغربي من المهد إلى اللحد،؛ حاضرة في حفلة الولادة، فتلك الصرخة الأولى للمولود نجدها ضمن اللحن العيطي، فهي نداء وصرخة، وجو الوضع بما فيه حضور المولدة “القابلة”، وبعض النسوة من الجيران بالدوار، وأجواء التكبير والتصلية على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، والزغاريد ووجع المخاض كلها نجدها من مكونات الفن العيطي، إلى حفلة العقيقة “السبوع”، حيث تجتمع العائلة فتتخلل المناسبة أهازيج العيطة فرحا بالمولود الجديد، وبتسميته تماشيا على سنة الله ورسول، ومنه إلى حفل الختان الذي تؤثثه أغاني هذا الفن، وإلى حفلة الخطوبة ثم إلى حفلة الزغاريد “الهدية”، التي يقدمها أهل العريس للعروس، كل هذه الأفراح والحفلات التي يمتزج فيها ماهو ديني بما هو دنيوي تدور رحاها من فرح وبهجة بتنشيط الفرقة العيطية، وبغناء ورقص “الشيخة”، هذه الفنانة التي تساوي عند بعض المغاربة “المومس الغانية الغاوية”، والشيخ العيطي الذي يساوي عند البعض بالوسيط في البغاء “القواد”.. وداخل هذا الفضاء الفني الغنائي المشحون بالديني والدنيوي نجد أحيانا الأدوار تتبادل بين الرجل والمرأة، فقد نجد شيخة مسترجلة تعزف على آلة الموسيقية وتغني بصوت تخيم خشن ،كما نجد شيخ عيطي مخنث يتجمل بمساحيق التجميل الأنثوية ويرقص في زي النساء ويتشبه بهن في الصوت والحركات من غنج ودلال ودلع، وتجده في عيطته يبتهل إلى الله في غنائيه ويتوسل إلى خالقه، ويتضرع للأولياء والصالحين..في صورة الناسك المتعبد الزاهد،كما أن المتن العيطي يمور بالعديد من اللوحات الجنسية الصاخبة إلى جانب الأدعية والابتهالات الدينية..ونجد كذلك بعض الأشياخ والشيخات العيطيون يؤدون فريضة الحج، إذ يحجون إلى بيت الله الحرام وزيارة مكة المكرمة والتبرك بالكعبة الشريفة، ثم يعودون من جديد لمزاولة حياتهم الفنية بكل أريحية وقابلية فنية، وطاقة فنية ابداعية أكثر مما كانوا عليه قبل حجهم، بل نجدهم يُصِرون على إضافة لقب “الحاج” و”الحاجة” إلى أسمائهم، ويدونونها بالخط العريض على إصداراتهم الفنية، ويروق لهم أن يتنادون بها فيما بينهم مثل: الشيخ الحاج عبد الله البيضاوي، والشيخ الحاج محمد العروصي، والشيخ الحاج أحمد الكَرفطي، والشيخ الحاج عبد المغيث، الشيخة الحاجة راضية، الشيخة الحاجة الحمداوية، الشيخة الحاجة حليمة، الشيخة الحاجة الحامونية وغيرهم..ونجد الشيخة الحاجة ترتدي لباسا تقليديا مغربيا محتشما؛ القفطان أو التكشيطة وتضع حجابا على رأسها، منديلا أو”درة”..وتغني وتصدح بمتون العيطة، فيا ترى كيف اجتمع الديني بالدنيوي في هذا الفن التراثي الأصيل؟ وأين تتجلى مظاهر المقدس والمدنس بالعيطة؟ وما موقف فن العيطة من المثلية الجنسية؟ وكيف استمر هذا الفن إلى يومنا الحاضر بهذا الإشعاع والإقبال والقبول وهو يحمل بين ثناياه كل هذا الزخم من التناقضات ونظرات التحقير والازدراء والاستهجان؟ وكيف تسنى لهؤلاء الفنانين أشياخ وشيخات أن يصنعوا الفرجة، وهم في نظر البعض فرجة مشاعة، يغنون ويرقصون ويَفرحون ويُفرحون المغاربة وغيرهم وهم مكبلين بتقاليد بالية ونظرات تخلفية؟
إن كلمة المقدَس في معجم المعاني الجامع وقاموس الوسيط للغة العربية: اسم مفعول من فعل قدَس، يُقدِس، تقديسا، ومُقدِس اسم فاعل، ونقول مُقدَس الحرمات، بمعنى منزه ومعظم، والكتاب المقدس: التوراة والإنجيل، والبيت المقدس، هو حرم القدس الشريف، والمقدس ضد المدنَس والمنَجس، وكلمة المُدنس: اسم مفعول من دنس، يدنِس، تدنيسا ودناسة، والمدننس، بمعنى الملطخ والموسخ، ونقول تدنس الثوب بمعنى اتسخ، والدناسة هي انتهاك الحرمات، ونقول شخص دنِس بمعنى خليع، فاجر، فاسق.
إن فن العيطة هو من أعرق فنوننا الغنائية الشعبية، فن موسيقي تقليدي، جمع بين الموسيقى والغناء والرقص، غناء البدو.. فن رعوي أصيل متجذر في التراث الشعبي، نداء كتعبير عن ألم مشترك، وعن الحب بلذاته وعذاباته.. فن طربي ثوري تحريضي وحماسي.. تتنوع مواضيعه بين العاطفي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي، إبداع فيه قصص وحكايات وروايات، وأمثلة وعِبر وحكم تحمل قيما إنسانية..فيه مجاز، وتعبيرات جذابة، وفيه كنايات وترميز، وأشياء مثيرة، وفيه نسيب وغزل، ومدح، وهجاء، ورثاء، وندب وتفجع، وبكاء ونواح..فن شعبي طربي حيث يلتقي فيه الديني بالنيوي..والزجل العيطي ليس كما يتوهم البعض أنه كلام رعاة سدج، تستدعيه المواقف العابرة، والفكرة السريعة والحياة الفطرية، والصور السطحيةوإن كانت أولياته كذلك، لكنه فنا ناضجا مكتملا ، أزجال نُسجت بعبارات رنانة تتجه نحو سبر أغوار المشاعر الجياشة، التي تغمر الذات وتسعى إلى لفظها حارة بواسطة لغة عميقة وجارحة ليشرك الفنان المغني -الشيخ أو الشيخة- في أحاسيسه المتلقي، غامرة أفقها المعجمي والدلالي بملفوظات ومقولات مستلهمة من القاموس الشعبي المتداول، مغنية بذلك الصور الشعرية بما تزخر به هذه المقولات من إيحائية وبلاغة، كما أنه غناء تثقيفي توعوي ووعظي..وفن عاطفي جمالي وأيروسي.
ونجد فن العيطة حاضرا منذ سنين بعيدة كطقس فرجوي في المسرح الحي “الحلقة”، حيث كانت مجموعات فن العيطة من رباعة شيخات، وتنائيات أو فنانين بمفردهم يجوبون الأسواق الأسبوعية أو ساحات عمومية كبرى بمدن مغربية عريقة مثال “ساحة جامع لفنا بمراكش، ساحة السراغنة بالدار البيضاء، ساحة الذهيبية بسطات، ساحة سيدي عثمان بأبي الجعد…)، وكذا بفضاءات عمومية خلال مواسم التبوريدة، ومواسم الأولياء والصالحين، ونجدهم أحيانا يطوفون بدواوير ومداشر نائية، ومن بين الفرق العيطية التي اشتهرت بفن الحلقة هناك مجموعة المخاليف ومجموعة أولاد الخبشة ومجموعة أولاد حادة، ومجموعة أولاد أحمر …بفضاء ساحة جامع الفنا بمراكش، حيث نجد هذه الفرق العيطية تقدم للجمهور من مختلف الطبقات الاجتماعية، ومن مختلف الأجناس والجنسيات والديانات، وبمختلف الأعمار رجالا ونساءا وأطفالا، فرجة مشاعة بالفضاء العام يمتزج فيها الديني بالدنيوي، هذه المجموعات الغنائية نجدها متمكنة من فنها تؤدي مختلف أنواع العيطة، حيث تبدأ فرجة الحلقة بقراءة الفاتحة، والدعاء لشخص الملك بالحفظ والرعاية ودوام الصحة، حيث يعتبر شخص الملك مقدسا، والدعاء للبلاد بالرعاية الإلهية من كيد الكائدين والنماء واليمن والازدهار.. والدعاء للحضور وللمريض بالشفاء وللمحتاج، ثم تبدأ الفرق في الأغاني ليجود عليهم المتفرجين بإكراميات من الجمهور المتفرج كل حسب استطاعته، وبأمر من الشيخ العيطي قائد الفرقة “المقدم”، هذا الفنان المغني الذي يتوجه بسيل من الدعاء للشخص المتكرِم، كما يطلب المقدم من فرقته غناء مقطع من العيطة التي يعشقها كأن تكون عيطة مرساوية أو حوزية أو عبدية أو جبلية…وتتخلل هذه الفرجة عروضا فكاهية ومسرحية يؤديها أفراد المجموعة، وسكيتشات هزلية (العروبي ولمديني، المسلم والنصراني، الحماة والكنة..وغيرها من السكيتشات الهزلية الساخرة التي فيها حكم وعبر، ودروسا تفيد المتلقي، ونجد أحيانا ذكورا يلبسون أزياء نسائية ويقومون بالرقص على أنغام العيطة، وتختم الحلقة بالفاتحة والدعاء كما بدأت. وما تقوم به الفرق العيطية بالحلقة، نجد له مثيلا في معظم الحفلات والأعراس.
هذا من ناحية حضور المقدس والمدنس في فرجة العيطة، أما حضورهما في النص الشعري العيطي فنجد ذلك يختلف من عيطة لأخرى، كما نجد الكثيرين من المستمعين لفن العيطة لا يستبينون كلماتها ولا يستوضحون عمقها اللفظي تلك الأشعار والعبارات التي تتغنى بها الشيخة أو الشيخ المنشد، ويكتفي البعض بالاستماع والاستمتاع للموسيقى العيطية لوحدها، ولكن المتعود على هذا الصنف من الشعر الشعبي التقليدي يستلذها ويتذوقها جيدا، ويستمتع بترديدها وما فيها من عبر وحكم وقيم إنسانية، وما لها من معاني ودلالات، فداخل النص العيطي الواحد يجتمع العاطفي بما هو اجتماعي وسياسي وديني، حيث يقترن المقدس بالمدنس، فمثلا نجد الشاعر العيطي في عيطة “الغزال” من العيط المرساوي يتغزل بمحبوبته بعبارات وألفاظ أيروسية، وينتقل إلى وصف الليل، والخمر والخيل، بصفة هذه القصيدة هي في الأصل عيطة عاطفية وجدانية لكن في نهاية هذه العيطة فهو يبدو كمتصوف زاهد يعلن للمتلقي دينه بصفته إنسان مسلم ويوحد الله يطلب هدايته ويرجو ومغفرته وتوبته، كما نجده في هذا المقطع من عيطة الغزال:
أهياوين أهياوين..ايلي ياييلي
سمعتو علاش عيطت أنا…هيا واهيا
سيادي لا اله إلا الله…ايلي ياييلي
ياو النبي رسوال الله…هيا واهيا
يا مالي المعبود الله والنبي سيدي ها بابا….سيرا واهيا
مالي المعبود الله…لا ثاني سواه يا سيدي…واهيا واهيا
ما لي نمجد ونعبد…سيدنا محمد يا سيدي …سيرا واهيا
مالي مزين الصلاه…على النبي سيدي يا سيدي…وايلي ياييلي
سيدي مول الجود يجود…ربنا موجود يا مالي…سيرا واهيا
طالب مولانا الكريم…الرحمان الرحيم يا سيدي…هيا واهيا
قادر ربي يعفو…على اللي تلفو يا مالي….سيرا واهيا
يا مرضي صعيب…أهيا واهيا…ياو حالي غريب…هايلي هياييلي
يا المولى يا المولى …أنت عالم الحال….وايلي هياييلي أنت المولى تهديني
هاهاه هاهاه السماح الله…وايلي هيا ييلي
سيدي السماح الله…هو التواب من غيرو كذاب…واهيا واهيا
آه آه آه آه راجيا في العالي…ايلي يا ييلي
سيدي رجايا في العالي..سيدي حبيبي ما ينساني
ونجد في عيطة الحساب الزعري من العيطة الزعرية،
سميت النبي…عزيزة في قلبي==كيتي في كَلبي…حتى لعند ربي
حالفة حتى نحج…وخا نمشي ندرج==الحاجة مللي حجيتي…شحال عزيتي
القليب وما فيه..ربي اللي مطالع بيه==
بقات فيا فلسطين…كل نهار دفين===حالف مندير العرس..حتى تتحرر القدس.
هذه بعض الأبيات من عشرات بل من مئات “الحبات”، من عيطة “الحساب الزعري”، التي مازالت رائجة، ، كما نجد الشاعر “العيطي الغرباوي”، يصلي على النبي المختار صلى الله عليه وسلم ويوحد ربه على أنغام العيطة، وفي الوقت نفسه يتغزل بجمال معشوقته كما يتضح ذلك في هذه الأبيات من عيطة “الغابة”:
مزين الصلاة على محمد ويا الحاضرين
الزين راه طاصيلة يا المدخوين
مزين الصلاة على محمد في قلبي تنوح
وأنا الزين راه هبلني فين غادي نروح
هاهاه هاهاه اللي جابتو القدرة يشكي لمحبوبو
هاه هاههاه الي طاح في الحفرة يتحاسب بدنوبو
ايلا جاب الله حتى نموت..حفرو قبري ووسعوه..وديرو الحديد عليه
وديرو الشاهد صابرة..وتكون الحبيبة حاضرة..والعياطة حاضرين
أما إذا أخدنا المتن العيطي في العيطة الجبلية، فنجد أغلب القصائد تبدا بالصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وسلم وتنتهي بها، كما نجد كذلك حضور الديني إلى جانب الدنيوي بعيطة الساكن، والساكن هو نوع من الغناء الشعبي يميل ميزانه إلى الإيقاع “الكَناوي”، نسبة إلى فرق “كَناوة”، يجمع بين الموسيقى والغناء والرقص، أشعارا بمضامين ذات نفحة صوفية وبلغة دارجة مغربية عامية، وقد عرفه الباحث الراحل الفقيد الفريد الأستاذ “سي محمد بوحميد” الله يرحمه، بأنه يندرج ضمن الفن الشعبي وهو “بروال” صوفي يتميز بنفحته الصوفية لارتباطه بفرق وطوائف صوفية تمارس طقوسا خاصة، كعيساوة وحمادشة ودرقاوة وكَناوة.. التي كانت تقوم بالاحتفال الصوفي، لتدخل في فصيلة الساكن، وهو نوع من “الجذبة” تختلف حسب كل منطقة ويلتقي في إيقاع واحد متشابه يبدأ بطيئا وخفيفا، ويتدرج في السرعة إلى أن يصل سريعا ومرتفعا جدا، ممثلا في الحركة بالأكتاف أو بالأقدام أو الرأس، كما ترافقه بعض الاستعمالات التي لم تعد تلاءم العصر كضرب وجرح الرأس بالمطاريق أو الشواقير أو الرقص بالأقدام فوق الزجاج أو فوق الجمر المشتعل وهذه الأفعال ليست أعمالا ممسرحة بل طقوسا تريد أن تبين بعض الخوارق لدى البعض من الممارسين والتابعين فقط (جريدة الاتحاد الاشتراكي يوم 07 ماي 2002).
ويضيف الباحث الأستاذ “التهامي الحبشي” في بحثه؛ مؤلف ( قراءات في فن الساكن الشعبي)، بأن عيطة الساكن هي غناء بدوي شعبي يصب في خانة الأنماط العيطية ويتميز بذكر مناقب وبركات كرامات الأولياء والصالحين، وتذكير السامعين بقوة الخالق وضعف المخلوقين، وتذكيرهم بيوم الحساب واليقين، وبأفعال السحر والشعوذة والساحرين الذين لا يفلحون، والحث على أفعال الخير والصلاح والعبادة والدين.. وهذه العيطة هي نوع عيطي لا يتميز بخاصية التركيب، والكلام فيها مركزا أساسا في تمجيد مكارم الأولياء والصالحين ومقترن بالطوائف الدينية والزوايا كالزاوية القادرية، والتيجانية (هداوة أتباع سيدي هدي)، وحمادشة أتباع (سيدي علي بن حمدوش)، وعيساوة أتباع ( الشيخ الكامل الهادي بن عيسى)..وغالبا ما يتم غناؤها بعد أداء بعض الأنماط العيطية البسيطة أو المركبة حيث يبدأ بالفراش وبالإيقاع الخفيف إلى الغطاء الكثيف، في شكل إيقاعات سريعة وقوية، يصاحبها رقص خاص يمتد فيه الجسد، هذا الجسد الذي ينتصب إلى الأعلى فيدعى ب”السماوي”، أو إلى تحت عبر الدك بالأرجل على الأرض “الكَناوي والحمدوشي”، وهو ما يعبر عنه شيء كامن بالدواخل تفصح عنه بعض الطقوس والتمظهرات الجسدية الغارقة في “الجذبة” أو “الرعدة” أو “التحييرة”، وضرب الصدر العاري بكلتا اليدين، وغرز الخنجر أو القضبان الحديدية أو الإبر بالوجه، وشرب الماء المغلى، والتلفع وملاعبة الأفاعي والثعابين، وتعرية الظهر وحمل النباتات الشوكية على الأكتاف، والصياح بأعلى الأصوات أو الهمدة التي تسبقها صرخة كبرى إعلانا عن نهاية وصلة الساكن.
والاستحضار الكثيف لأسماء الأولياء والمتصوفة، إنما يدل على تمكن الوازع الديني والجهادي من نفوس الرواد الأوائل لفن العيطة الأشياخ والشيخات الذين رسخوا وجوده، ولكن ورودها المتأخر على ألسنة الشيوخ والشيخات المعاصرين ربما كان قد أدخل في باب التقليد والتكرار منه في باب التشفع وطلب التقرب..ونظرا لسهولة حفظ المتن الشعري والتراكيب اللحنية والإيقاعية البسيطة لعيطة الساكن وسهولة الارتجال الشعري فيها، صارت الأكثر تداولا بين مختلف الفرق العيطية والمجموعات الغنائية الشعبية، حيث عرفت فترة نهاية الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، فورة لهذا النوع العيطي، ونجد عدد كبير من أفراد المجموعات الشبابية ” أوركسترا وربايع شيخات، عبر مناطق مختلفة من المغرب اعتمدوا على إيقاعات وألحان الساكن، واستحدثوا كلمات تمجد الأولياء وتتغنى بالأضرحة والمزارات، حيث كل مجموعة بدوار أو مدشر أو قرية أو مدينة تتغنى بذلك “الضريح ” المبني بها.
وبحكم أنني شيخ للعيطة ممارس لعيطة الساكن، عازف كمنجة “كوامنجي” ومغني للسواكن، فخلال لحظة الممارسة أجد نفسي أعيش ذلك الجو الروحاني مندمجا مع صخب الجمهور المهيأ لهذه”الجدبة”، وبما أنني في تلك اللحظة أكون قائدا لهذه الموسيقى التقليدية العنيفة “الحضرة”، يتحتم علي أن أكون يقظا حذرا وحريصا كل الحرص على ضبط اللحن البكائي الفجائعي النائح بواسطة أنغام الكمنجة في موازنة عالية للأوتار في ومقام موسيقي مرتفع “مساوية طالعة”، ويتوجب علي ضبط التنقلات الموسيقية بين الأشعار المغناة والموسيقى الصامتة “الخيلاز” عاملا أن أحافظ على الإيقاع القوي الخفيف، فهناك من لا تهمه الكلمات المغناة، بقدر ما تهمه تلك الموسيقى النائحة الناذبة “الساكنية”، كما ينبغي التركيز على مواصلة وطيس الجذبة حاميا “الحيرة”، حيث يختلط الرجال بالنساء، وذلك بإطالة المدة الزمنية لكل “وصلة ساكنية”، وأن أراقب ما يجري داخل هذا الفضاء الروحاني الذي تختلط في الخرافة بالحقيقة، حيث يصاحب هذه الموسيقى الصاخبة رقص عنيف، والتكبير والصلاة على النبي، وطقوس قد تبدو غريبة، (الصراخ والتلفظ بكلمات مبهمة، حالات إغماء، شرب الماء الساخن، غرز الإبر والأشواك في الجسم، الهجوم على كل شخص يلبس لباسا أحمر وعظه، أكل اللحم نيئا، هياج وقضم الزجاج بالأسنان…).. أكون حينها في تلك اللحظة منتشيا ينتابني شعور غريب بأنني ناجح في المهمة المنوطة بي، أعتقد أنه شعور طبيب يرى مباشرة مفعول دوائه يسري على مرضاه..لأختم الوجبة العيطية بخاتمة “سوسة” من العيط الحوزي، وذلك لأهيأ المتلقي للاستعداد للتوقف، هذا التوقف الذي عادة ما يليه حالة إغماء لبعض المتفاعلين من الحضور، وتتبعه راحة وسكينة “لصحاب الحال”.
وهناك طقوس روحانية كانت تُستعمل فيها العيطة كأداة لعلاج بعض الأمراض “الصرع، المس بالجنون، التسمم أو ما يسمى ب”التوكال”، أو فك عسر العمل بعيطة الساكن أو ما يسمى “بليلة الجدبة”، حيث يقوم أهل المريض بحفلة داخل مسكنهم تدبح خلالها دبيحة ( ثور، كبش، جدي..) وتدعى المرفودة يأكل منها الكل، وتستقطب فرقة عيطية لاحياء هذا الطقس وتنشيط الليلة بعزف وغناء “عيطة الساكن”، ويقام الحفل بالليل حيث يفرض في جميع أفراد الفرقة المنشطة أن يكونوا على طهارة متوضئين وضوء الصلاة، وكذلك بالنسبة لجمهور الحضور بدعوى أنه إذا كان الشخص نجسا غير طاهر قد يمس بالجن، أو قد يتعرض للاعتداء من طرف المريض الذي يمكن أن يكشف سر نجاسته، ويكون الشخص المريض مهيأ ومستعد لهذه الطقوس، حيث خلال العزف والغناء تنتابه نوبات صرع تتخللها رعشة بالجسم، وفي فترة يغمى عليه، وفي هذه الحالة لا يستطيع المرء تحريك هذا الجسم إلا عن طريق موسيقى العيطة بذكر وتمجيد أولياء الله الصالحين بمجموعة من السواكن مثال: “بوعبيد الشرقي، مولاي الطاهر، مولاي عبد السلام، بوي رحال، بويا عمر، ميرة الحارتية، ميمون، الباشا حمو، عايشة، السماوي…”، وحين يسقط الشخص المريض رجلا كان أو امرأة فهو لا يستطيع الكلام، لكن يشاع أنه يسمع بشكل جيد ما يدور حوله إلا أنه لا يستطيع الإجابة على أسئلة الشيخ العيطي المعالج بل يجيب المريض على أشياء أخرى وقد يرد بلغة أجنبية لم يسبق له أن درسها أو نطق بها، وهنا في نظرهم يكمن سر التأثير النفسي للموسيقى والغناء العيطي في المعالجة، إذ حالما تسمع عيطة الساكن يبدأ المريض في التحرك ويكون في الأول بالزحف البطيء ثم يتدرج إلى أن يصبح عنيفا على إيقاع العيطة الصادحة بالموسيقى الصاخبة وقرع البنادير الداوية، إذ يكون تأثير هذه الموسيقى كبير جدا على المريض لدرجة أنه أحيانا ينهض ويشرع في القفز أو ضرب رأسه مع الجدران أو مهاجمة من يلبس لباسا الأحمر.. وتستمر الموسيقى حتى إعياء المريض وسقوطه أرضا فيتقدم إليه رئيس الفرقة “المقدم”، بتدليك رأس المريض ويديه وأصابعه، ورجليه مع سحب أصابع الأطراف وكأنه بهذه العملية يسحب المرض من جسم المريض أو يخرج الروح الشريرة من جسمه. وبذلك يشفى المريض وعليه أن يعيدها مرة كل سنة ويسمونها أحيانا بالعادة.
كما أتذكر وأنا شاب بدوي في مقتبل العمر بين سن العاشرة والثانية عشر، بداية ثمانينات القرن الماضي، أيام الجفاف والقحط كانت تفد إلى دوارنا بالبادية بريف أولاد سعيد اقليم سطات، مجموعة من المغنيين الجائلين تحت دريعة “شيخات العيطة” أو ما يسمى “لمغنية”، وبمفهوم آخر “عبيدات الرما” بدعوى أنهم ناس شرفاء من واجب القبيلة كرمهم وحسن ضيافتهم مقابل فرجة ودعاء للاستسقاء بالغيث..، وكانت تضم الفرقة “الرباعة” أشياخ وشيخات، كل مرة يختلف عددهم قد يكون من ثمانية أفراد وما فوق، وغالبا ما يكون أربعة أشياخ وأربعة شيخات، حيث تضرب الخيمة “القيطون” قرب منزل أحد الأعيان بالدوار أو وسط مراح الدوار، أو بالبيدر “الكَاعة”، وكانوا غالبا ما يقضون بكل دوار ليلة أو ليلتين إلى أسبوع كامل، وكانت تبدأ طقوس الفرجة الفنية من غروب الشمس إلى وقت صلاة الفجر وأحيانا تبقى إلى حين طلوع الصباح، تبدأ الفرجة بعد صلاة المغرب، بالتعرف وتقديم الشاي والحلويات بين الحضور والفرقة العيطية تتخللها تدخين للكيف والحشيش والسجائر، وبعد صلاة العشاء، تبدأ السهرة الليلية بقراءة الفاتحة والدعاء بالخير واليمن وسقوط المطر..ويتفضل عليهم الأشخاص المكرمون بالأموال، وكلما سلمهم شخصا مبلغا على قلته يتوجهون إليه بالدعاء والشكر، ثم تبدأ الفرجة الغنائية حيث يستهلها الشيخ الآلاتي “كومنجي، وتايري، غياط..) بالتقاسيم، وأصوات تسخين البنادير والطعارج..بعدها ينطلق السمر والسهر الغنائي العيطي وما يتخلله من عيط ورقص .. وكانت ترافق هذه الليالي أعمال إجرامية كالقمار داخل خيمة الشيخات، وتنقلب الخيمة من الفرجة العيطية إلى مكان للدعارة وممارسة الجنس المدنس، حيث يستغل بعض البدويون المكبوتين ضعف وفقر وبؤس هؤلاء النساء الشيخات، ويمارسون عليهن شدودهم الجنسي، بمباركة من مرافقيهم الأشياخ.. فيتناوب الأشخاص في ممارسة الجنس على الشيخات وبرضاهن مقابل مبالغ مالية زهيدة، ويتم ذلك بالقرب من الخيمة أو بجانب نادر تبن قريبا من المكان، ينتظر غيره دوره، وقد يمارس على الشيخة الواحدة عدد من الرجال بل من الذكور حيث قد يناوب في تلك الممارسة المشينة الأب والإخوة والأعمام دون أن يدرون بذلك وخاصة إذا كانت ذات جمال وحضور. ويحصل هذا بمباركة رجال السلطة بما فيهم المقدم والشيخ.. فكان ما يحصل عليه الشيخات من مال من هذه الممارسات الجنسية يقتسمنه مع باقي أفراد المجموعة، وهذه السلوكات هي التي زادت في احتقار ودونية هذا الفن.
وعلى الرغم ما قدمت المرأة “الشيخة” لهذا الفن، فإن المجتمع غالبا ما يحشرها في زمرة ذاك العالم الموبوء الذي يساوي عن حق لا غبار عليه بين الشيخة والمومس. ولها نصيب كبير في هذه النظرة، وهي تتحمل مسؤولية تصرفاتها، فقد نجد الشيخة تشعل سيجارتها وتنفث دخانها وسط حشود الجماهير، وتتبادل السباب والشتائم والقفشات مع الرجال بلغة ساقطة وبلهجة السرير، وتشرب أنواع الخمور أمام الملأ ضاربة للعادات والتقاليد عرض الحائط، وهي لا تقف عند هذه الأفعال التي تزري بها فحسب بل تزيد عليها باختلاق سلوكيات داعرة أخرى يصعب السكوت عنها في مجتمع يدعي أنه محافظ ويتشبت بطهرانية مستحيلة..فهي نفسها تعترف أنها تعيش خارج السرب وتتعدى دائرة الحدود الأخلاقية والاجتماعية السائدة في المجتمع، وبهذا تتحول إلى امرأة متمردة في نظرهم غير صالحة تهدد نظام القيم والأخلاق، وكأنها جسم غريب مريض معدي يخشى انتشاره في الجسد الاجتماعي وخاصة في الشطر الأنثوي منه.
وكيثرة هي الأغاني الشعبية ذات الإيقاع البسيط كما هو الشأن ببراويل العيطة الشيظمية، التي يمتزج فيها المقدس بالمدنس، حيث نجد الشيخة أو الشيخ المغني يمزج بين المقدس والمدنس، كتلك الأغنية التي برع فيها نجم العيطة الغرباوية الراحل الشيخ الأمازيغي لمغاري ميلود، والشيخ الستاتي عبد العزيز، والشيخ الفنان الراحل محمد رويشة، والشيخ عبد الله الداودي، والشيخة خديجة البيضاوية وغيرهم، وكأنهم بها ينفسون على ضيق صدورهم، وهي بمثابة دعوة الشيخ والشيخة العيطية للتوبة، فيها دعاء وابتهال وتسول إلى الله سبحانه وتعالى أن يمحي زلات الفنان ويتجاوز عن سيئاته ويساعده في محنه، وكل هذا على اهتزازات بطون وأرداف الشيخات وهذا مطلعها:
نبدا بيك يا سيدي يا ربي يا العالي…يا مول الرجا والرحمة أنت اللي فبالي
أنتاي العالم بيا نشكي ليك حالي.
كريم يا الخالقني جود..الكريم يا الباليني توب وفاجيها عليا
الكريم يا الخالقني يا مولانا الدايم…يا خالق الما والصحاري يا خالق النعايم
برحمتك جود عليا وأنتي الحاكم
لا إلاه غيرك يا جامع حسن السمية…لا الاه غيرك أنت يا الكريم الغالي
عارف ما بيا وعالم حالي….برحمتك جود عليا أنت الغاني
وقد نجد بعض الفنانين العيطيين “شيوخ” يمثلون دور الشيخة منهم من يتشبه بالشيخة؛ يرتدي أزياء نسائية، ويقص شعره قصات وتسريحات نسائية، ويضع مساحيق تجميلية ويقوم بالغناء بلسانها وحتى بالرقص، ونذكر منهم على سبيل المثال؛ الشيخ عبد الرحمن الخمسي في العيطة الجبلية، والشيخ بوشعيب البيضاوي، والشيخ عبد الله البيضاوي، والشيخ المصطفى البيضاوي في العيطة المرساوية، والشيخ فاضل العبدي في العيطة العبدية …وغيرهم، ومنهم من لا يزال يقوم بهذا الدور، كما أن من بينهم من يفتخر بهذا العمل وصاروا يخرجون خرجات عبر مواقع التواصل الاجتماعي بتسجيلات “فيديو”، كما نجد أن بعض الشيخات تقمصن الدور الذكوري بأزياء رجالية وعزفوا على الكمنجة بصورة رجالية، وأدوا وأبدعوا وأمتعوا في فن العيطة ونذكر منهن: الشيخة التايكة الحوزية، الشيخة مينة الزعرية، والشيخة زينة الداودية.. وخلال صيف سنة 2007، ظهرت في الساحة الفنية المغربية بمدينة الدار البيضاء، مجموعة رجالية في صيغة أنثوية تسمى فرقة “كباريه الشيخات”، يغنون العيطة في أثواب نسائية؛ قفاطين وشرابيل وقصات شعر، وجوههم مزينة بمساحيق تجميلية فاقعة الألوان تشبيها بالشيخات، يغنون بعض من العيوط السهلة الأداء والبسيطة الإيقاعات الموسيقية والتركيبات اللحنية، حيث قاموا بمشاركات فنية في مهرجانات وطنية، ولقيت هذه الفرقة ترحيبا واسعا من طرف شريحة شبابية من الجمهور تحتضن الحداثة. واللافت للانتباه أن هؤلاء الأشياخ الذين يتقمصون دور الأنثى في غناء العيطة، نجدهم حتى في حياتهم اليومية وطريقة كلامهم وحركاتهم يشبهون النساء. ومنهم من أعلن مثليته الجنسية، ومنهم من توفي على اثر عمل اجرامي تشوبه شبهة المثلية الجنسية ولو دون اعترافات من الأضناء الفاعلين جريمتي قتل كل من “الشيخ عبد الله البيضاوي، والشيخ فاضيل العبدي..).
هذه بعض النماذج بين ثنايا المتن العيطي وداخل فضاء الفن العيطي، التي يتداخل فيها الديني بالدنيوي، فأغلب الشيخات اللواتي خرجن إلى هذا الفن، جلهن مغضوب عليهن من طرف المجتمع المغربي، من طرف الأهل والأقارب ويشعرون أشياخ وشيخات أنهم مقصرين في دينهم ومذنبين.. ونجد هذا المجتمع الذي يستمتع بفن العيطة ويؤثث هذا الفن التراثي أفراحهم ولياليهم، يعتبرون الشيخات نساء خارجات عن طاعة المجتمع والعائلة، هذا المجتمع الذي لا ينصف الشيخة ولا يهبها صفتها الفنية الحقيقية ومكانتها الأنثوية داخله، حيت نجد أن الشيخة قد تمردت عن ظروفها المعاشة وخرجت بطريقة فنية تعبر عن سخطها وتعري وجهها الذي لفحته نيران الظلم والاستبداد والاحتقار، فهي بفنها تعبر عن حالها وعن الظروف القاهرة التي عاشتها خلال فترة من حياتها، فكل الشيخات يعبرن في غنائهن عما يتعرضن له من ظلم وقهر واحتقار..
وأخيرا يمكننا القول بأن فن العيطة، هو فن تراثي أصيل، ظل مخلصا لبيئته ومحيطه البشري والطبيعي بمناطق مختلفة بالمغرب، بل اكتسح جل الطبقات الاجتماعية، سواء من خلال الموضوعات المتنوعة أو الإيقاعات والأنغام…الشيء الذي يؤكد أصالة هذا الفن وانغراسه في الوجدان الشعبي المغربي، ويعطيه مشروعية الانتماء بكل جدارة واستحقاق إلى خزان فنوننا الشعبية التراثية الأصيلة. وبصفتي فنان شعبي شيخ للعيطة،كومنجي ل”رباعة الشيخات”، ومغنيا ومهتما بهذا التراث، سأظل وفيا ومخلصا لهذا الفن، بصفتي البدوية، ذلك الرجل الخشن الذكوري، لقد منحتني نشأتي البدوية تعلقا كبيرا بهذه الموسيقى، وإني أحمل على عاتقي إظهار ارثنا الحضاري العريق في أعمالي الفنية الغنائية، كما ستكون العيطة حاضرة في كل كتاباتي الأدبية السردية؛ من بحث ومقالة وقصة ورواية..فهي بالنسبة إلي مصدر فخر واعتزاز ونقطة قوة..
وختاما لهذا الباب نختمه بمقطع من عيطة “الله مولانا يا الله” وهي “عيطة شيظمية”، عبارة عن “بروال” تغني فيها الشيخة وتنقل للمتلقي أنها مؤمنة بربها وتوحد الله، وأنها مسلمة، تطلب العفو من الله. وهذا مطلع الأغنية:
الله مولانا الله…الله مولانا الله
راني آمنت بالله ما بقى دنب علي…والله يا الله
راني نذكر الله هو اللي عارف مابيا…الله يا الله
نشهد بربي وسيد النبي…نشهد بربي وسيد النبي
لا الاه إلا الله ما خفاتو خافية…الله يا الله
سير يا اللايم لا تلومني….سير يا اللايم لا تلومني
الرحمن الرحيم…رحمتو تلطف بيا..والله يا الله
وكما نجد الشيخة تغني في عيطة “اللي بغا حبيبو” من العيطة المرساوية، وهي تؤكد أن حبها المادي لمعشوقها كبير ولا حدود له، وبأنها لا تحتاج لوسيط أو شفيع من البشر عند الله، وأن التوبة والعفو بإذن الله سبحانه وتعالى ،كما في هذا المقطع:
اللي بغا حبيبو…يطلع للرباط.. ويشكي ويجيبو…ويصبر لللومة وكلام الناس
أنا لباس ياودي لباس…الله يابابا ما يكون باس …عندك يا سيدي…سيدي كلشي قريب عند ربي
اااه ااه اااااااااهه العفو من الله
بيني وبين غزالي…جمعنا حب كبير
وبيني وبين العالي…ما نحتاج وزير