بقلم شيخ العيطة الفنان الحسين السطاتي
شمس غشت تلهب الأجساد، العمل في المعمل مرهق، اثني عشر ساعة خلف آلة الخياطة، ضجيج الآلات والعاملات زاد الجو حرارة،كانت “هند” تبدو على وشك الثلاثين ربيعا، تعصر إبهامها وتتألم خلف آلة الخياطة من جراء وخز الإبرة، وهي التي قضت سنين بهذا المعمل للنسيج، عاملة بدون أية ضمانات اجتماعية ولا تغطية صحية، لكنها تفضل حرارة المكان على حرارة “البراكة” التي تسكنها بالحي الصفيحي المهمش بضواحي المدينة.
رغم ضيق ذات اليد، كانت “هند” تتأنق بالملابس التي تشتريها من “جوطية” المدينة، أغلبها مستعملة ومستوردة من الخارج، كانت تبدو كعارضة أزياء عصرية حينما تخلع عنها وزرة العمل الزرقاء، بشرة بيضاء ناعمة، وجه بيضوي، تطل منه عينان عسليتان، تحرص على قص شعرها حسب آخر صيحات موضة الحلاقة، زادها جمالا ورقة قوامها الممشوق، وكأنها نشأت في بيت مخملي وليس قصديري، لهذا كانت لا تسلم من تحرشات بعض العاملين معها، وأولهم مدير المعمل الذي كان لا يتوانى برميها بنظرات وعبارات علها تنصاع لرغباته، وتطفئ عطش نزواته. خرجت في ذلك اليوم رفقة زميلاتها لتتناول وجبة الغداء، قصدت المطعم الشعبي المجاور لباب المصنع الذي يعرض مأكولاته من سمك وقطاني، جلست لوحدها على مائدة، وكان جالسا هو الآخر لوحدة في شياكة لا تليق بالمكان الشعبي، قدمت عنده النادلة ومسحت المائدة، فبادرها بطلبه:
– شي ماكلة منوعة بالحوت، ويكون طري. عبارة قالها وهو يلامس بيده اليسرى لحيته الكثة التي تغطي وجهه وبشرته السمراء، عيناه ترمق “هند” في خبت، تنظر إليه فترتطم بنظراته الحادة الفاحصة، ثم تنظر بعيدا في خجل. تكره تلك النظرات المنصبة عليها، وكأنها كائن عجيب، تشعر بالخجل، بالضآلة، بالإهانة، تود لو امتلكت جرأة مماثلة حتى تتفحصه مثلما يتفحصها، كان يختلس إليها النظرات، بينما هي تبرد أظافرها في تأن مديرة عينيها العسليتين الحالمتين، وكأنها هي أيضا تبحث عن صيد، رمى صنارته وابتسم لها، بادرته بابتسامة مغناجة خجولة، فترك مائدته وانتقل إلى جانبها، فرض نفسه عليها، هز عينه إلى النادلة ملوحا بالخنصر والبنصر:
-جوج ماكلات الله يرضي عليك.
قدم لها نفسه :” عصام” مسير شركة للتصدير والاستيراد.
تتردد لبرهة قبل أن تجيب بصوت يكاد يكون مسموعا:
– تشرفت بمعرفتك، قالتها وهي تبتسم وتلولب عينيها الحالمتين، أخبرته باسمها “هند” مستخدمة بشركة للنسيج المجاورة لمكان جلوسهما. وضعت النادلة طبقي السمك المنوع، دفع ثمنه وطلب من النادلة أن تحتفظ لها بالباقي، وبلغة مأذبة رحب بضيفته.
-بسم الله، تفضلي بالصحة والراحة لالة هند. واستطرد وهو يمد يده إلى طبق السمك:
– شحال عزيز علي فواكه البحر.
أحست بصديقاتها يتتبعنها بأعينهن، يحدقن بانتباه بالغ ممسوسات بالتربص والقنص، أكلت مرتبكة مسحت فمها الأرجواني، تبادلا بينهما التعرف والابتسامات والحديث، شكرته ثم استأذنت في المغادرة، طلب منها رقم الهاتف، أملته عليه بعدما عرف منها أنها تغادر عملها مساءا على الساعة السادسة…لوحت له بيدها، وعادت إلى المعمل.
كان فضول صديقاتها ينغش في صدورهن بعد عودتهن إلى العمل، سألتها زميلتها “عزيزة” مستهزئة وعيناها تدوران في مقلتيها:
-شكون هذاك “لفسر” اللي كان يتغدى معاك؟ والله ايلا غزال، وباين عليه متقي الله، وولد الناس.
أعجبتها الجملة الأخيرة، ابتسمت في دلال، وقالت:
– خطيبي، قالتها والخجل باديا على محياها.
الساعة تقارب السادسة مساءا، رن هاتفها، لاحظت أن الرقم الذي يظهر غير مدون بجدادة الهاتف، أجابت مرتبكة، فكان المخاطب “عصام”، وبأدب طلب منها انتظاره أمام المطعم. وما هي سوى دقائق معدودة حتى لوح إليها من داخل سيارته، توجهت إليه مسرعة، وقلبها يدق نشوة، ركبت إلى جانبه وعيون تفحصها وأخرى ترقبها، أثناء حديثهما داخل السيارة أسرت إليه بكل شيء، لا داعي للمراوغة هذه المرة، قالت في نفسها:”كم هو جميل هذا الرجل”، بعد تعارف… أخبرته بأمها المطلقة ومعاناتها مع مرض الربو، وأخوها القابع بالسجن من أجل تجارة المخدرات والذي لازلت تنتظره سنتين سجنا لكي يطلق سراحه. وهي من تتكلف بمصاريف العائلة وقفة السجين. أخبرها بدوره أنه يراقبها مند فترة وقد عرف عنها جديتها ورزانتها، وأنه “ابن ناس” وقصده شريف، أظهر أخلاقا عالية، ورقة في الأذب، وزادها ثقة به قصه للشارب، وعفوه عن لحيته، والرقعة السوداء الظاهرة على جبينه من أثر السجود. طلب منها بلباقة مرافقته إلى شاطئ البحر للتعرف أكثر على بعضهما، لكنها اعتذرت في لباقة، وألحت عليه بإنزالها قرب “الكاريان” الذي ضم مسكنها، ودعته بابتسامة خجولة بعدما تواعدا على أمل اللقاء.
كانت تلك الليلة من أجمل لياليها، حتى أمها خف ألمها لما لاحظت نشاط وحيوية ابنتها، وقد أفشت لها بلقائها مع”عصام” ميمون السعد.
– يا بنيتي لا تيقي، كَاع الرجال بحال بحال، هكاك كان باباك، وحظي راسك من عريس الغفلة.
قالتها الأم التي صقلتها التجربة، وسعلت سعالا حادا متواصلا، قامت هند مسرعة، وقدمت لها كوب الماء، وحثتها في حرص على شرب الدواء.
تعددت اللقاءات بين هند وعصام، ولم يظفر منها إلا بقبلات وداع مسروقة، كانت شديدة الحرص على المغامرة، شحيحة معه، عكس كرمه معها حيت كان يصرف عليها من ماله، أخبرته أنه أول رجل يدخل حياتها، كما أخبرها أن حرصه على تربية وتعليم أختيه إلى أن تزوجتا جعله يظل أعزب إلى سن الأربعين، وهما جالسان بالسيارة قرب معمل النسيج قبل وقت الغروب، أخرج لها خاتم الخطوبة، وعدها أنه سيخبر أمه وأختيه لكي يأتين معه في خطبة رسمية، بسمل وحوقل، تمتم بآيات قرآنية تم تلفظ، بعدما وضع يده في يدها وهو ينظر إلى عينيها:
– زوجتك نفسي، والشاهد ربي. وطبع قبلة على جبينها.
لم تدري بماذا ترد، ارتبكت، سرت في أوصالها قشعريرة، اغرورقت عيناها بالدموع، أول مرة تحس بأن للفرح دموع، أحست أنها ولدت من جديد، إلا أنه فاجأها بشروطه، أخبرها أنه من أسرة محافظة ولا يرغب أن تكون زوجته متبرجة مارقة… أقنعها أن العمل بالشركات مضني…، وهو يأمل أن تكون أم أبنائه ربة بيت تسهر على راحته وراحة أبنائها، أكدت له أنه لما يتوفر لديها المال ستشتري ملابس تقليدية ساترة محتشمة، وسوف تغادر العمل بعد عقد قرانهما، أخرج محفظته الجيبية ومدها بمبلغ هام، كان سخيا معها، وعدته أن أمره مطاع وألحت عليه أن يشرفهما ويتناول معهم العشاء بالبيت.
أكد لها أن أمثالها لا يستحقن أن يعشن في دور صفيح، وأنه لا يرغب أن يعرف أبنائه أن أمهم وجدتهم كانتا تعيشان في تلك البيئة، لاحظ احتقان وجهها، فاعتذر لها، أسر لها أنه هو الآخر ينحدر من أصول صحراوية في أقصى جنوب البلاد، غير أنه تربى وعاش في ضاحية بائسة من ضواحي العاصمة، فيها يتكدس النازحون الفارون من جوائح الفقر والجفاف، ألح عليها أنه بعد الزواج وطبعا بإذن أمها سيتكلف ببيع “البراكة” ويضيف إليها مبلغا من ماله، ويشتري لهم بيتا محترما ولو ضمن السكن الاقتصادي.
اقترحت عليه أن يتشاركا في مبلغ تسبيق وتأخذ قرضا بنكيا، يدفعونه لإحدى شركات العقار الاقتصادي، وتترك “البراكة” لأخيها “هشام”، يعيش فيها بعد خروجه من السجن، وقبل أن تتم كلامها وضع سبابته اليمنى على شفتيها، وقال لها بصوت بدا لها أن شيئا من الحدة قد بدأ في التسلل إلى نبراته:
– لا تكرري هذا… إن الأبناك يطلبون فائدة في القرض، وهي قروض غير إسلامية، والفائدة البنكية تسمى في الشريعة الإسلامية ربا محرما، ولتعلمي يا “هند” أن مال الربا حرام والحرام يذهب بالحلال.
عرفت أن كلامه حق… صوت المؤذن ينادي لصلاة المغرب، استأذنها وأدار زر المسجلة بعد انتهاء الآذان، صوت المقرئ الشيخ عبدالباسط عبد الصمد يصدح بسورة النساء، تركها بالسيارة ونزل إلى المسجد المحادي.
كانت “هند” في حيرة من أمرها، أخذت تفتش في السيارة، كانت رغبتها أن تبدل الشريط بآخر غنائي شعبي، هي تعشق العيطة و”الركزة”، بحثت عن شريط “للحسين السطاتي” فلم تجده، قلبها يرقص نشوة، أرادت أن تغني، ترقص، إلا أن ظنها خاب، فلم تجد إلا أشرطة الأحاديث الدينية، وتراتيل القرآن. وعدت نفسها بالالتزام والمواظبة على الصلاة. عاد من المسجد، طلبت منه أن يتناولا وجبة العشاء مع أمها، إلا أنه اعتذر متأسفا، وطلب منها أن تترك ذلك إلى فرصة أخرى.
تغيرت حياة هند رأسا على عقب، وتغير سلوكها مع زميلاتها داخل الشركة، تحجبت وصار لباسها محتشما، المنديل والدرة لا يفارق شعرها، الجلباب والجبادور صارا لباسها الرسمي، تجنبت مرافقة بعض زميلاتها في العمل، أضحت تشتبك مع بعضهن، تنعتهن بالعوانس، وبالمتبرجات، والكاسيات العاريات، الشيء الذي من أجله ثم استدعاؤها عدة مرات من طرف مشغلها، لكن الطرد لم يعد يهمها، بما أن أيامها صارت معدودة بالمعمل في انتظار التحاقها ببيت الزوجية والتفرغ لزوجها، بعلها “عصام” حبيبها وحلالها.
الساعة قاربت السابعة مساءا من ذلك اليوم، كان الجو صيفي دافئ ممتع، وهي ترفل في قفطانها الحريري كأنثى الطاووس، قلبها يرقص فرحا ونشوة، أعدت مائدة العشاء تليق بالخاطب، وارتدت الأم المريضة ملابس نظيفة، دخل “عصام” في الموعد، رحبت به الأم، انحنى على يدها يلثمها، فجرتها منه، كان يبدو وسيما، لحيته مشذبة بعناية، يرتدي بدلة زرقاء وقميصا أبيض بربطة عنق خضراء، ويحمل بيده باقة ورد حمراء عربون محبة، استراح قليلا، وطلب الماء للوضوء، توضئ وصلى صلاة المغرب التي فاته وقتها بقليل، وبينما يتبادلون حديث التعارف حول مائدة العشاء اقتحمت فرقة من الدرك “البراكة”، دخل الدركيون الثلاثة يفتشون غرف البيت القصديري، ارتبكت هند وأمها، خجلت أمام خطيبها، لكنها انقلبت من وداعة الحمامة إلى قطة مشاكسة، ثم إلى نمرة مزمجرة، صارت تلعن جيرانها بصوت جهوري، الحاسدين الشامتين، الواشين، المبلغين والمخبرين للمخزن، وهي تعاتب رئيس الدورية ظنا منها أن الدورية قد أخطأت العنوان، سألها الضابط الأجودان بلهجة سلطوية، وبصوت أجش:
-أين أخوك هشام”بزيويطة”؟
استغربت وأمها للسؤال، وهي تعرف أنه لم يمض عن سجن أخوها سوى سنة، أجابته في حدة لم تحاول إخفاءها:
-إنه في السجن… محكوم عليه بثلاثة سنوات حبسا، منذ أن قدمتموه بالاتجار في المخدرات.
– أعرف أنه كان في السجن، لكنه هرب اليوم من المستشفى بعدما ادعى أنه جد مريض.
ثم رفع عينيه إلى عصام وأردف سائلا:
– ومن هو هذا الذي معك ؟
لم تستطع أن تمنع نبرة الحدة والغضب من التسلل إلى صوتها، وأجابته بعفوية:
– إنه عصام ابن خالي وخطيبي، مسير شركة للتصدير والاستيراد.
طلب “الأجودان” من الدركيين تفتيشه احترازيا، تدخلت بينهم لتمنعهم من ذلك، إلا أن الضابط أزاحها من ذراعها بعنف. نفذ الدركيان أمر رئيسهما، فوجدا بحقيبته الجيبية بطاقة تعريفه الوطنية، بعد تفحصها من طرف الأجودان وجده يحمل اسم “عبد السلام السريفي” مكان سكناه بكتامة، ليلتفت إلى هند مستفسرا في عنجهية:
-قلت أن اسمه عصام ومن عائلتك، فكيف يحمل اسم عبد السلام السريفي حسب بطاقة الوطنية، ويسكن بمنطقة كتامة؟.
لم ترد وظلت صامتة تنظر إليه! أمسك به الدركيان، ومن عين المكان هاتف الأجودان إلى مصلحة المداومة بالمركز، أملا رقم بطاقة التعريف الوطنية على المكلف بعملية التنقيط الالكتروني لمعرفة سوابقه العدلية، وبعد مهلة انتظار قصيرة، تم الاتصال به من مصلحة المداومة، ليتم إخباره أن عملية التنقيط عبر الكاشف الالكتروني، قد أسفرت على أن المسمى”عبد السلام السريفي” متزوج وأب لثلاثة أبناء، وسجله حافل بالسوابق العدلية، ومازال مبحوثا عنه من أجل قضية النصب والاحتيال والخيانة الزوجية.
بلهجة شماتة أخبر الأجودان الشابة “هند” بنتيجة تنقيط من تدعيه خطيبها، رفعت إليه عينيها مصدومة غير مصدقة، وأمها ترمقه بنظرات شزراء، وجدت الدركيين قد وضعا في يديه الأصفاد، كما وجدته مطأطأ الرأس، جبينه يتفصد عرقا. هوت فوق الأريكة فاغرة فمها، لم تعرف ما تقول، عجزت عن النطق، حينها تدخلت أمها بفم أدرد خال من الأسنان إلا من ناب مهمل، والرذاذ يتطاير منه، متوجهة بكلامها إلى الضابط وعيناها جاحظتان في “عصام”،وبعد نوبة سعال حاد قالت:
– سمع يا وليدي… يا سعادة لاجودان، هذا ماشي عصام وماشي عبد السلام، هذا هو “لكتامي” اللي كيجيب لولدي الحشيش، وهو اللي جابدو “بزيويطة” ولدي عندكم في الضوسي، راه لوشيرشي، ودابا جا يسول عليه.
طلب الضابط من الأم أن تحث ابنها عند عودته أن يقدم نفسه إلى مركز الدرك، وتوجه إلى الشخص الموقوف بنبرة لم تخلو من حدة:
-إذن أنت من ساعده على الفرار، كنت مبحوثا عنك من أجل النصب والاحتيال والخيانة الزوجية، والآن زادت إلى تهمك تهمة الاتجار في المخدرات ومساعدة سجين على الفرار.
في يوم الغد كانت “هند” وسط صديقاتها بمعمل النسيج ترتدي تنورة قصيرة تكاد تظهر تبانها، وشعرها عاريا منسدلا كستنائيا كشلال مندفعا في صمت على كتفيها، تمشي بخطوات ضيقة، كانت التنورة الحمراء قصيرة جدا، حيت تبرز الساقين بعناية فائقة، وكان التبان الوردي يطل كلما انحنت قليلا، نهداها شبه عاريين، تعرف كيف تحرك الصدر ليستقبل الأعين القادمة، العاملات زميلاتها تفاجأن للوك الجديد عند هند، ولتبدلها غير المتوقع، أما رئيسها في المعمل، فكان مزاجه رائقا في ذلك اليوم، استدعاها إلى مكتبه باشا مبتسما، وقرر مكافأتها :
-تبارك الله على لالة هند، هكذا نبغيك، أخلاقك تحسنات، لذلك حنا درناك شاف بيرسونال، وغادين نزيدوك في الصالير.