للشاعر عبد العزيز حنان
هدية لكل المغاربة المحتفلين باليوم العالمي للمرأة.
هدية للجيل الذي يجهل الكثير عن النماذج المشرقة
من النساء المغربيات ، اللائي جسّدْن حضور المرأة
دون بهرجة ، و دون تلميع مُزيّف.
إلى أبناء الراحلة و أحفادها و من عايشوا رحلتها و محنتها ….
أقدم ثريا السقاط من خلال كتابها : قضبان و مناديل…
*******
ثريا السقاط …الشجرة الوارفة ….، الجذور و الامتداد
من خلال كتابها مناديل و قضبان
===
إلى الراحلة ثريا السقاط .
…….
بوركت بطن ..،
من فرحة ،و أمل حملتك .
و رحــــــــــــم ،
من ألـــــــــــــــــــــــــم…،
و أعراس عاشقة أنجبتك .
بوركت تربة .،
بين حباتها ….
سجى الجسد .
و أرض ….
دون البطحاء …
من شرف ، ضمتك .
بوركت أصــــــــــــــــــــلا ..
جــــــــــــــــــــــــــــذورا …،
تعانق مهد الأرض .
و سلسبيلا ..
من عذب قطراته….،
سقـتـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــك .
هي الأشجار …،
جذوعها تشتد ،
و أنت الصبابة ،
و عشق الأرض ..
و اللامتناهي… من فيضها قوتك .
فاشرأبت ظلالك ..
أعراس وطن .
تعلو زغاريدا ..
تسمو تراتيلا ..
و في محراب العشق ..
صــــــــــــــلاة وفـــاء …
و تــبــتـــــــــــــــــــــل رددتــــــــــــــــــــــــك.
شجرة أنـــــــــــــــت .،
جذور ..
جذع ..
أغصان ..
ظلال …
فطوبى لرحم ..
من فيضه أنجبتك .
و لأرض ولادة….
لبنيها الشم …
قربانا أهدتك .
عبد العزيز حنان
الدار البيضاء في : 2015/04/23
******************************************************
مناديل و قضبان ،
ليس قصة بالمفهوم التقليدي للقصة . كما ذهب إلى ذلك البعض ، و لا هي كذلك حتى بالمفاهيم المستجدة لهذا الجنس الأدبي …
مناديل و قضبان ،
شهادة مرحلة زمنية من تاريخنا الحديث ، شهادة حية بدون رتوش و لا أقنعة ..، بسيطة ، صادقة من غير تعقيدات أكاديمية موغلة في المصطلح و التأويل .
هي شهادة حية ناطقة بما كان ، تقدمها الراحلة ثريا السقاط. تمتد على مسافة ثلاثة عقود هي من أهم سنوات تاريخنا المغربي الحديث ، بما عرته من أحداث لست مؤهلا للحكم عليها .
و قيل الإبحار في رسائل الكتاب و ما تقدمه ، أقف لحظة عند عنوان هذه المداخلة : ثريا السقاط … الشجرة الوارفة ….. الجذور و الامتداد .
الجذور : فاس ، و ما أدراك ما فاس ……إن كثيرا من جيل ما بعد الاستقلال ( بداية من أواخر الستينات من القرن الماضي حتى اليوم ) لا يعرف حقيقة ما تعنيه المدن العتيقة المغربية و الأدوار التي قامت بها على مختلف الأصعدة . لأن من أكبر الجرائم التي حصلت في حق هذه الأجيال ، فصلها عن ماضيها حتى القريب منه بمررات شتى … تحولت معها بعض هذه المدن إلى مجرد أطلال يزحف عليها الموت ، و أخرى أضحت مجرد دمية مترهلة يتفرج عليها القادمون من وراء الحدود ….
و فاس نموذج لهذه المدن الأخيرة .. إذ كانت قلعة علمية بكل ما تحمله القلاع العلمية المعروفة عالميا اليوم .. المدينة ، كل حياتها مشدودة و مرتبطة بالقلب ، أقدم جامعة في العالم لم تنقطع فيها الدراسة و التحصيل . هو جامع القرويين كل الأحياء و الدروب و الحومات لها طريق يؤدي بشكل مباشر لأحد أبواب القلب / الجامع ، بكل ما يحمله من قيمة روحية و علمية و حضارية .و العلاقات بين الأسر و الأحياء كان يربطها هذا الرابط المقدس السامي .
و أسماء العائلات المعروفة بفاس و غيرها ليس اسم عائلي فحسب بل هو قيمة علمية و اقتصادية و صناعية و أدبية و نضالية و سياسية و حضارية كبرى … هذه هي جذور المناضلة ثريا السقاط . فاس القلب النابض للمغرب علميا و ثقافيا و سياسيا و نضاليا و التي كانت مهوى كل فعاليات الوطن أليها تشد الرحال و المطايا … هذه جذور الشجرة الوارفة ، ثريا السقاط ثم لا نغفل أن ولادة و نشأة الراحلة تزامن أولا مع أحداث عالمية لها وقعها أرخت بظلالها على المدينة / الإشعاع . وأهمها ما سبق الحرب العالمية الثانية و اندلاعها بكل تداعياتها على الشعوب التي كانت تحت وطأة الاستعمار . ثانيا أحداث داخلية في علاقة مع المستعمر ـهمها الظهير البربري ، تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال أحداث بوفكران و كل ما صاحب هذه الأحداث من تفاعلات محلية و انخراط فيها .. و لعل الروائي المغربي عبد الكريم غلاب صور جزءا من هذه المرحلة في رواياته.. هذه الجذور انضاف إليها عنصر جديد قادم من آسفي ، وجه آخر للمدن العتيقة بكل حمولاتها .. التاريخية و العلمية و النضالية .إنه محمد الوديع الأسفي و الذي تشبع بخاصية الإباء و رفض الخنوع من مسقط رأسه و انتقل إلى مدينة عتيقة أخرى مراكش ، ليحط الرحال بفاس . طالبا و مناضلا و مطارَدا من قبل الاستعمار .. لينقل كل هذا لثريا اليافعة من خلال التدريس و المسرح الذي كان أداة نضاليا استعملها الوطنيون لأبعد الحدود تلكم هي الجذور التي تشربتها الراحلة ثريا السقاط ، علما أن لقاءها بالمناضل محمد الوديع الأسفي لم يكن سنها قد تجاوز مرحلة اليفاعة (14 سنة ).
و منذ اللقاء / الشرارة بين الوديع الأسفي الأستاذ ، المناضل ، المسرحي و ثريا السقاط بدأ جدع الشجرة يقوى و يأخذ صلابته . ففي فترة زمنية قصيرة جدا ما بين سنتي 1951و 1953 ، و هي اليافعة الطرية المشبعة بالحس الوطني بل و المنغمسة فيه ..زارت كل السجون لمعروفة آنذاك في ظل الاستعمار و في مرحلة جد حرجة و صعبة ، مع ما يصاحب ذلك من صعوبات في التنقل و البحث عن المعتقل أو المعتقلين و إيصال المؤونة و الأخبار و المستجدات إليهم و تلقي التعليمات و إيصالها ، إضافة إلة واجهة أخرى و هي متابعة ما يجري في الساحة الوطنية و رصد الأحداث و تأطير النساء و المظاهرات و مساعدة أسر المعتقلين و تقوية صمودهم .إنه مجهود هائل و هائل جدا مع الأسف الشديد لم يعمل لا كتاب السيناريوهات و لا المخرجون السينمائيون في تحويله ألى إبداعات سينمائية تؤرخ للمرحلة بشكل فني إبداعي رغم أن المادة الخام موجودة و متاحة ىو لكن يظهر أن ملايين الدعم لا تعرف طريقها إلى هذا النموذج النبيل .أية امرأة هذه التي تنخرط في كل هذا و تتحمل تبعاته و هي في سن التاسع عشر من عمرها … هذه هي الأنثى النموذج الذي يجب أن يحتدى .. في هذه المرحلة اشتد جدع الشجرة لتنطلق بعد ذلك مرحلة الامتداد . و التي استمرت من حصول المغرب على الاستقلال حتى رحيلها رحمها الله . و تمثلت أهم معالم هذا الامتداد في العناصر الآتية :
1_ استمرار محنة الزوج/ الحبيب مع حكام المرحلة الجديدة
2_ استمرار معاناة السجون و التعذيب في شخص أبنائها :آسية ، عزيز و صلاج الدين مع ثلة من يافعي و شباب الوطن
3 _ استمرار النضال على المستوى الحزبي و الحقوقي
تلكم هي سمات ثريا السقاط .. الشجرة الوارفة …. الجذور و الامتداد
كتاب مناديل و قضبان
كما قلت في البداية ، الكتاب ليس قصة و لا حتى سيرة ذاتية تروم الكاتبة تسجيل مسار حياتها ، بل هو كتاب اختارت الراحلة أن يكون شهادات للتاريخ ، بعد أن كانت رسائله خصوصية بينها و بين كل من الزوج و الأبناء سواء من رحمها أو الذين انضافوا خلال مسيرة النضال رفقة أبنائها ، اختارت أن تبسطها للناس كل النـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاس ….
و كما تعلن الراحلة نفسها عن ذلك : ( هذه مجموعة رسائل ، هي لم تكتب يوما لغرض نشرها … غير أنني و مـع طول المدة ، بدأت أشعر أن ما بـدا لي خصوصيا هـو في الواقع يخفي دلالات أشمل…..و من أجل ذلك أقلعت عن رفضي و صممت على إخراج رسائلي من مخبئها ..) ص 5
هكذا قررت الراحلة أن تخرج رسائلها إلى العلن . و الرسائل تتداخل فيها عناصر شتى ، قد يطغى عنصر معين في رسالة ما على الباقي ، لكن ضمن الرسالة الواحدة تجد فيها الحبيبة ، الزوجة ، الأم ، المناضلة ، الحقوقية …..، لن أثقل على المتلقي بسردها بل سأقدم فقط نماذج جد ، جد مختصرة أترك له فرصة اكتشاف الراحلة من خلال الرسائل ، و من خلال معانقة الكتاب .
و يمكن من خلال جرد لموضوعات هذه الرسائل أن نحدد مسارات خمس هي :
1 – ثريا الحبيبة العاشقة /المعشوقة .
2 – ثريا الزوجة الأم .
3 – ثريا المناضلة .
4 – ثريا المؤمنة ،و حضور الوازع الديني .
5 – ثريا و رحلة السجون .
*********
ثريا العاشقة المعشوقة
هي بنت فاس ، كأية أنثى في يفاعتها لا بد أن يتحرك القلب ، و في حمأة الأحداث و الزخم ينبري الفارس النبيل ، و حتما بالصورة التي رسمت الراحلة في مخيلتها . و في أول رسالة من رسائل الكتاب تسجل الراحلة كيف كان اللقاء ، و كيف اشتعل القلب حبا : (…أنا الصبية التي لا تعرف لهذا لهذا النوع من الحب و لا للزواج معنى ، لم تفكر فيها ، و لم تشعر بوجود الرجال رغم أنها تشاهد المئات منهم كل يوم ، غير أنه في ساعة من ساعاتها السعيدة تقع عينها الشاردة ، عمن ؟؟؟ عن أستاذ يدخل إلى قسم …..فتلحظ في قسمات وجهه معنى الإخلاص ، العطـف ، و الجـرأة ، و بعـد حيـن معنى الحـــب . نعــم إنه الحــب الخالص….، الذي هو نبراسي و هداي ، هنالك و في تلك اللحظة الرهيبة بالنسبة إلي أنا الفتاة الخجولة أستمع إلى دقات لم أعهدها من قبل بين ضلوعي . …..كل هذا دار بخلدي و أنت بجانبي لأول مرة ، تحاورني في كيفية أداء الدور المنوط بي ، و لأول نظرة ، فما أن خرجت حتى وجدت صورتك قد ارتسمت في القلب قبل أن تسجل في العقل …….لم أعد أرى إلا وجهك و لا أسمع إلا صوتك يناديني من صميم روحك إلى صميم روحي .) ص 30
هكذا كان لقاء الطفلة اليافعة بأستاذها ، و هكذا انشدّت إليه ، و كذلك أحبته ثم ، ثم تزوجته عاشقة …، محبة …، ثم زوجة بنفس العشق و الوله الجميل .
و في كل رسائلها إليه لم يخْبُ هذا الإحساس النبيل السامي ،و دائما تبدأها ب : حبيبي الغالي ، و زوجي الوفي ….و تقديرا لهذا الحبيب / الزوج و احتراما له نجدها في أغلب الرسائل بعد العبارة الأولى تخاطبه بالتوقير قائلة : الكاتب الشاعر الفذ …….الشاعر العبقري ……. شاعري الفيلسوف ………ثم تتبع ذلك ب : محمد بن العربي الأسفي .
إضافة إلى هذا ، نجد هذا التعبير الصادق عن الشوق و الحب و الوله الذي تكنه الراحلة للحبيب / الزوج . و بقدر عشقها له ، كان الوديع الأسفي يبادلها نفس هذه المشاعر النبيلة . و يرى فيها تلك المحبوبة النادرة الوجود الغالية .فيخاطبها : ( سيدتي و مـالكة الـــــــروح و القلب …) ص 46 .. ( …أنت تعلمين يا حبيبتي بأنك الحياة التي أحيا بها ، و لأجلك أحبها ……) ص 51 .
و الراحلة كانت لها حظوة كبيرة جدا لدى الزوج ، الحبيب و في إحدى رسائله إليها يقول : ( ….آه ما أضعفني أمام حبك يا عزيزتي ..و ما أضعفني عند رؤيتك . يقولون بأن طول العشرة يميت الحب أما أنا فأقول : إن طول العشرة ينميه و يقويه و يجعله عظيما كالقدر ، خالدا كالروح ، إذا اتحدت الأرواح و امتزجت النفوس ….) ص 53 .
هكذا عشقت الراحلة وأحبت بصدق ، بصفاء، بسمو و كذلك وجدت فيمن أحبت حبا بنفس الصدق ،و الصفاء، و السمو ، و الوفاء . و أترك لكم العودة للرسائل المتبادلة بين الزوجين لتكتشفوا هذا الحب الرائع ، و كيف كان الحبيبان الزوجان يعبران عنه دون مواربة أو خجل بل بسمو قل نظيره . هذا الارتباط كان دافعا لهما لمزيد من اللحمة المقدسة ، و مزيدا من نكران الذات من أجل القضية و الوطـــــــــــــــــــــــــــن
*********
ثريا الزوجة الأم
هي الحبيبة نعم ، و هي الزوجة أيضا التي لا تتهاون في القيام بمهامها كزوجة اتجاه زوجها …رعايته ، الاطمئنان عليه ، البحث عنه في المعتقلات السرية و العلنية ، مؤازرته و التخفيف عنه ، مواجهة كل الصعاب و المشاق و العناء و الاضطهاد من أجل هذا الزوج / الحبيب و هي اليافعة ، تتحمل المسؤولية الجسيمة في عز اليفاعة بشكل نادر الوجود . و تمتد مسؤوليتها إلى أسرة الزوج على البعد ، و هي المتنقلة بين سلا و الرباط و سجون متعددة و بين أهل الزوج بآسفي فتقول في إحدى الرسائل لزوجها : ( … حبيبي ، لقد حللت بمدينة آسفي الجميلة مسقط رأسك و تربة نبتتك و مرتع صباك ….و لكنها رغبة أب ما يحق لي أن أتجاهلها ، و رغبة أب حبيب غال على النفس…..) ص 39
أية أنثى هذه المتعددة الأدوار في هذه السن و في تلك الظروف القاسية !!!؟؟؟
و بنفس الحب و الوفاء كانت الراحلة ثريا ، الأم و في عز شوقها و انهماكها في كتابة رسالة للزوج / الحبيب تختم رسالتها : (… أراني مضطرة لإنهاء الرسالة لأن الأطفال نيام معي و نور الكهرباء يزعجهم ، أقبلهم نيابة عنك رغم عدم علمهم بذلك ….) ص45.
و الراحلة كأي أم بقلبها الرائع لا أستطيع أن أقول – أمام تجربتها القاسية و الفريدة من نوعها و المتميزة في تفاصيلها – إلا أن أدعو كل الجمعيات و المنظمات النسوية إلى تعريف هذا الجيل بهذا النموذج المتفرد من نسائنا .. تعريفهم بهذه الأم الرائعة لتكون قدوة تحتدى في البدل و العطاء و نكران الذات و النضال المستميت دفاعا عن اختيار الزوج و الأبناء و دفاعا عن حقهم في هذا الاختيار و إيمانا قبل ذلك بما اختاروه .كما أوجه نداء و دعوة للمهتمين بالحق الدرامي عموما و السينمائي على الخصوص إلى رصد حياة هذه الأنثى حبيبة و زوجة و أما و مناضلة سينمائيا و دراميا بدل التهافت على سينما الفضائح و العري و الاغتراب .
و أدعو لمن لديه نسخة من الكتاب أو تمكن من الحصول على نسخة منه أن يقرأ رسالة الراحلة ثريا لبنها عزيز الأسفي صفحة 249 ليلامس عظمة هذه الأم و ما كابدته ..
*********
ثـــــريا المـــنــاضـــلــــــــــــــــــة
الرسائل تسلط الضوء عن جانب مهم جدا عن مشاركة المرأة المغربية في النضال و المقاومة و الفعل الإيجابي بشكل عملي . ففي الرسائل المتبادلة مع الزوج محمد الوديع الأسفي تظهر جانبا من أدوار المرأة النضالي . سواء في المرحلة الاستعمارية أو مرحلة ما بعد الاستقلال .
ففي إحدى الرسائل تخبر ثريا الزوج و هو بالسجن و من خلاله باقي المعتقلين من المناضلين بما تقوم به النساء من تحركات و تتمثل في :
1 – الخروج في مظاهرات ضد الاحتلال و أذنابه .
2- الكتابة على الجدران مناهضة للمستعمر و من يساعدوه .
3 – تقديم الدعم لأسر المعتقلين و الشهداء و المنفيين و مؤازرتهم .
4 – البحث عن الأسئلة و خزنها لاستعمالها عندما تصدر الأوامر .
5 – القيام بدروس محو الأمية و من خلالها إذكاء الحس الوطني .
6 – نقل الأخبارو المعلومات إلى المناضلين المعتقلين و تلقي التعليمات فيما يجب القيام به.
7 – رصد تحركات المستعمر و المتعاونين معه و نقلها للمناضلين الوطنيين سواء داخل المعتقلات أو خارجها .
و في رسالة من ثريا لزوجها تسجل استدراكا : ( أخي أخبرك أن الأخت الباتول الصبيحية قد حصلت على مسدس بطريقتها الخاصة سوف نسلمه لمن يستعمله في القريب العاجل .) ص 71.
إنها صورة مشرقة لأدوار المرأة المغربية في أكثر من واجهة و في فترات جد صعبة و حرجة من تاريخنا المعاصر . و أستغرب دائما كيف لمبدعينا على اختلاف جنس إبداعهم ، لا يقدمون صورة المرأة المغربية إلا خانعة مستسلمة لا يهمها إلا التافه من الأشياء سطحية … و كثير من الصور السلبية و يغفلون أو يتغافلون عن هذه الصور المشرقة . النادرة الوجود في التجارب الإنسانية .
*********
ثريا المؤمنة و حضور الوازع الديني
بنت فاس ، المدينة المتعلق قلبها بالقرويين الجامع و الجامعة سيظل حضور هذا الجانب الديني قويا في حياتها بل و سيكون لها عونا و ركيزة قوية تستند إليها كلما تفاقمت الأشياء في حياتها . إضافة إلى اتصالها بمحمد بن العربي الأسفي الذي انطلق من بيئة الدين محور حياتها و نبراس توجهها . ثو دراسته بمراكش و القرويين كل ذلك زا من تجدر على الانتماء الديني الرصين لدى الراحلة .
و تبرز الرسائل المتبادلة بجلاء هذا الجانب إذ تقول في إحدى رسائلها: (…. و لقد فكرت في متانة روابطنا و اتصال روحينا فوجدت ذلك مصداقا للآية الكريمة === خلقكم من نفس واحدة و جعل منها زوجها ليسكن إليها و جعل بينكم مودة و رحمة === حكمة بالغة …. بعيدة كل البعد عن العالم المادي الفاني توحي للأزواج المحبين الأتقياء لتبعدهم عن الخسة و الرذيلة والقذارة التي تصيب الأرواح فلا تنار لها طريق السعادة الأبدية ..) ص40
و في رسالة أخرى تقول الراحلة : (……. فيغمرني عالم من الإحساسات القوية التي تطهر النفس تطهيرا فأنذر أن أصـوم ما شــاء الله لي على قـدر المستطاع …لأنني اتخذت مــن أيام الصـوم قربانا إلى الله العلي القديــر حيـث أشعـر أني على اتصال و ثيـق مع روحـــــك الطاهرة ……)ص 78.
وبقية الرسالة تشع إيمانا راسخا متجدرا في قلب و عقل الراحلة و تقول في رسالة أخرى : (…حبيبي إن المؤمن الصالح الذي يخلص وجهه لله سرا و جهرا لا يمكن أن تهأ ثورته النفسانية حتى تتلقى روحه بروح الله العلي القدير المنزه ..) ص 29.
ثريا و رحلة السجون
أكاد أقول جازما إن الراحلة ثريا السقاط تعتبر أكثر نساء العالم معانقة للسجون دون تردد . من هي هذه المرأة التي عانقت السجون على مدى ثلاثة عقود ؟؟ ربما اللفظ لا يعطي مدلول السنوات ، لنقل ثلاثين سنة .
هي وحدها فعلت ذلك ، بداية مع الزوج و المناضلين معه من أجل الانعتاق من ربقة الاستعمار . ثم و معه ومع المناضلين بعد الاستقلال في سبيل رفض تزوير إرادة الجماهير الشعبية و سرقة الحلم الوطني . و في المرحلة الثانية مع الأبناء و رفاقهم من اجل حلم نبيل حاولوا الدعوة إليه و تحقيقه على أرض الواقع . يكون فيه المواطن إنسانا و الوطن للجميع .. و من أجل هذه المبادئ قطعت الراحلة آلاف الكيلومترات بحثا عن المعتقلين ، ثم بعد ذلك بين المخافر و المعتقلات السرية و العلنية و المحاكم و اخيرا رحلة السجون .من سجن سلا إلى سجن لعلو بالرباط .إلى سجن العادر فسجن القنيطرة وصولا إلى سجن وجدة نزولا إلى سجن علي و مومن عودة للرباط و سلا ثم القنيطرة و مخافر و معتقلات لا حصر لها . رحلة طويلة طويلة طويلة بمسافاتها و معاناتها.
لنا أن نتخيل أنثى يافعة لم تدخل بعد مرحلة الشباب تواجه زبانية الاستعمار في المخافر و السجون بكل شراستهم و غلظتهم و حقدهم على المواطنين عموما و على المناضلين على وجه الخصوص .
لنا أن نتخيل هذه اليافعة تدافع هؤلاء الزبانية تحتج ، تتعرض لما تتعرض له على أيديهم و في قلبها و عقلها قلق على المختفي أو المعتقل أو المنفي و في قلبها و عقلها قضية الوطــــــــــــــــــــــن .
كانت تعيش أجواء الاعتقال و تنتظره في كل لحظة و هي يافعة فتقول في إحدى شهاداتها عن زوجها محمد الوديع الأسفي : ( ….. و في الوقت الذي كانوا يأتون فيه لاعتقاله ، كانوا دائما يجدونه مرتديا ملابسه و حذاءه و هو نائم بملابسه فوق الفراش . نحن كأسرة كنا مستعدين لمواجهة الوضع الجديد …) ض 11.
هكذا عاشت الراحلة و هي يافعة . أتعرفون معنى يافعة … أيها الناس ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
تخيلوا معي أما و في أشد فترات تاريخنا المعاصر حلكة و بطشا ينتزع منها أبناءها أما عينيها بواسطة رجال أو أشباه رجال ماتت قلوبهم . ينفدون الأوامر بعدمية متناهية ، و بمشاعرة جامدة جامدة جامدة أكثر من الصخر لأن الصخر قد ينبث فيه عشب و قد يتفجر ماء و قد..، و قد .، و قد لكن هؤلاء أشد قسوة و جمودا . المواطنون بالنسبة لهم مجرد أشباه بشر ، و المناضلون مجرد جراثيم يجب سحقها و قتل آدميتها .
تخيلوا معي هذه الأم و هي ترى أبناءها يساقون إلى حيث لا تعرف و أصغرهم لا يتعدى خمسة عشر (15) ربيعا …أية أم هذه تتحمل كل ذالك و تقاوم .. بصلابة الخنساء حين بلغها استشهادج أبناءها في الجهاد و بإيمان أسماء رضي الله عنها عندما جاءها ابنها الزبير يشكو إليه تخلي الجموع عنه .
نعم لم تكن وحدها في هذه المحنة ، لكنها كانت أكثرهن تمرسا و تماسكا و استعدادا للمضي في الرحلة حتى آخر المسار مهما كلفها ذلك . تقول في تقديم الجزء الثاني من كتاب قضبان و مناديل : ( …..كانت قلوب الأمهات تنبض نبضات واحدة بنفس الإيقاع .و لقد كانت هناك من توقف نبضها أثناء الرحلة مخلفة فلذة كبدها في يد القدر . و كانت أمهات عانين من ثكل الفقد فخلدن إلى الاحتساب وهناك من بقي فيهن رمق من حياة لا زالت تعاني . مع هؤلاء قضيت زمن رحلة الحريــــــــــــــــــــــة .) ص 109.
و تتفجر عاطفة الأم النبيلة في لحظة من اللحظات ، فتبوح لابنها عبد العزيز بكوامنها ..و تقول : ( ….. و لدي لقد تغلب فيّ الإنسان على كل شيء عداه ،فانسابت دموعي أنهارا …. صارعتُحتى لا أبكي ، صارع فيّ الالتزام بقضايا شعبنا ، و وجوب التضحية في سبيل هذا الالتزام . صارع فيّ هذا َالمبدأَ المشترك . لكن الأم في ّ استجابت ، و مشاعر الاحتضان و الخوف و الحنو و الجب تجمعت فانسابت مشاعري هذه مع دموعي ……) ص 249 . ثم تضيف في نفس الصفحة : ( ….أيها الولد الغالي افتقدتك افتقدتك افتقدتك افتقدتك بمقدار طيبوبتك و حيائك و محبتك و احتمالك . و شق عليّ أن أودعك لمدى لا يعرف أحد هل هو النهاية أم أن بعدُ هناك لقاء …….) ص 149.
و الذي يتابع رسائل الجزء الثاني من كتاب مناديل و قضبان و هي أغلبها من الأبناء المعتقلين إلى الأب و الأم ، يلامس مدى هذا الارتباط النادر بين الأبوين و الأبناء و بين قضايا الوطن التي نذروا أنفسهم من أجلها و تستدعي كل هذه التضحيات .
تلكم هي ثريا السقاط كما عانقتها من خلال كتاب مناديل و قضبان أضعها بين أيديكم كمدخل أدعوكم من خلاله العودة إلى الكتاب و قراءته أكثر من مرة مع محاولة استحضار ذاك الزمن بكل طقوسه ...