لشيخ العيطة الحسين السطاتي.
قصة
فصل الشتاء يبسط سيطرته على المنطقة بجبال الأطلس المتوسط، درجة الحرارة خمسة تحت الصفر، المساء مثل الصباح، مثل الليل داكن مكفهر، لم تشرق الشمس أكثر من أسبوع، القرية كلها حقل جليد، الجليد في الجبل، أمام أبواب البيوت، الماء مجمد في الأنابيب والنفس يخرج بخارا من الأفواه، الطقس جد بارد، القرية الجبلية نائمة تحت صقيع الثلج، رذاذه ينزل زخات فوق الأشجار، المركز الترابي للدرك “لابريكَاد” مغلق الباب الرئيسي، صوت مؤذن يدعو لصلاة الفجر “الصلاة خير من النوم”، تقدم عسو الرجل الأمازيغي الستيني في حالة هستيرية يرثى لها، تردد أمام الباب…كأنه لم يقرر ماذا يفعل…أيدخل أم يبقى هكذا في الخارج ينتظر…؟ أخيرا دون شعور دق الباب في عنف و هو يصرخ:
– وحل واشاف وعزة ماتت؟
لم يتلق أي رد رغم نواحه وبكائه، ليعيد الكرة مرة ثانية، وثالثة، فرابعة…
– والشاف… والله يرحم الوالدين وحل راه عزة ماتت.
استيقظ الدركي أحمد ضابط الشرطة القضائية وهو يتمطى و يتثاءب في كسل وتثاقل، لم يكلف نفسه حتى عناء التحرك من على سريره ليجيب السائل من وسط الغطاء الوثير الدافئ بصوت يحمل نبرة التسلط:
-سير بحالك حتى يطلع الصباح واجي عندنا، مالك جاي مصدعنا في هذ الليل على معزة!
– وحل وا الشاف وراها عزة مراتي ماتت، ماشي المعزة.
تحرك الدركي من مكانه يجر نعله، و بطنه المتدلي يسبقه، أزاح خوخة الباب الصغيرة، حدق بعينيه، رأى شخصا يبدو ستينيا في أسمال بالية، يرتدي جلبابا متسخا باليا رمادي اللون وكأنه خيط من وبر الفئران، دامي الوجه، به نذوب، والسيجارة بين أصابعه المرتعشة، ينفث دخانها بعصبية ظاهرة. خيل إليه أنه مجنون أو متشرد يطلب التسول ليستفسره في عجرفة:
– صبحنا على الله، كَـَول أشنو عندك؟ مالك جاي مصدعني في هاذ الليل؟.
أجابه “عسو” متلعثما في الكلام، وصوته مبحوح تسبقه حشرجة بكاء:
– مراتي عزة ماتت يا الشاف وهي كتولد في الدوار.
ليزيد الدركي في ساديته وسياديته، و يجيبه في عنجهية:
-واش بغيتينا حنا نديرو ليك ؟ وعلاش ما ديتوهاش للطبيب؟
يجيبه عسو المكلوم مطأطأ الرأس كمن يأس من خصمه:
-ا كين سبيطار يا الشاف، ما كاين طبيب، ما كاين قابلة في الدوار.
وهم بالذهاب يائسا والدمع يملأ مقلتيه، تفحصه الدركي من الحداء الممزق إلى الجلباب الرث، عيون يقرأ فيها الغضب بدل الرحمة و الحنان، حينها طلب منه الانتظار.
حمل الضابط هاتف المصلحة، وهاتف رئيسه “الأجودان”، أخبره بموضوع القضية، ليأمره الرئيس من مسكنه هاتفيا بالانتقال في دورية مع الضابط الرقيب أول “الحسين”، وتحرير مسطرة عادية، (موت مفاجىء أتناء الوضع)، وكأن المتوفاة عنزة وليست من طينة بني آدم.
فتح الدركي الباب، أيقظ رفيقه في العمل “الرقيب أول الحسين” الساكن بجوار المركز، وبعد حديث بينهما حول القضية، وحول سيارة المصلحة الوحيدة المعطلة، التفت الضابط أحمد إلى عسو مخاطبا إياه في حدة بلغة الأمر:
– واش عندك فاش نمشيو ولا تعطينا فلوس المازوط؟
ثم أردف بنبرة خبيثة :
– ولا سير دفنها وهنينا.
هوى عسو على مقعد خشبي، وأشعل سيجارته من النوع الرديء، من عقب سيجارة أوشكت على الانتهاء، مجها طويلا أنفاسا متلاحقة، ونفث دخانها في تنهد، الدموع تسقط على خده صامتة، يحبس البكاء الذي يصعد في صدره وحلقه بصعوبه، هذا هو السؤال الذي يخشاه، تنهد بعمق كمن يزيح ذكرى ثقيلة عن صدره، ثم أخرج من جيب سرواله ورقة مالية من فئة مأتي درهم، وقال كعبد يتوسل سيده :
– عندي يا الشاف غير مياتين درهم تسلفتها من جاري، باغي نشري بيها لكفن ونَعي بيها عزة. قالها وهو يغالب الدموع التي تطفر بقوة من بين محاجره.
نثرها من يده الضابط أحمد، لكن الدركي الحسين المعروف بإنسانيته و طيبوبته لم يرقه تصرف زميله، أخذ منه المبلغ ورده لعسو المكلوم، مؤكدا له أنه هو من سيتحرى في قضية عزة، وسينقلهم على حسابه الخاص، على مثن سيارته الشخصية الشعبية التي لازال يدفع ثمنها أقساطا.
ركب الثلاثة سيارة الضابط الحسين بعدما تركوا دركيا بمداومة المركز، ثم انتقلوا عبر الجبل متوجهين إلى الدوار، هو يوم آخر شديد البرودة، وعلى نقيض ما أعلنته مذيعة النشرة الجوية بالمذياع، فإن الشمس لم تطل من تحت السحاب الكثيف لتبث ألسنتها الدافئة عبر الوجود، فالثلج لا يزال ساطعا بعناد فوق الأرض التي تناسى السكان كيف كان شكلها قبل أن تبيض. الساعة تقارب الثامنة صباحا، وصلوا إلى الدوار الرابض بسفح الجبل، وجدوا المعزين من الدوار بالكوخ الجبلي، حزن يخيم على المكان، زغاريد العائلة ابتهاجا بالمولودة انقلبت إلى مأثم، بكاء و نواح و لطم على الخدود، كان حينها الصبح قد انبلج في مركز القرية، في ذلك اليوم من فصل الشتاء، عاين الضابط الحسين جثة الهالكة هامدة، كانت طفلة أنجبت طفلة، لازلت في سن التربية و التعليم فبالأحرى أن تكون أما مسئولة، هي مازالت في حاجة إلى من يربيها، أثناء البحث والاستماع إلى المرأة المولدة أكدت أنها عملت كل ما في وسعها لانقاد “عزة” ووليدتها لكنها فشلت في المهمة، لقد أسفر البحث عن موت طفلة أمازيغية في الثالثة عشر من عمرها، اسمها عزة، ماتت وهي طفلة تلد بنتا. ومما دون في المحضر أن الهالكة أخرجوها من المدرسة و هي في التاسعة من عمرها، ورموها وراء قطيع النعاج والماعز، وكأنها عنزة واحدة من القطيع، وفي سن الثالثة عشرة زوجوها، طبعا من دون رضاها، لأن أسرتها تعيش على الكفاف، والدها مريض بداء الربو من جراء إدمانه على مخدر الكيف وشرب مسكر ماء الحياة.
استنتج الضابط “الحسين” الباحث أن عزة تزوجها “عسو” وهي صغيرة بينه وبينها تقف أربعون سنة، لم تعرفه إلا في ليلة عرسها، بل عرسه، كانت صفقة عقدها والدها ليداري بها فقره وعجزه عن تأمين غداء طابور من الأبناء، بكت بادئ الأمر لكنها تقبلت الأمر وارتضته.
أحس الضابط الحسين أن هناك صباحات يشعر فيها الواحد بأنه يتمنى أن يبقى تحت الغطاء لا يبرح فراشه، لا يرى أحدا ولا يطالعه أحد. إن الحزن يتداخل مع الفقر، لكن ما باليد حيلة، العمل يفرض عليه ذلك، والأفكار تتصارع في مخيلته، إذ كيف يصح أن نريد لأهلنا اليسر والسعادة والمستقبل الزاهر؟ كيف يكون هناك مستقبل زاهر إذ كانت الطفولة تداس تحت رحى الفقر و الجهل ؟
تضمن المحضر تصريحات بعض الجيران الأمازيغيين الذين يؤكدون أن الفتيات في ربوع الجبال الأطلسية ينضجن قبل غيرهن من بنات المناطق الأخرى، وأن البنت تبلغ و تصبح صالحة للزواج وهي في السن المسماة المراهقة، والعادات والتقاليد تحتم ذلك، وأضاف شهود مسنين بأن الزواج ستر وغطاء للمرأة (عز لمرا بيتها)، وراحة بال أهلها وذويها، يعرف جيدا الضابط الحسين بصفته ضابط للشرطة القضائية أن تزويج البنت القاصرة في العرف والتقاليد ليس جريمة، لكن تزويج طفلة وهي في الثالثة عشرة من عمرها، وحملها وهي طفلة وزهقان روحها وهي تلد، هو حقيقة مؤلمة تتحدى كل الدروس والقوانين الوضعية، وتأخذ الإنسان إلى ما كان عليه عصر الجاهلية، أيام وأد البنات.
وفيما كان الدركي الحسين يتمم إجراءات البحث ويواسي العائلة، كان رفيقه أحمد بين الفينة والأخرى يطرح أسئلة عن أهل المتوفاة، وما همه سوى ابتزازهم لدفع الرشوة من قبيل:
– علاش ما ديتوهاش للطبيب؟
– أنت قابلة ما عندكش ديبلوم وعلاش تولديها؟…
وكان كل مرة ينهره الضابط الحسين الذي يعرف مبتغاه وقصده من وراء تلك الأسئلة الاستفزازية الابتزازية.
كثر الحديث بين المعزين عن الصبية الذين ماتوا من شدة البرد في الجبال المجاورة، وعن الأمهات مثل عزة اللواتي فارقن الحياة عند الوضع، ومن عين المكان اتصل الضابط الحسين بممثل النيابة العامة بالمحكمة، وأطلعه بموضوع النازلة بالتفصيل، والذي بدوره أعطى التعليمات بتسليم الجثة إلى ذويها من أجل دفنها وتحرير المسطرة عادية (موت عادي أثناء الولادة).
بينما الضابط الحسين يأخذ الصور الفوتوغرافية للهالكة، وقف مشدوها شاردا يساءل و يجيب نفسه:
– لماذا تم تكييف القضية في موت عادي نتيجة الولادة؟
كان يجب أن تكيف جناية ” تكوين عصابة إجرامية والقتل العمد مع سبق الإصرار”
أجل إنها عصابة إجرامية، لقد قتلها أبوها لما أرسلها إلى الرعي ولم يدخلها إلى المدرسة، وقبِل تزويجها وهي طفلة غصبا عنها لمن هو في سنه، قتلها زوجها عسو الذي اشتهاها طفلة وظل يغتصبها كل ليلة، قتلتها أمها التي تواطأت مع الجناة ولم تحرك ساكنا، قتلتها العادات والتقاليد…
قام بالإجراءات الضرورية، وتم الاستماع إلى بعض الجيران والمرأة المولدة، ثم ختم المحضر، كأن شيئا لم يكن، وكأن المتوفاة عنزة وليست عزة.
الساعة الخامسة مساءا في طريق العودة من البحث عند مدخل مركز القرية، سرح الضابط الحسين ببصره من نافدة السيارة، يبحث عن شعاع من الطمأنينة، رأى تلميذات المدرسة يسرن أسرابا عائدات من أقسامهن، أو يركضن فرادى وهن يرتدين وزراتهن البيضاء، كلون الكثبان الثلجية التي تناثرت كنثف القطن عبر كل الأرجاء، تساءل في قرارة نفسه: لماذا لم تكن عزة بينهن؟ لقد تلقين دروسهن وعائدات إلى منازلهن، هناك صدر حنون ينتظرهن ولقمة دافئة طيبة تشبع جوعهن، سيأكلن ويلعبن ويشاهدن التلفاز ويذاكرن دروسهن لليوم الموالي.
تذكر أن أمه قد تزوجها أبوه وهي في سن الخامس عشرة من عمرها، وأخته الكبرى انتقلت إلى بيت زوجها قبل أن تكمل ربيعها السادس عشر، الواحدة منهن لم تمت وهي تلد، لأن العناية الإلهية كانت ترعاها، لكن عزة الآمازيغية ماتت بسبب القهر والفقر والجهل، والحرمان من الإرشاد الصحي. ماذا كان سيحدث لو أنهم تركوها في المدرسة؟، لو أنها أخذت الشهادة التأهيلية والتحقت بالتأهيلية الثانوية؟ أو أنها صارت طبيبة، أو مولدة،أو معلمة أو ممرضة أو حلاقة…؟ لو أن أهلها سألوها رأيها قبل الزواج؟ لو أنها نضجت قبل أن تساق إلى المجزرة ؟
يكلم نفسه في همس:
– طوبا لقوم لهم معزة العنزة أكثر من معزة عزة.
النعجة والعنزة والخراف هي التي تساق إلى الذبح رغما عنها، والطفلات يخلقن للعب، والتدليل، والأحضان، والكتب، والأقلام الملونة، فما بال أولئك الذين لا يزالون لا يميزون بين طفلة ونعجة! بين عزة والعنزة!، بين إنسانة وحيوان؟؟ وحتى الحيوان يستدعي الشفقة والرحمة.
كانت قضية”عزة” قضية عادية ومألوفة، مثل العديد من القضايا المماثلة بالمنطقة، تم البحث وختم المحضر وأرسل إلى المحكمة، وبعد دراسة الملف، ثم حفظ القضية بعبارة ( موت مفاجئ اثر عملية الوضع و يمكن استئناف البحث إذا ما ظهرت عناصر جديدة).
مرت الشهور، وبالسوق الأسبوعي التقى الضابط الحسين بالزوج “عسو”، أبلغه بحفظ ملف موت زوجته عزة، وحرر له محضرا في شأن ذلك، وقع له “عسو” على محضر الحفظ، ثم سأله الضابط عن حال “عزة” الصغيرة المولودة التي فارقت من أجلها الأم الحياة و سميت باسمها:
– كيف بقات لبنية بنت المرحومة؟، عنداك تخليها تسرح الماعز، ودخلها تقرا في المدرسة؟
ليرد عليه عسو وهو يمج سيجارته في تلذذ:
-لا نعام سيدي، عزة بنتي ما غاديش نخليها تسرح، غادي نصيفطها عند خالتها في الدار البيضا باش تخدم معاها في الديور.