الليل في غناء العيطة

جسر التواصل26 ديسمبر 2020آخر تحديث :
الليل في غناء العيطة

شيخ العيطة الحسين السطاتي

خلق الله الإنسان وميزه عن باقي المخلوقات بالعقل والتفكير، وجعل له أحاسيس وشعور وجداني، كما جعل منه الفنان والإنسان العادي، فإذا شاهد الفنان مشهدا مثيرا من المشاهد سيطر عليه سيطرة تامة بحيث لا يستطيع أن يمنع نفسه من تصويره إما قصيدة أو قصة أو تمثالا أو صورة أو نغمة ذات لحن مؤثر…وإن ذلك لا يصدر إلا عن الموهوبين الذين ارتقت أحاسيسهم أكثر من غيرهم، فقد يمر الإنسان العادي بما يمر به الفنان من حدث أو مشهد فلا يتأثر به كما يتأثر به الفنان. هذا الأخير الذي يصف كل ما تقع عليه عينه وتروق له نفسه، وينبض له فؤاده.. واجتهد الفنانون وأبدعوا وأمتعوا بما فيهم النحاتون والرسامون والأدباء والشعراء والموسيقيون والمغنون..ووصفوا كل ما رأوه من مشاهد أعجبتهم وألهمت قريحتهم الفنية، فوصفوا الطبيعة والإنسان والحيوان والجماد..حيث وصفوا اليابسة والبحر، والشمس والقمر، والخيل والغزال والنمر..وسُحروا وافتتنوا بالليل؛ بسكونه وشاعريته، وبما يدور في ظلمته من نجوم وقمر، وسَحر وفجر..ذلك الليل البهيم، الأهيم، الحالك، المدلهم، المقمر..
والمغرب بلد غني بفنونه الجميلة وبثقافته الشعبية وبثرائه الغنائي التراثي المتنوع، ومن هذه الفنون نجد فن الموسيقى والغناء، ومنه فن “العيطة”، هذا الفن الذي يؤدى من طرف رجال ونساء، “أشياخ وشيخات”، يشتركون في النظم والعزف والرقص والغناء على حد سواء، في مساواة بين الرجل والمرأة. ويشكل صرخة الإنسان القروي، وهو نداء القبيلة والاستنجاد بالسلف، لتحريك واستنهاض الهمم، واستحضار ملكة الشعر والغناء.. فهو نداء كتعبير عن ألم مشترك، وعن الحب بلذاته وعذاباته..أشعار تحمل قيما إنسانية قوية، مازالت تصدح بها حناجر المغنيين من أشياخ وشيخات إلى يومنا هذا، وقد تطرق هذا الغناء لمواضيع مختلفة منها السياسي والاجتماعي والعاطفي، حيث تغنى الأشياخ والشيخات بالمقاومة ورجالاتها ونسائها، وبالوطنيين المجاهدين في سبيل الوطن، وبالحركات السلطانية، كما تغنوا بالجمال بكل صفاته؛ جمال الطبيعة وجمال المرأة..والخيل والليل.. وقد تأثر الشعراء العيطيون بالليل، فنظموه ووصفوه وغنوه في قصائد زجلية عمرت لسنين طويلة، أشعارا تغنى باللهجة العامية العربية المغربية، ضاربة في العمق الريفي البدوي، حيث نجد ذكر الليل بطوله وسرمديته وما يدور في فلكه من قمر ونجوم وهدوء ودفء وسكينة..موصوفا في مجموعة من القصائد العيطية سواء بالمباشر أو تشبيها وترميزا..

و”العيطة” فنيا هي فن شعبي يأتي فيه الإيقاع الموسيقي مصاحبا للكلام، وهي أغنية مهيكلة على شكل أجزاء، تنطلق من بداية وتحتمل جزأين إلى تسعة أجزاء أو أكثر وتنتهي بخاتمة، كما أنها مجموعة من المقاطع الغنائية والفواصل الموسيقية الإيقاعية في منظومة تختلف عناصرها باختلاف أنواع العيطة نفسها. ويأتي التركيب كخاصية موسيقية وهوية إيقاعية وزجلية. وهي تتوزع إلى تسعة أنواع، تتنوع حسب تنوع المناطق الجغرافية التي تحتضنها، ونجد هناك: العيطة الجبلية، والعيطة الغرباوية، والعيطة الزعرية، والعيطة المرساوية، والعيطة الحصباوية وتسمى أيضا بالعيطة العبدية، والعيطة الشيظمية، والعيطة الحوزية، والعيطة الملالية، ثم العيطة البلدية وتسمى أيضا بالعيطة الفيلالية الجرفية.
“وإن هذا الغناء الذي يطلقون عليه اسم العيطة، وأحيانا أسماء أخرى للتمييز، هذا النفس الساخن الصاعد من الدواخل، عبر الأصوات البشرية- الأنثوية والذكورية- والإيقاعات والألحان الآسرة، هو الذي أسعف على ميلاد شعر شفوي ظل يخرج من الجراح الفردية والجماعية مثل النزف الدافق، ويلتصق بذوات وبمصائر الفلاحين والمزارعين والرعاة، والقرويين عموما، المنحدرين من ذاكرة عميقة ومن سلالات عربية لها تاريخ بعيد، مهمل، مكبوت ومسكوت عنه”. المرجع: الباحث الدكتور حسن نجمي في كتابه بعنوان: “غناء العيطة، الشعر الشفوي والموسيقى التقليدية بالمغرب 1″، الصفحة 17.
وفن العيطة هو فن شفوي وصلنا عبر التواتر والتناقل الشفهي من جيل لجيل، حيث لم يكن انداك توثيقا للمتون العيطية، فظل الشاعر العيطي مجهول الاسم، واستنادا إلى ماتوفر لدينا من ربائد عيطية “أرشيف” غنائي قديم، ( أسطوانات اللفة، أشرطة الكاسيت، أشرطة الفيديو..)، وما سمعته شخصيا بالمباشر من أفواه الأشياخ والشيخات والرواة..بصفتي الشخصية فنان شعبي شيخ للعيطة مغني وعازف كمنجة، وجدت أن الأبيات التي يتحدث فيها الزجالون العيطيون عن الليل ليست بالكثيرة مقارنة بالمواضيع الأخرى، كوصف الطبيعة والمرأة والخيل وغيرها.. فهي أبيات قليلة ومتفرقة داخل القصيدة الواحدة، إلا أن الأثر الشعري والفني لتلك الأبيات التي ذُكِر فيها الليل يبقى فيها ناظم الكلام “الشيخ العيطي”، مسيطرا على نوعية التصوير الفني والإبداعي لحالة الليل في القصيدة. فتارة يصفه بالطول وتارة أخرى بالقصر. لقد وصفه الشعراء العيطيون بالطول عندما كانت تنزل بهم الأحزان والهموم، ووصفوه بالقصر عندما كانوا يشعرون بالفرح والسرور..فيا ترى أي ليل يتغنى به الفنان العيطي؟ وما هي السياقات الفنية التي جاء فيها الليل في غناء العيطة؟ وكيف استطاع هذا الفن الشعبي أن يفرض وجوده ويشرق في عتمة الليل الفني المغربي؟
إن الليل أنيس الشعراء وصديقهم، وملاذا آمنا للتعبير عما يخالج الصدر من أحاسيس ومكنونات الروح، فجعل منه الشعراء العيطيون رمزا ومرموزهم المتخيل، القادر على تحويل المشاعر الجياشة في النفس الشاعرية إلى رؤى وإيحاءات وصور بلاغية. فأحبه هؤلاء الشعراء وعشقوا فيه جوه المليء بالأسرار، وما يدور في فلكه من نجوم “النجوم”، وقمر”الكَمرة”، فكان أنيس وحدتهم ورفيقهم في العذاب، ومخفف آلامهم وملهمهم في مادتهم الأدبية الغنية بالصور الشعرية في قصائدهم العيطية، وقد تناولوه بلهجة مغربية عامية دارجة.
ويشغل الليل حيزا مهما من هذا الفن، ويلازم الخيال والإبداع والشاعرية والألوان كصورة عميقة ثرية ومتنوعة لا تخلو من التميز، فهو رمز الرومانسية والهدوء والسكينة والدفء حيث يحلو البوح والفضفضة، ويعتبر أنيس السهارى ومعزي المكويين بنار الحب، لذلك يحتاج التعبير عنه في الفن عموما إلى سلاسة الفكر وقوة الترميز، وهو مصدر إلهام للشعراء ومعينا يسبح فيه الخيال ويسرح فيه الفكر، ويبقى غاية عزيزة الوصول صعبة المنال، لذا نجد الشعراء قد تعبوا في إدراكه وتصويره وتشبيهه بغيره، فذهبوا إلى وصف صفاته وأجزائه وما يتعلق به كوصف الظلمة والكواكب والسهر.. فكان ومازال وسيظل الليل حاضرا في الأدب والشعر وفي اللوحة والأغنية.. ونجد الليل حاضرا في غناء العيطة التراثي الأصيل، لكننا لم نجد قصيدة عيطية واحدة فيما وصلنا إلى اليوم خصها الشاعر العيطي لهذه الغاية، وإنما جاء ذكر الليل متفرقا في أثناء الأبيات، حيث نعثر على هذه الأبيات مدسوسة متفرقة داخل النص.

وفن العيطة هو فن بدوي بامتياز، والبدو الريفيون ذو نفوس حساسة وأذواق لطيفة، يعشقون مظاهر الجمال بما في ذلك جمال الطبيعة والمرأة، والخيل والليل.. فإذا ما رأى أحدهم الجمال أخذ بشغاف قلبه، وملك عليه مشاعره، وإذا فارق من أحب جاشت مراجل الحب في نفسه، وخرج من فمه ما يختلج بداخل نفسه من آلام البعد، وتباريح الشوق.. والحب من أجمل المشاعر التي نشعر بها وتملأ حياتنا بهجة وسرورا، وتجعلنا نسهر الليالي نتغنى وننشد الكلمات التي تعبر عن ما بداخلنا، وفي هدوء الليل يحلو السمر والدفء والعشق واللوم والعتاب..فالزجال العيطي يصور الليل صورا مختلفة في الصياغة ومتشابهة في المعاني، فهو يعبر عن سعادته للقائه بالحبيب آناء الليل، كما يصف الليل بأنه متع ووجع ودمع..( الليل والبنات..العيطة حلات أسيدي– أنا والليل والخليل..والدموع تسيل يا بابا ).. وبالعيط المرساوي نجد أروع الكلام عن الحب والليل والسهر، فالعيطة المرساوية هي عيطة وجدانية في المقام الأول يهمها أن تحتفي بالعاطفة الإنسانية وتصور تقلباتها بين الحب والهجر والشوق واللوعة والتوسلات إلى الحبيب من أجل العودة ونبد الخلافات بين المحب والمحبوب، كما هو الشأن في هذا المقطع التالي من عيطة “الغزال”:
أهياوين أهياوين…ويلي يايلي
ليلي ليلي ليلي…هيا واهيا
سعدي أنا وحليلي…ويلي يايلي
نعنكَ ونحوز خليلي…هيا واهيا
يامالي ماشفتو لخليل…يا نجوم الليل يا سيدي..سيرا واهيا
أنا والليل والخليل… والدموع تسيل يا بابا…هيا واهيا
يا مالي ما شفتو لغزال… يا صحب الحال يا سيدي ..سيرا واهيا
الكَمرة طلعت… لغزال خرجت يا سيدي..سيرا واهيا
مالي طلت الكَمرة …بان ضو الليل يا سيدي… سيرا واهيا
سيدي بان المشبوح…وقليبي مجروح يا مالي …سيرا واهيا
النجمة ضوات…في السما علات أسيدي..سيرا واهيا
خليني نسهر …حتى يبان لفجر أسيدي…. أهيا واهيا
سيدي دازو بالليل …على كَصاص الخيل أمالي…سيرا واهيا
مالي الليل ولبنات…والعيطة حلات أسيدي…سيرا واهيا
ونجد أن الشاعر العيطي يحزن إذا خلى إلى نفسه في الليل، فهو يصف قسوة الليل حينما يبيت مؤرقا ساهدا يتقلب على نار أشواق انتظار عودة الحبيب، فيطول سهاده ووجعه، ويعاني هموما وأحزانا تكون قد أتقلت كاهله، كما نجد ذلك في العيطة المرساوية “رجانا في العالي”:
رجانا في العالي يا بابا…وبابا رجانا في العالي…غريب وبراني يا سيدي
سعدات الكَلب الهاني … سيادي معس الليل…ما سهر بحالي يا سيدي…حياني والليل طويل
الليل وما طال ياسيدي…أنا بايت ك نتسنا …وظال ك نسال يا بابا.
من المحال يا سيدي…الكَليب يتهنا…حتى يجي لغزال يا سيدي..ها حياني
وقد بث الشاعر العيطي من خلال مطالع قصائده، عاطفته ومدى حبه وشوقه للمحبوب، وهو يصف حالته النفسية المضطربة لما يكون في انتظار الحبيب، حيث يجد العاشق المتيم عزاءه وعلاجه في السهر الليلي وتأمل القمر والنجوم ( الكَمرة والنجوم…دوا المهموم…حتى حال ما يدوم يا سيدي)، وخلال سهره يحلم أحلام اليقظة من كثرة الهيام والشوق، وقد يطول انتظاره الليلي إلى أن يحين طلوع الفجر .. كما هو واضح في الأبيات التالية من عيطة “ركوب الخيل” تلك الرائعة المرساوية :
ايلي ياييلي …مال حبيبي مالو عليا …ما بيدي ما ندير ياسيدي
واهلي واهلي …أنا نبات ك نحلم… ونصبح نخمم… الله يداوي الحال حبيبي
ايلي ياييلي …الكَمرة والنجوم…دوا المهموم…حتى حال ما يدوم يا سيدي
هايلي هياييلي…سناح حبيبي فيه شي بولات…ع نجوم وضوات يا سيدي
كويتيني وشويتيني وشطنتيني…لفجر علم عليا…والحبيب اللي سخى بيا
ونجد الشاعر العيطي في عيطة “الكافرة غدرتيني” من العيط المرساوي، يصف النجوم والقمر كشاهد على شوقه وانتظاره للمحبوب، فهو يمعن النظر إلى النجوم المبرقة في السماء ويشبهها كأنها مخلوق عاقل يحس ويشهد على معاناته العاطفية، كما يُخيل إليه بأنه قد رأى صورة حبيبته في القمر::
الكافرة غدرتيني ….أش بلاني بيك حتى بليتيني…كَولي متايبة لله
عسيت كَاع الليل…والليل طويل— عسيت كَاع الليل…والنجوم شاهدين
سهرت طول الليل…ما بان لخليل — طلعت الكَمرة…بانو نجوم الليل
الكَمرة ضوات…نيرانو كَدات — صورتو في الكَمرة…نيرانو جمرة
حاطة برادي …والمكتابة تنادي — حاطة صينيتي…نتسنى ف كيتي
ويركز الشاعر العيطي على تأجج لوعة العشق في الليل، حيث نجد كذلك ذِكر الليل في العيطة المرساوية “دامي”، تلك الحالة التي يبرز فيها الشاعر عذابه العاطفي وشوقه وحنينه لملاقاة المحبوب، كما تصور ذلك هذه الأبيات :
دامي يا دامي هواك عداني…عداني عداني مشى وخلاني
ااه يا بابا …سهرت الليالي.. الحبيب ما عفى والي
بابا يا بابا …عسيت كَاع الليل…والنجوم شاهدين
لله يا دامي ….دازو بالليل…على كَصاص الخيل
وبابا يا بابا…نبات مقابلة النجوم…وقليبي مضيوم
وبابا يا سيدي ك يدير القلب المضيوم…حتى يديه النوم
وقد تكون عيطة “الشاليني” المرساوية، هي أرق عيطة تشخص الانكباب على استحضار الذكريات الجميلة مع الحبيب والبوح بمكامن النفس في الليل، وسؤال الذل للحبيب الموغل في الغياب، ويظهر هذا في الأبيات التالية من هذه العيطة، حيث يجسد الزجال العيطي العاشق المتيم من الليل إنسانا له من الأحاسيس والمشاعر ما للإنسان، يسمعه ولكنه لا يحس به عندما يبلغه شكواه من فراق الحبيب، فنجده يتضرع إلى الله ويطلب من الليل الذي يسدل ستائره عن كامل الكون أن يبحث له عن الحبيب المفقود الذي هجره وجافاه، “الشاليني” بمعنى الحبيب المجافي له، ثم نجده في أبيات يشكو من طول الليل وظلمته، وكأنه يزيد تعاسته وشقاءه، ويتساءل عن عدم تزحزح ليله، وكأنه متشبت بمكانه لا يرغب الرحيل، وحتى الصبح لا رغبة له في البزوغ :
الشاليني يابابا …ديرني حداك دابا تحتاجني يا سيدي
حبيبي يا حبيبي…دبا تحتاجني يا سيدي…والشاليني.
نطلب العالي يا سيدي…والليل زركَ النجوم…يفاجي لهموم يا سيدي
العالي يا العالي…وتغيت المضيوم يا العالي….والشاليني
وداك الليل يا مالي…كحل وطويل…ما شفتي لخليل يا بابا
ليلي ليلي ليلي…ما شفتي لخليل يا سيدي….والشاليني
طلعت الكَمرة يالعالي…وتبعها المشبوح.. وما بان المكَروح يا سيدي
العالي يا العالي…قليبي مجروح يا سيدي….والشاليني
ضوات الكَمرة يا مالي…وطلع الغرار….مابان الغدار يا سيدي
ليلي ليلي ليلي…بضاض القهار يا مي….والشاليني
مزاوكَة في الليل يا با…الغري لكحل…لعقيل تخبل وهيا مي
ليلي ليلي ليلي….لفحل ما طل يا العالي…والشاليني
طلعت للسطح يا سيدي…وهبطت للمرح…الحال ما بغا يصبح يا بابا
ليلي ليلي ليلي…الحال ما بغا يصبح يا سيدي….على الشاليني
وفي العيط الزعري، نجد الشاعر ينظر إلى الليل نظرة العاشق المتيم الولهان الحائر، إذ يصوره في أبيات شعرية عميقة، فتارة يصفه بالليل الطويل والأسود الحالك عندما يكون مهموما وحزينا، ( ليلي لكحل… ما بغا يرحل)، وتارة يصفه بالقصر لما يكون في حالة مهجة وسرور مع الحبيب (تلق راسك يا لعشير…را الليل قصير)، وهذه مبالغة وكناية عن طول أو قصر الليل، وأحيانا نجد الشاعر يصف ليله أنه ساكن ودائم لا يريد الرحيل..كما يبدو ذلك في الأبيات اللاحقة من خلال عيطة “الحساب الزعري” من العيطة الزعرية:
الليل وما طال…وحبيبي في البال— مادا من ليالي…مشات بلا والي.
محلاها سهرة…مع الليل والكَمرة—الليل والليالي…والعيوط تشالي
الخارج بالليل…هز سناح تقيل—طلت النجمة…طارت الظلمة
تعالى يا لخليل…نتوادعو بالليل—الليل كحل الكَلب…يجرح ويعذب
تلق راسك يا لعشير…را الليل قصير…ليلي لكحل…ما بغا يرحل…..
هذه بعض الأبيات “الحبات” من مئات بل من آلاف الأبيات من عيطة “الحساب الزعري” التي تتغنى بالليل، كما نجد كذلك الفنان”العيطي الغرباوي” ، يجد في الليل ظالته في السهر والسمر والتمتع بالجمال الأنثوي، وهو يشبه العذراوات الجميلات بالخيل، كما يظهر من الأبيات التالية عيطة “الغابة”:
راح الليل وغربو نجومو… كلها حاز كبيدتو
البنات كخيل السروت…يا خيي كلا وكَيمتو
العيون كخيل السراتة…والنيف بشمامتو
فمها براد تاع أتاي …مشحر بليقامتو
والشاعر العيطي الجبلي يشبه حبيبته في جمالها بالقمر الساطع في ظلمة الليل، ويتوسل إليها أن تسهر معه هذا الليل السرمدي الطويل، كما نجد ذلك في هذه “السوسة ” من عيطة “راح الليل”، هذه العيطة الجبلية الرائعة:
يا غزالي يا مجدول لحرير مزال الليل طويل…مزال الليل طويل يهديك الله قصري الليل معانا
عويشة لغزال كَمرة طلعت…أها أها أها…لالة ويا لالة
سير غدار صاحبو مدار مزية…طل لغزال بالليل كحل العينين
هو الوليد مع الرباعة هو لوليد…هو لوليد في الجماعة هو لوليد
الوليد يا لوليد زين السمية…لعزيز عليا يهديك الله
أجيني يا لغزال أجيني يا لغزال أجيني يا لغزال
أجيني يا لغزال بالليل شاعلة نارك بلا دخان
اليوم غدا نرحلو اليوم وغدا نرحلو…رحيلك أنا نزلو زينك عقلي هبلو
وأنا هذ الرحيل تقيل عليا يا الهاشمية…ها عار الله حاولي عليا
وأنا هذ الليل طوال عليا يا الهاشمية…ها عار الله شوري عليا
نفيق الناعسين ونعيق الساهرين…عيونك يا لالة غزالي زادوني فلعداب
راني في حالة ويا الغزالة…وكلت عليك الله لا تجافيني
علاش كتعاديني خلي النوم يديني…دبا يجيك ويجيني
وأنا أجري على ربي …والليل طويل
داز الصيف وطاب لخريف…يا مولات الساكَ لخفيف
يا مولات الزين الظريف…والله أنا قصدي شريف..يالالة راح الليل.
وهذه بعض النمادج من بعض قصائد غناء العيطة التي جاءوفيها ذكر الليل، وبهذا نكون قد استعرضنا ما تيسر لنا في ما قيل في الليل في الغناء العيطي، هذا الغناء الذي كان ومازال وسيظل يحتل المكانة الرفيعة في المشهد الفني الغنائي المغربي، فن يتعاطاه ويتبادله ويتوارثه المغاربة جيلا عن جيل، فهو تراث أصيل ومعمر وفن حي متحرك ومتجدد. فن يجمع بين الأصالة والحداثة ليؤكد أصالته في أشكاله وقوالبه الموسيقية التقليدية، كما يؤكد حداثته في الاستفادة من الأحداث والوقائع كعوامل مثيرة للإبداع والتجديد والإنتاج. وبصفتي فنان شعبي شيخ للعيطة وكاتب، فهذا الفن يسري في عروقي وموجود في كل أعمالي بما فيها الأغنية والمقالة والقصة والرواية، كما سأظل وفيا له، لقد أعطاني الكثير ولم أعطيه سوى النزر القليل، فهو بالنسبة لي نقطة قوة ومصدر فخر واعتزاز.. فهذا الفن هو جب لا ينضب نشرب ونرتوي منه من جيل لجيل، كنز ثمين، ورأسمال لامادي، يجب علينا أن نهتم به ونحافظ عليه وننقله للأحفاد في أحسن حلة كما أوصله إلينا الأسلاف والأجداد. فن أصيل مليء بالألغاز والأحلام والأسرار كالليل البهيم السرمدي.
وختاما لهذا المقال نختمه بسوسة من العيطة الشيظمية، وهي خاتمة لقصيدة عيطية، بإيقاع موسيقي خفيف بسيط وتسمى بسوسة “الليل”، وهي تتغنى بجمال الليل ورومانسيته وحلاوة السمر والسهر الليلي، وقد تم اقتباسها من العيط الحوزي، ونقلت إلى العيط المرساوي والعبدي والغرباوي…:
واااااه الليل يا الليل واااه….واااه الليل يا الليل واااااه
ينشطو لعزارة ويلعبو الخيل هااااااه…. واااااه الليل يا الليل واااااه
تطلع الكَمرة ونوسوعو الكَارة هااااه…واااه الليل يا الليل وااااه
تطلع النجمة ونحيدو الحشمة ياهااااه….واااه الليل يا الليلواااه
داك الهلال الحاط فوكَ الكدية واه لالة..وااااا الحاط فوكَ الكدية واه لالة
ما بانو ليك ياوا شي عيون وحجبان واه
والخيل…وها الخيل…وأراو البارود…والخيل يا الخيل
وسرجو الخيل..وها الخيل…ونخرجو بالليل…والليل يا الليل
وااا الجماعة…وها الخيل…الحافيظ الله…والليل يا الليل
آه آه اهويه آه آه اهويه آه آه اهويه آه آه اهويه آه آه اهويه آه آه اهويه آه آه اهويه آه آه
………. العيوط والبحوط والليل وركوب الخيل…….
وفي هذه “السدة” الأخيرة من هذه العيطة الشيظمية يعني الخاتمة النهائية “العيوط والبحوط والليل وركوب الخيل”، يؤكد من خلالها الشاعر العيطي أن من أرفع المتع في الحياة الدنيا تبدو له أربعة أشياء وهي: موسيقى ونغم العيطة “العيوط”، وغنج ودلال النساء “البحوط”، ورومانسية وسكون وشاعرية الليل بآهاته وتأوهاته “والليل”، وآخرها وأحسنها التمتع بركوب الفرس “وركوب الخيل”…

الاخبار العاجلة