نجم الدين هاشم
يطل علينا شهر ابريل وتحل في ذات الشهر ذكرى رحيل الشاعر” الساحر “محمد مفتاح الفيتوري الذي ارتحل عن دنيانا في ابريل 2015 وقد لقب بشاعر افريقيا والعروبة لما حملت أشعاره من ملامح تتقد بصهر الحس الافريقي والمفردة العربية الرصينة .
ولأن التنشئة الاولى توحي بتشكل المبدع فقد كانت نشأة شاعرنا الفيتوري تنبيء بميلاد شاعر كبير يحمل الجينات القومية في مفاصل راياته الشعرية وهو المولود في السودان بغرب دارفور لأسرة متصوفة ووالد ليبي وأم سودانية ورحل في صباه مع أسرته الى الاسكندرية ثم القاهرة كما عمل لاحقا في العمل الدبلوماسي وقضى جانبا من حياته في بيروت لذلك كان جليا تماهي تلك القوميات مع مفردات الشاعر فكان الصوت العروبي طاغيا بجانب جذوة العشق والانتماء الافريقي لتنداح تلك الدوائر في فلك المدارات الانسانية عامة .
يااخي في كل ارض عريت من ضياها
وتغطت بدماها
يااخي في كل ارض وجمت شفتاها
واكفهرت مقلتاها
قم تحرر من توابيت الأسى
لست لاعجوبتها
أو مومياها انطلق
فوق ضحاها ومساها
الفيتوري ساحر القوافي القادم من عصر الغزوات الشعرية يأتي إلينا براياته وطبوله، أسمر الملامح بوجدانه الأفريقي الصاخب، وحروفه العربية الفارهة القوام والأبعاد.
في حضرة من أهوى عبث بي الأشواق
حدقت بلا وجه رقصت بلا ساق
وزاحمت براياتي وطبولي الآفاق
عشقي يفني عشقي وفنائي استغراق
مملوكك ولكني سلطان العشاق
هكذا حال الشعراء عندما يتجولون في وادي (عبقر) يغوصون في عمق المعاني وتصطلي أرواحهم بلظى الأشواق حيثما عبثت بهم، وهكذا كان حال شاعرنا الكبير الفيتوري (رحمه الله) يحدق بلا وجه، ولك أن تتخيل أنك تحدق في حضرة من تهوى بلا وجه، فأنت تنظر بنواظرك ولا ترى بعقلك، لأن الرؤيا مرتبطة بالعقل وهذا ما يسمى بحالة (الذهول)، كما لك أن تتخيل أنك ترقص بلا ساق، هنا أنت لا ترقص رقصة (زوربا) الشهيرة ولا رقصة (التانغو) هنا يرقص القلب خفقاناً يدور دوراته في مدارات الهوى وليس بين الضلوع وأنت واقف تتأمل بهذا الكائن الخرافي الذي يقيم في صدرك ويتنقل بين خيام الهوى قلباً صعلوكاً متشرداً…
ويستمر صخب الفيتوري المتقد بجمر الحنين إلى كل ما هو إنساني يصول ويجول براياته الشعرية ولكنه سرعان ما يعود إلى عشقه الذي يحترق ذاتيا ثم يهتف بالعبارة التي أصبحت أيقونة المحبين والعالقين في مسالك الهوى
“مملوكك ولكني سلطان العشاق”
أنت لم تكن سلطان العشاق فحسب، ولكنك كنت ضميرهم الشعري حينما صرحت بنجواهم.
“لا تحفروا لي قبرا “
جالت أبيات هذه القصيدة في خاطري حينما حللت بالعاصمة المغربية الرباط هنالك حيث مستقر الفيتوري ومثواه الأخير، ولعل من المفارقات العجيبة أن الفيتوري عاش بعيداً عن وطنه ثم توفي في المنافي، وكان قبره بعيداً عن النيل وهو القائل:
لا تحفروا لي قبراً
سأرقد في كل شبر من الأرض
أرقد كالماء في جسد النيل
أرقد كالشمس في حقول بلادي
مثلي أنا ليس يسكن قبراً
الانتماء للوطن والجذور لدى الفيتوري يجسد حياةمماثلة بل وموازية لحيواته الاخرى وهاهو يحلق بنا بعيدا في هذا السياق حينما يقول :
هذه الارض التي احملها ملء دمائي
والتي انشقها ملء الهواء
والتي اعبدها في كبرياء
هذه الارض التي يعتنق العطر والخمول
والخرافات واعشاب الحقول
هذه الاسطورة الكبرى …بلادي
ويبحر الفيتوري بعيدا يمخر عباب الاغنيات النبيلة يسرج صهوات القصائد التي تبحث عن وطن للانسانية يسافر في حدقات الحروف يجتاز مسافات الحلم الشريد ثم يصرخ عاليا ومدويا يصرخ يستنجد بدموعه يتوسد الامه وتثخن جراحاته فهو الفارس العائد من زمن الخيبات وهو الثائر الات من عهود الانتصارات ولكنها أي انتصارات ,وأي اغنيات تلك التي يمتزج فيها الصوفي بالرومانسي
دنيا لا يملكها من يملكها
اغنى اهليها سادتها ..الفقراء
الخاسر من لم ياخذ ..منها
ماتعطيه على ..استحياء
والغافل من ظن الاشياء
هي الاشياء
تاج السلطان الغاشم تفاحة
على سجادة ..قش
صدقني ياياقوت ..العرش
ان الموتى ليسوا ..هم
هاتيك الموتى
والراحة ليست
هاتيك الراحة
وياخذنا الفيتوري الى عالمه المليء بالدهاليز وحكايات المحبوب ومناجل الحقول هنالك حيث يكون للاشياء جسد ويكون للاجساد مواكب تهدر في الطرقات بالحب والضياء
عن أي بحار العالم تسألني يامحبوبي
عن ..حوت
قدماه من ..صخر
عيناه من ..ياقوت
عن سحب من ..نيران
وجزائر من ..مرجان
عن ميت يحمل ..جثته
ويهرول حيث ..يموت
لا تعجب ياياقوت
الاعظم من قدر الانسان هو الانسان
القاضي يغزل شاربه لمغنيه ..الحانه
وحكيم القرية مشنوق
الفيتوري حكايات من عشق للوطن وتجسيد للشاعر الثائر المتمرد الحكيم والفيلسوف في ذات الوقت شاعر يوظف الكلمة سلاح يشهره في وجه كل الندوب الفبيحة التي يسعى البعض لرسمها في خارطة المجتمع المتصالح مع ذاته .غنى بحب لافريقيا كما صال وجال يعتز بتكوينه المتجانس المتناغم ومأجمله حينما يحن الى وطنه :
لو لحظة من وسن
تغسل عني حزني
تحملني ترجعني
الى عيون وطني
ياوطني ..
ياوطني يا وطن الاحرار والصراع
الشمس في السماء كالشراع
تعانق الحقول والمراعي
وأوجه العمال والزراع
ياوطني ..
كما استغرقتني هذه الروائع كذلك، وأنا أنظر إلى حالنا في هذا الزمان بإيقاعاته السريعة وقد حل “السناب محل الكتاب”، و”التغريدة محل القصيدة”، فأضحى الخيال مريضاً وأصبحت الكلمة تئن وتتوجع لحصرها بين الأصابع والأجهزة.
الهوى المغربي
حمل الفيتوري في جيناته حيوات متعددة تحمل سمات البلدان التي تنقل بينها من السودان الى مصر والى لبنان وليبيا غير ان حب المغرب استبد بقلبه وشغف الفؤاد فكان المستقر وكانت الزوجة وكان الأبناء وكان الحب الأخير لهذا الفارس الدرويش الجوال وكانت الرقدة الأخيرة حيث لفظ أنفاسه في احدى مستشفيات الرياض وتوسد ثرى المغرب معانقا تلك الأرض التي حمل لها كل الوفاء وتغنى بطهرها وجمالها .
نعم للتقنية نعم لعصر السرعة ولكن ألف نعم للقلوب النابضة بالحب والسلام وألف نعم للكلمة الموشاة بصدق الشعور، وألف نعم لسحر القوافي وجنون الشعراء وللحرف الذي يتوهج ويضيء ويبرق ويومض اشتعالاً في ذواتنا وحيواتنا، دعونا نشذب الإحساس ونهذب الحزن كما الفرح ونعتلي ذرى المجد بصدق الشعور النبيل الجميل.