سعيد غزالة
(عابر يقلب في أثواب جلبها للوحاته.. أثواب بيضاء وبعضها أسود..)
عابر:
… وإن طال انغراسي في هذا الحيز من أي مكان في هذا اللامكان، فلأن اختياري لعد حبات رمل هذا الوطن تكلفني دما مبدعا لتبرىة نوايانا. من أذنب في من؟ أبريء أنا أم مذنب حين اقترفت ذنب البراءة؟ أم أنت المذنب الذئب المنتعل لحوافر الحملان والمدعي؟ سؤال يؤرق!
من بين الكلمات والجمل والتعابير يبقى الوطن رهين معاهدة! يبق الوطن أغنية وقصيدة ووشاح أم لا يفارق عطره.. يبق الوطن تلك الحكاية التي لا تكتمل أبدا أو أن النوم يلتهمنا ونحن صغارا قبل نهاية الحكاية. وابقى هنا كما كل عبور أرتق حكايتك يا حنَّا.. حكاية حب مسكون بالإنتظار.. حب تمطى وأجهش تصالحا مع الإنسان.. إنه المد في الدم والإفتتان.. حنَّا.. هذا الصراع الذي يمزق في أحلامنا ويشرذم التوق للعتق والعشق أيستطيع أن يداخل اللون في اللون ويكتبني تقريرا في حقي؟ لست سجين حق أو حتى رقما في معادلة هذا القمع الأزرق.. أنا اللون القاني وليس الرسم الفاني.. أنا أنت يا حنَّا بنت يعقوب الرجل الطيب الذي قال لي يوما: يا بني لا تناديني جاكوباً.. أنا يعقوب، لا تلوك اسمي مجاملة وانطق بإسم النبي كما علمتم لا كما تهجتنا هذه الظروف الزفت.. كان رجلا طيبا وعالما وفقيها في فن الحياة.. الحياة يا حنَّا ليست أما أو أختا عانسا وطدت حياتها لتوزيع الحنان على إخوتها.. الحياة مصيدة مخملية.. رمال متحركة أدغال أمازونية وآكلون للحوم البشرية.. الحياة هي السكون الذي يضج بالعبث.. حنَّا تخنقني كلماتي الشاعرية ولأنني شاعر سيء الحظ، اخترت أن أكون رساما ومتغزلا باللون بك لأنك في عرفي أنت عنوان الجمال.. أتعلمين يا حنَّا؟ أعلم أنك لا تعلمين عن حكايانا إلا ما حكيت لك.. لكن هذه الحكاية التي كتبت أول كلماتها سأحكيها لك بلسان محلي:
من زمان وفي مكان ليس ككل مكان.. في أرض قال لي أبي أنها أرض الله ومنزل الوحي.. أرض مقدسة كما قال.. كان هناك طفل صغير جميل ككل الأطفال يعشق اللعب ودائم الإبتسام.. كان الطفل الأصغر في تلك الأرض في بيت من بيوتاتها التي تحفها الأشجار وتتمدد حواليها الحقول والجنان.. كان هذا الطفل الجميل يحب طفلة من الجيران.. حبا طفوليا لا يتنطع إلى حب الكبار الموبوء بالطلبات وكثرة الأوامر والإئتمار.. كان في صباح من الصباحات الصيفية الندية يحمل بين يديه جريدة من سعف نخلة بالدار كانت الوحيدة وكانت عزيزة على الوالد حيث قيل أنه جلبها من الحجاز لينة وأنها شجرة مباركة تؤتي ثمارها كل حين وأوان.. نزع الطفل الجريدة وذهب يشق الوادي والفجاج فرحا ينشد موالا من مواويل الحي وما علق له في البال.. هناك على التلة الخضراء المطلة على البركة المباركة والتي أخبروا أن البراق دابة المعراج خضبت حوافرها بمائها.. كانت بنت صغيرة بلباس ليس كما لباس بنات الحي لكنه لباس به كل ما يروم الاحتشام.. كانت تصغر طفلنا بسنتين وهو لم يبلغ بعد من العمر السبع سنوات.. كانت طفلة تحب أن تصنع التيجان من زهر الأقحوان.. وصل الطفل إلى طفلته التي كانت تستلطفه بود وحنان وهو كذلك كان يجد لديها ذلك الحنان الذي منعه بعد أن طلق الوالد أمه التي لا تلد له إلا الذكون وهو كان يرغب في البنت لأنه كما قيل أن البنت في عرف هذا الوالد أصل العطاء ووجودها بالدار يجلب الخير والبنات هن باب للمناسبة مع الأعيان ورجال الدين.. ومفخرة الحفلات والأعياد.. طفلنا هذا كان يعز عليه أن تبقى طفلته تحت الشمس فكان بهذه الجريدة يصنع مظلة لتحتمي بظلها ومروحة إن اشتد الحر.. كان يحب أن يجلس بجانبها وهي تصنع التيجان ويناولها الزهرات وإذا ما تناقصت يذهب بفرح يقتطفها من الحقل الممتد بلا نهاية.. كانت تلك الصباحات مدرسته الأولى وكانت الطفلة حبه الأول.. في صباح من الصباحات وهو يحاول أن ينتزع جريدة من نخلة الدار استوقفه الوالد يستفسر عن فعلته التي ألحقت الضرر بالنخلة الوحيدة في الحي.. فما كان الرد من الطفل إلا أن قال: هي مظلتي لها من حر الشمس فهي البنت التي تنتظرها أن تأتي.. رافق الوالد الطفل ليرى هذه البنت التي ينتظرها على حسب قول هذا الطفل الصغير.. عند وصولهما إلى أعلى التلة اعتلت وجه الوالد حمرة غضب لم يرها الطفل يوما على وجه الوالد.. انتزع الوالد الجريدة من يد الطفل وجره بقوة عائدا به إلى الدار، نظر إليه نظرة واحدة وبقول حاسم: آخر مرة تعاشر هذه البنت ولن أعيدها أكثر من مرة واحدة.. دمعتان نزلتا وهو لا يقدر على الكلام فالوالد رعب إذا تكلم وزلزال إذا غضب. بقي الطفل ممسكا بالجريدة عند باب الدار ينظر إلى هناك حيث الطفلة الصغيرة تنتظر ظليلتها.. وتنتظر العصفور الذي يلتقط لها أقحوانات تيجان ملوك لن يكونوا في هذا العالم.. وضع الطفل الجريدة قرب النخلة قائلا: أيتها النخلة كم من مرة نزعت عنك جريدتك وكنت أحس أنك تبتسمين.. كنت أسمعك تقولين: خذ مني طرفا مني واذهب فظلي لن يصل من هنا إلى صغيرتك، خذ بعضا من ظلي وظلل ذاك الحب الصغير والطاهر..
بقيت الطفلة الصغيرة تنتظر وبقي الطفل الصغير لا يفارق جريدته وتوسله الصامت رغبة في الذهاب إلى أعلى التلة.. ما يمنعني يا أبي؟ وماذا جنت طفلتي حتى أحرم منها وتحرم مني؟ لا جواب. ومرقت السنون والأعوام مرقا.. واستطالت النخلة وعلا جريدها وصعب الوصول إليه كما كان.. علا الظل بلا مظلولين.. وحط الإسمنت على التلة مستوطنات.. وكبر الطفل يطرد بالحجارة الجدران التي اغتصبت ذكرى طفلته على التلة.
بعد أن كبر علم أن الدين جنى على الحب وأن الأرض جنت عليها قدسيتها.. ولو زرع النخل على التلة لكانت ظلال الحب صنعت المعجزات.
كان أول حب وآخر حلم.. وها هو هذا الطفل بعد أن أعدمت حقول الأقحوان تيجان ملوك تلك الطفلة وغرقت في البركة التي أسنت وخز ماؤها، ليعود حاملا فرشه ولوحاته وقلبه يسائل الزمن المتوقف عن رائحة.. عن عطر.. عن نسمة هواء ضاعت في هذا التيه الإسمنتي.. كبر ليرسم الرسم الوحيد الذي كانت تلك الطفلة الصغيرة قد أوحت له به وهي تغتسل بالبركة في سهوة منه أو لأنه جاءها قبل موعدها.. كان صباحا مشمسا.. وكان حبها للماء ينزع عنها احتشامها ويلبسها لباس العري القدسي.. عري في عمقه احتشام.