من المجموعة القصصية”العيطة والغيطة” عن شيخ العيطة الحسين السطاتي
اليوم سبت والجو صيفي حار بسهل الشاوية، الفلاحون فرحون بجودة المحاصيل بعد موسم شتاء كانت أمطاره منتظمة بالشكل الذي تحتاجه البلاد والعباد، نصبت خيمة كبيرة أمام باب الدار لاستقبال المدعوين والفرقة الموسيقية التي ستؤثث فضاء الليلة، العرس يمر بطيئا في ضجيجه ليثبت وجود مستقبله المحتمل، العربة المجرورة بالدواب الناقلة للأثاث والمهر، يتقدمها رجل يسوق بقرة صفراء فاقع لونها، وقد رصع رأسها بقصفة نعناع، نساء مختلفة أعمارهن من أهل العروسين يسرن متربصات بالهدية في كامل زينتهن، يزغردن ويضربن على الدفوف و”الطعارج”. الزمار يزمر، أوداجه متشدقة أوشكت على الانفجار، سيارات قليلة تحمل الوافدين في موكب مستقيم متواز على إيقاع نفير “الكلاكسونات” وزغاريد النساء، أهازيج خفيفة من هذا الكرنفال تملا المكان:
-ها حنا جينا بالسلامة و الله يتاوي اللاَمة؛
– مرحبا يالالة، مرحبا بكم عندنا.
الليل يدلي ستاره، الخيمة تستقبل المدعوين، يزداد الشوق، يطول الانتظار لقدوم فرقة الشيخات، وصلت الفرقة كما وصلت العروس، تدخل الأب كبير الدار لاستقبال المغنيين، وإلى جانبه ابنه “مولاي السلطان” ووزيره الأعظم، عيونهم مكحلة بمسحوق الكحل المسوس:
– مرحبا بالرباعة، نهار كبير هذا.
يدخل المغني الخمسيني رئيس الفرقة، حاملا حقيبة كمانه، تتبعه البقية، “قفاطين” الشيخات الأربعة الحمراء تمسح الأرض، هرج و مرج داخل الخيمة، يسوي الشيخ كمانه الغجري، تدخل الشيخات طقوس الصباغة بمساحيق التجميل، داخل هذا الفضاء تزدحم الأبدان، تلتصق العيون الجائعة بمفاتن المغنيات البئيسات الناشطات المنشطات، تنطلق الفرجة داخل الخيمة وخارجها، تملأ الرؤوس بمسحوق الكيف والكؤوس، على نغمات الأغاني الشعبية، براويل عيطية بجمل مبتورة، يؤدي الشيخ الأغنية في نشوة وانشراح وهو يردد “شدرات زعرية”، بصوت خروفي تخيم:
– دواركم خطار….. يخلع بنهار.
-ندبو يا الشيخات….العريس كَالو مات.
– و بابا ما تعايرنا يا سيدي ما تخاصمنا، الفروج لمزوق …..محال يعوق.
ترد عليه الشيخة “فليفلة” بصوت ماعزي مبحوح مجروح يتهدج كمن تجهش بالبكاء:
– لعريس مكَفض….. ع الله يحفظ.
-ودادا وا دادا وعد عداه….أش لاحك للزواج…… يا وليد الحاج.
تمايلت الرؤوس والقامات، ازداد لهيب الأغاني، إنها فترة “وصلة عيطة السواكن”، امتلأت الحلبة، بدأت الرؤوس تتحرك اختلط الحابل بالنابل في هستيرية الجدبة، ازداد كرم الحضور، يصل اللهيب الذي تثيره الشيخات ذروته، يتواصل شلال الأموال المغدقة عليهن من المعجبين عشاق الزهو واللذة، يلفون عنق الشيخ “الكوامانجي” بطوق من الأوراق المالية، ولم يتوقف النشاط إلا عندما جاء “الحاج الكبير” ،كبير الدوار ينادي لوجبة العشاء.
خرج الحضور زرافات يتمايلون كأنهم سكارى بل أكثرهم سكارى، دخلوا إلى الخيمة المجاورة المعدة للأكل والشرب، كانت الوجبة دسمة: لحم الدجاج المحمر بالزيتون، لحم البقر باللوز والبرقوق، سفة الأرز المصقول بالكاكاو، الوجبة مصحوبة بدردشة ونميمة، لا يكسرها سوى نهيق الحمير مركوب الزوار المربوطة غير بعيد عن الخيمة، ونباح الكلاب، في سكون الليل المدلهم، وتطفل الجار الأصم “عباس لصمك” بين الفينة والأخرى وهو يتساءل:
-واش خرجو السروال ولا باقين؟.
الساعة تعدت منتصف الليل بقليل، الجو تلطف وبرد بعض الشيء عكس ما عليه من حرارة داخل الخيمة، غادر البعض العرس بسبب التعب أو المرض وعادت الجماهير إلى أماكنها، حمي إيقاع الغناء من جديد، الخيمة في أوج اشتعالها بلهيب النشاط، الشيخات يتموقعن لحلب ما تبقى في الجيوب، الشيخة “نويعيمة” تلف مؤخرتها المكتنزة بحزام أسود أمازيغي الصنع رصع بأقراص فضية تلمع، تترنح كمهرة جامحة، تشهق وتزفر، تشرع في رقصة البطن، تهز وسطها بعنف، لتهتز معه أنفاس المخلوقات التي حولها، ترفرف برموش عينيها، تاركة لسانها الأحمر القاني يطوف على شفتيها، ترعد جسدها، تلولب بطنها، تهز خصرها، تزلزل ضرعها، فتُفتح وتتحلب أفواه المتأثرين بفعلها وبمفعول مخدر الكيف ومسكر الماحيا.
الغرفة القصديرية المؤثثة للعروسين محاطة بجمع من النساء الفضوليات المستطلعات، منهن الشامتات والقانتات العوانس، وهن يطلقن الزغاريد بنسق تصاعدي يسمع كالعويل، وعيونهن مصوبة جهة الباب، يترقبن اللحظة المصيرية للختم الذكوري في طقس اختبار شرف العروس عبر قطرات دم، يستعجلن العريس ليناولهن دليل الشرف والعفة، الأهازيج تكاثفت إلى طلبات، النبرات الغنائية تحولت إلى إلحاح، الضربات النافرة على الباب انهالت تستعجل النبأ، كان القلق ينهش الجميع، في حيرة بسبب هذا التأخر، يتساءلن في همس، هل العيب منها أم منه؟ طرق على الباب مصحوب بعبارات مبهمة ومحبطة:
– وطلق راسك خرج لينا الصباح، بغينا نشوفو دم السروال قبل ما يطلع النهار…
تباشير الفجر تلوح في الأفق، فجأة دفع الباب الخشبي لغرفة العمليات، اندفع العريس في صوت مدوي مزعج مصحوبا بحشرجة:
-واك واك يا الحق..اللهم إن هذا منكر، عتقيني يادادا فاطنة راهم جايبين ليَ مرا.
تتلقفه “دادا االميلودية” المرأة السبعينية المتلفعة بحايك أسود والملبطة لباب غرفة العمليات، لتجيبه بفم خال من الأسنان إلا من ناب مهمل وهي تقول بصوت أجش:
– يا نعل الشيطان يا وليدي يا المعيطي، واش بغيتيهم يجيبو ليك راجل!
الأصوات ذوت، اندفعت العيون المتسائلة تبحث عن السروال الملطخ بالدم، تقدمت أمه منه مرعوبة، شاهدت يده فارغة من السروال، ضربت بيديها على فخديها مولولة، ولطمت وجهها صفعات:
– هاويلي، هاناري! على بنت الصكَعة، دارتها بينا بنت الشيخة.
تحول الحفل إلى حلبة صراع، الشيخ المغني في حالة سكر طافح، يدعك الكمان ويغني غير آبه بما يجري حوله وهو يردد بنبرة الحزن:
– حكمت عليها الظروف، راه كاينة ظروف.
يتوجه إليه أخ العريس في يده هراوة، يتوعده بالويل إن لم يزم فمه:
-آش من ظروف، واش مشات جوج المنيول وضروبة وخروف، وأنت تكَول ليَ كاينة ظروف.
كثرت الملاسنات بين العائلتين وأنصارهما، حمي وطيس المعركة نباح و نواح، لا صوت يعلو على صوت دم السروال، تشابك بالأيدي والعصي والهراوات بين أهل العروسين، كثرة الطلبات، المجموعة المنشطة تطلب بقية الثمن المتفق عليه، العريس يطلب الدم والبكرة، العروس تطلب النجدة من الموت، المدعوين للحفل يطلبون السلامة ونزول المطر، وبعض رجال الدرك بالمركز يطلبون كثرة مثل هذه الأعراس لتنتفخ أرصدتهم.