أحمد إفزارن
التّقارُبُ بين الشّعوب.. هذا هو المُستَقبَلُ البنّاء..
ضرُورةٌ قُصوَى.. جَسْرٌ بينَنا وبينَ غيرِنا.. بينَ احتياجاتِنا واحتياجاتِ الآخَر..
وعلى هذا الأسَاس، لا احتِلالِي ولا مُحتَلّ.. لا استِعمارِيّ ولا مُستَعمَر.. لا غالِبٌ ولا مَغلُوب.. هذا هو المَبدَأُ العامّ.. مَبدَأٌ تقُومُ عليه العلاقةُ – في عُمقِها – بين إنسانٍ وآخَر..
لا بين استِغلاليّ ومُستَغَلّ..
وجَبت إعادةُ النّظر في العلاقةِ بين الدّول المتَقدّمة والمُتخلّفة، كي تكونَ علاقاتٍ بين إنسانٍ وإنسان.. وقِيّمٍ تُكمّلُ قِيّمًا..
قِيّمٌ تُسَمّى في الثقافةِ اليَهوديّةِ المسيحية: “الوصايا العشر”.. وتُسمَّى في الإسلامِ “مَكارِم الأخلاق”..
إنها علاقاتٌ أخلاقيةٌ بين الشّعوب..
وعلينا باستِحضَارِ هذه “الدّرُوس” من تاريخِنا الإفريقيّ والمَغارِبي المُعاش.. فعندما دخلَ الاستِعمارُ الأورُبِي إلى قارّتِنا، لم يَشتغل من أجلِ تطويرِ بِلادِنا ومِنطقَتِنا عُمومًا.. وتَذَرّعَ بكَونِ تطويرِ أنفُسِنا ليس مسؤوليةَ غيرِنا، بل هذه مسؤوليتُنا نَحن..
نحنُ مسؤولون عن أحوالنا..
والاستعمارُ اقتصَر على الحِفاظِ على طريقة حياتِنا الاجتماعيّة، كي تَبقى كما كانت من قديم الزّمن..
وهكذا حكَمَ مِنطَقتَنا بتقاليدِنا وعاداتِنا، وخُرافاتِنا وبالشّعوذةِ المُرتَبِطة بسُوءِ تأويلِ الدّين، وقد كانت سائدةً في مُجتمَعِنا بشَمالِ إفريقيا..
والمُجتمَعُ في أغلبِهِ مُتشَبّعٌ بسُوء فهمِ النصوصِ الدينيّة..
ووَجَدَ الاستعمارُ فضاءاتِنا الاجتماعيةَ قابِلةً لاستِغلالِنا باسمِ الدين، وهي عَقليةٌ وجدَها الاستِعمارُ سائدةً عندَنا من زمان..
وأحاطَ الاستعمارُ نفسَهُ بإقطاعيّين وأَئِمّةٍ وفُقهاءَ مُتشَبّعين بالخَلطِ بين الشأنِ الدُّنيويّ وشأنِ الآخِرة، ويُبرّرُون التّخلُّف، بنصُوصٍ مَنسُوبةٍ للنّبِيّ وأصحابِ النّبِي، وقَصَصٍ رَبَطُوها بشُيوخٍ وقُوّادٍ وباشَواتٍ يستغلّونَ الدّينَ لأهدافٍ مَصلَحيّة، ومن ثمّةَ يَستغلّون الشّعوبَ باسمِ الدّينِ المَنحُوتِ على أساسِ أهدافٍ إقطاعية..
وهكذا استَمرّت العلاقاتُ بين الاحتِلالِ والمُحتَلّ، وما زالت قائمةً إلى الآن، في شكلِ مَورُوثٍ تاريخِيّ.. وعلى هذا الأساس يَتعاملُ الاستِعمارُ القديم، ومعه تَفريخاتُ الاستِعمارِ الجديد التي تُخاطبُنا بالدّين، وتَستغلّ ثرَواتِ المِنطقَة بنُصوصٍ دينيّة، و”مَنطقِ” الجنّةِ والنار، وعَذابِ الآخِرة..
وتَوَلّدَت عندَنا أحزابٌ في عُمقِها شبكاتٌ إقطاعيّة..
وحافظَ الاستِعمارُ على الطريقة التي عاش بها أجدادُنا منذُ قُرون، وما زال أحفادُ الاستعمار على عادةِ قُدامَى الإقطاعيّين، يُوزّعون الثّرواتِ على بعضِهم، وينثرُون مُبرّراتِ الإقطاعِ على مُجتمعٍ أغلبُ أفرادِه لا يقرأون ولا يَكتبُون.. ولا يَتعبّدون إلاّ بالوِراثة..
ويَتَوارَثُون الاقتِناعَ بأنّ الآخِرةَ هي تَفرِضُ علينا كيف نتَعاملُ مع شؤون دُنيانا..
وتَوريثُ الدّين هو في حدّ ذاتهِ مُشكلة.. وغيرُ مقبُول.. لأنّ اللهَ يُعبدُ بالعَقل.. لا بالوراثة.. يقولُ القُرآن: “إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ – سورة الزّخرُف..
إنّ التّديُّنَ لا يُتوارَث.. لا يُؤخَذُ بالوراثة..
ولهذا ما زلنا في مُؤخّرةِ العالم..
ولحُكوماتنا وأحزابِنا وإقطاعيّينا ثرواتُ بلادِنا، يُوزّعُونها على بعضِهم، وعلى مُقرّبِيهم، وشُرَكائِهم في الدّاخلِ والخارِج..
ولَنا الفَقرُ والتّفقِير..
والجَهلُ والتّجهِيل..
ولَهُمُ الجَاهُ والثّروَة..
و”الاستِعمارُ الجديدُ” قد مَرّر لأحزابِ “تُجّارِ الدين” طريقةَ التّحكّم في شعُوبٍ مُبَرمَجَةٍ على الآخِرة، بعيدًا عن حُسنِ تَدبيرِ شؤونِ الدّنيا..
وحافظَ “الاستعمارُ الجديدُ” على تشريعِ الأُسرة: زَواج، طلاق، إرث، وغيرِه…
ولم يُوصِلِ الحداثةَ – ولأسبابٍ مَصلَحيّة – إلاّ إلى الاقتِصاد، والفِلاحةِ العَصرية، والتعليمِ العصري…
ومِنطقتُنا تحت الحُكم الاستِعماري، تسِيرُ بسُرعتيْن: التّقليديّة، بقيادةِ أئمّةٍ وفُقهاء.. والسّرعة الحَداثية، تقودُها تنظيراتُ الاستِعمار..
وإلى الآن، ما زال هذا معمُولاً به في مَناطقَ متخلّفةٍ من القارة الإفريقية..
فمن جهة، سُلطةٌ عِلمانية.. وهذه في الأبناك وغيرِها.. مَنصُوصٌ عليها في قوانينَ مَدَنيّة..
وفي الجانبِ المُعاكِس، سُلطةُ رِجال الدّين.. وهذه فيها تسيِيسٌ للدّين..
سُلطَتان مُتناقِضَتان: “دينيّة” و”لادينيّة”..
وتقلِيديّة وحَداثيّة..
الدّينُ في هذه المِنطقة، والحَداثةُ للأوربيّين وأتباعِهم..
وهذه العقليةُ أنتَجَت الثروةَ للأوربيّين ومَن معهُم، والفقرَ والتّفقيرَ للمُتَعَبّدِين..
وما زِلنا إلى الآن، على هذا المِنوَال، نحلُمُ بجنّاتِ النّعيم..
وعلى هذا الأساس، فتَحَت أوربا أبوابَها للمُهاجِرين من دولٍ إفريقيةٍ تابعةٍ لمُستَعمِريها السّابقِين..
وانطلقَ الجِيلُ الأوّلُ من المُهاجِرين إلى أورُبا في التّعاطِي لمِهَنٍ بسِيطةٍ لا تحتاجُ لكفاءات: قطفُ ثمارِ الفلاحة، النّقل، البِناء، النّجارة، الحِدادة، الحَفر… وهي حِرَفٌ تقلِيديّةٌ واصَلَ المُهاجِرُون الاشتغالَ فيها بالعالَمِ الغربي..
ومع السّنين، اكتَظّت الهجرةُ إلى أوربا من بُلدانٍ “صديقةٍ” للاستعمار الأورُبي..
وأرادَت أورُبا أن تجعلَ منّا حِزامًا مَهجَريّا لتأمِينِها منَ الاكتظاظ..
وصِرْنا نقومُ بمُهمّة الحزامِ الأمنِي بين إفريقيا وأورُبا..
وعِندَنا اليومَ في بَلدِنا مُهاجِرُونَ من دُولٍ فقيرةٍ مُختَلِفة.. وأصبَحنا نلعبُ دورَ الوِجهةِ المَهجَريّة.. فبدلَ الهجرةِ إلى أوربا، تكُونُ الهجرةُ إلينا.. ونحنُ نقومُ بالغِريال المَهجَري بينَ القارتيْن: الإفريقيّة والأوربية..
ومَشاكلُ المُهاجِرين لا تختَلف: المُهاجرُ يسعَى للعمل من أجل حياةٍ كريمة.. والدّولُ المُستقبِلةُ للهِجرة، تسعَى لتشغيلِ المُهاجرين بأبخسِ الأجُور، وبدُونِ أن يكُون وُجودُهم في المَهجَر مُكَلِّفا، وهذا له مضاعفاتٌ اقتِصادية..
وبتعبيرٍ آخر: فكّرَت أورُبا في استِغلالِ المُهاجِرِين لأقصَى حُدُود، بدُون أن يكُونوا لها مُكلِّفِين، اقتِصاديّا واجتماعيّا وأمنيّا..
وماذا بعدَ كلّ هذا؟
علَينا ألاّ نقعَ في نفسِ السياساتِ الاستِغلالية التي دَأَبَت عليها أورُبا في تشغِيلِ المُهاجرين الأجانب..
الوقتُ الرّاهنُ قد تغيّرَ عن السّابق..
يجبُ أن تكُونَ علاقةُ المُشغِّلِين بالمُشغَّلين علاقةَ تشغيلٍ وراتِب.. هذا فقط..
وهذه العلاقةُ قد أضافَ إليها الوقتُ حقوقًا إنسانية، سواءٌ كانت الهجرةُ مُوقّتة، أو مُجرّدَ عُبور..
وفي كلّ الأحوال، مُهاجِرُون يتَعرّضون لانتهاكاتٍ وتميِيزٍ من قِبَلِ دُولِ الاستِقبال، ومُقاوَلاتِ التّشغِيل..
وفيهِم من تُوكَلُ لهُم أعمالٌ خطِيرةٌ ومُهِينَة، وفي حالاتٍ تُحجَزُ جَوازاتُ سَفرِهم، ووَثائقُهم الخاصّة..
وعلى بلادِنا، وقد أصبَحت هي الأخرى دولةَ استِقبالٍ لمُهاجِرينَ ولاجِئين، أن تُطوّرَ قوانينَها لكي تتَماشَى مع القَوانينِ الدّولية، وأن تُطبّقَها، وتُراقِبَ أربابَ العَملِ في تَشغِيلِهِم للمُهاجِرِينَ الأفارِقة..
وعلى دّولتِنا أن تقومً بإنعاشِ “المُجتمَعِ المدنِي”، لكي تكُونَ لنا جَمعياتٌ كافيةٌ لتأطيرِ المُهاجِرين إلى بَلَدِنا من الخارج، ومن دُولٍ إفريقية، في احتِياجاتِهم التّواصُليّة، من أجلِ الاندِماج: اللغة، العَمل، المِهَن، القِيَّم المُشتَركة، التّآزُر، التّعاوُن، التّطوُّع…
وبتعبيرٍ آخر: تحويلُ المَهجَرِ في بلادِنا إلى حياةٍ طبيعيّةٍ إيجابيّة، وبالتالي مُساعدة المُهاجِرين لكي يَندَمِجُوا في مُجتمَعِنا بشكلٍ بنّاء، ويتّسمَ الاندماجُ بعلاقاتٍ مُفيدةٍ لبلادِنا، ومُجتمَعِنا، وللمُهاجِرِ والمُشغِّل…
والاختِلاطُ البَشَرِي بحاجةٍ إلى حُلول..
وتأجِيلُ الحُلُول، يُنتِجُ مَشاكِلَ إضافيّة..
وهذا ما وقَعَ لمُهاجِرِينَا إلى أورُبا..
مُهاجِرُونا تَرَبَّوا وعاشُوا في بيئةٍ تقليديّة، وعندَما وصلُوا إلى أورُبّا، وجَدُوا بيئةً أخرى، وعقليّةً أخرى، وسُلُوكًا مُختلِفًا..
وبعدَ عُقُودٍ مَهجَرِيّة، تَغيّرُوا في الشّكل، ولم يَتَغيّر ما كانوا عليه من طِباعٍ وعادات، وكأنّهُم لم يُغادِرُوا بلَدَهُم الأصلِي..
وكُلّما جاءَت عُطلةُ الصّيف، تكتَظّ الطّرُقُ الأورُبيّة، ويصلُ مُهاجِرُونا إلى بلَدِنا، على مَتنِ سيارات، ولهُم أرصِدةٌ بنكيّة، ويدخَلُون إلى قُراهُم ومُدُنِهم، في سيّاراتِهم.. وبحَوزَتِهم مَلابسُ وبَضائعُ للبَيعِ في الأسواقِ الشّعبيّة..
وبسُرعةٍ تنتَهِي العُطلة، وفيهِم من يَستَلِفُون ما به يَعُودُون إلى أعمالِهم الأوربية..
وهذه أحوالُ أغلبيةِ الأجيالِ الأُولَى العائدةِ لعُطلةِ الصيفِ إلى البلد.. وعَودَتُهُم لا تَعني أنهُم في أعماقِهم قد تَغيّروا..
لم تَتغيّر الأعماق..
ووَحدَها الأجيالُ الجديدةُ قد طرَأَ عليها تغيِير.. لقد دخَلَ الأطفالُ إلى المَدارس، وفيهِم من هُم الآنَ أطُرٌ في دولٍ أورُبية..
بينَما آباؤهُم ما زالُوا كما كانُوا منذُ سِتّيناتِ القرنِ العِشرين: نفسُ العقليّة.. نفسُ التّقاليد.. وفي بعضِهم مَظاهرُ التّطرُّف.. ما زالوا يعيشُون في الماضي، ولا علاقةَ لهُم بالحاضِر، إلاّ بِبَصَماتِ المادّيات..
والأخلاقُ نفسُها تَستَندُ إلى أقاويلِ فُقهاءَ سابِقِين، تَداوَلَها الناسُ أبًا عن جَدّ، منذُ أكثرَ من ألفِ عام..
وتَنفَعِلُ أورُبّا..
تُلاحِظ أنّ التّطرّف لم يَختَفِ من أوساطٍ مَهجَريّة، وأنّه انتقلَ إلى أجيالٍ مَهجَرِيّة جديدة، وفي بعضِ الحالاتِ إلى شبابٍ أوربيّين..
وتَكتَشفُ أورُبّا أنها قد أخطأت..
استَغلّت المُهاجِرين في أوراشِها، ولكنّها – على العُمُوم – لم تقُم بإدمَاجِهِم الاجتِماعي..
كان الهاجِسُ الأورُبي هو التّنميّة، وتطويرُ أورُبّا، وما تَنبّهَت في الوقتِ المُناسِب إلى أهمّيةِ الإدماجِ الثّقافي والاجتِماعي، وعلى مُستوَى القِيّم والتعايُش والاحتِرامِ المُتبادل، والتآزُرِ والتّعاوُنِ والتّطوُّع..
على العكس، جعلت أوربا من مُهاجِرين صُورًا نمَطيّةً لبعضِهِم، وخَلقَت تصوّراتٍ سلبيةً لفئاتٍ مُجتَمعيّة، وهو ما تسبّبَ في تبخِيسِ أهمّيةِ مُهاجِرين في نَظرِ بعضِ الأورُبيّين..
وبرَزت تصادُماتٌ بين فئاتٍ وأخرى، وتصوُّراتٌ سلبية، وأحيانًا تحقِيرية، وتحوّلت إلى مَشاكلَ يُعانِيها مُهاجِرون..
ونتَجَت عنها احتِكاكاتٌ هي عبارةٌ عن رفضٍ للغَير، وعُنصُريةٍ في حقّ أحياءٍ مَهجَريةٍ بكاملِها..
وفي حالاتٍ يُتَرجَمُ هذا الاحتكاكُ الاجتِماعي إلى حِرمانِ مُهاجِرين من فُرَصِ عمَل، ومن حُقوقٍ مَدَنيّة..
وفي غيابِ الحقوق، يَستَحيلُ الاندماجُ بالشّكلِ المطلوب، خاصةً عندما تَختَفِي سياسةٌ اجتماعيةٌ بديلةٌ في حقّ بناتِ وأبناءِ المُهاجِرين، ويتمُّ تغليبُ النظرةِ الدُّونيّة إلى اليدِ العاملةِ المُهاجِرة..
وعلينا بالاستِفادةِ من سَلبياتِ العلاقةِ بين أورُبا التّشغِيلية، واليدِ العامِلة المَهْجَريّة: خلقُ أجواءِ الاندِماجِ بين الوافِدِين والسّكّانِ الأصليّين، على أساسِ التّساوِي بين الطّرفيْن في الحُقوقِ والواجبات..
المُستقبَلُ لا يَقبَلُ إلاّ الاندماجَ بين شُعوبِ العالم، عبرَ تقريبِ المَسافاتِ بين الحَضاراتِ والثّقافاتِ والأديَان..
وبدُونِ التّقارُبِ الإنسانيّ، لا سَلامٌ سياسِيّ واقتِصادِيّ واجتِماعيّ وثقافي… وعَقلِيّ ونفسِيّ ورُوحِيّ!
ifzahmed66@gmail.com