محمد أديب السلاوي
-1-
في اللغة العربية، تشتق كلمة الإنتهازية في معناها اللغوي من مادة (نهز) التي تعني اغتنم. والانتهاز هو المبادرة، ويقال انتهز الفرصة أي اغتنمها وبادر إليها، وهي في معناها الاصطلاحي لا تختلف كثيرا عن المعنى اللغوي المشار إليه، فالإنسان العاقل هو الذي يغتنم الفرص ويستثمرها من أجل أهداف معينة ( ) وهي بذلك، تختلف باختلاف منطلقاتها، قد تكون محدودة ضيقة الأفق لا تخرج عن إطار المنفعية الذاتية القصيرة الأمد، أو قد تكون ذات أهداف سامية ومثل عليا يكافح الإنسان في سبيل تحقيقها ويضحي بالغالي والنفيس من أجلها، وعند ذلك يصبح استغلال مثل هذه الفرص المتاحة عملا مشروعا، بل وواجبا شرعيا قد يحاسب الإنسان على التفريط بها وتفويتها.
والإنتهازية في قواميس اللغة العربية القديمة والحديثة، تقترب معانيها من الصيد والدربة والمهارة في الحصول على الفريسة، تقترب من الاحتيال عليها في الوقوع بها واصطيادها.
والانتهازية في لسان العرب لابن منظور، ولربما في كل القواميس اللغوية العالمية الأخرى، تأتي بمعنى واحد: انتهز الفرصة في محيطك في موقعك/ في منصبك/ في الحزب الذي تنتمي إليه، كن محتالا بلا أخلاق لتحقيق أحلامك وهواجسك وتطلعاتك.
-2-
والانتهازي في نظر علماء النفس، إنسان خبيث في ذكائه، يتمتع بمرونة عجيبة، غير مبدئي، براغماتي، لاعب ماهر، يجيد لعب كل الأدوار، يكرس نفسه ومواهبه ومعارفه لمنافعه الشخصية، يمارس نشاطه وفق أيديولوجية اعتيادية، وهو أفضل من يقوم بتزييف الحقيقة، وخداع وتضليل الآخرين، حيث أنه يزيف الواقع برمته مقابل مصالح شخصية ويضحي بمصالح الآخرين في سبيل تحقيق مصالحه الذاتية. فهو يستخدم الواقعية والمثالية تبعا للحالة أو الموقف والفائدة، وبما أن هدفه في العيش هو براغماتي في الأصل، فهو يعمل على أن تتطور أدوات، المجتمع دون تطور لغته المرافقة طبيعيا لتطور الأدوات بحيث يخدم ذلك حياته البراغماتية، ويسعى إلى تجميد المفاهيم وفبركتها، بحيث تخدم أهدافه المرحلية، ويزين الواقع بغية إقناع الآخرين، حتى وإن كانت كرامتهم مسحوقة ومعذبة بما يخدم مصالحه، وهو العدو اللدود للحقيقة ويبذل كل جهده لكي لا تظهر على السطح.
وغالبا ما يكون الانتهازي ذو شخصية جذابة ومثيرة، وربما يتمتع بصلاحيات واسعة وسلطات تجعل الكثيرون يتهافتون عليه، وهو في انتهازيته يبحث -عن قصد- عن الأشخاص الملائمين لممارسة تسلطه بأقصى ما يمكن من الانتهازية.
الانتهازي في نظر علماء الاجتماع، مجرد من أي مبدأ أو عقيدة أو فكرة أو مذهب معين، وسرعان ما ينقلب على ادعاءاته ولا يمانع من الخروج عن الجماعة التي يدعي الانتماء إليها، ويتصف بصفات الغدر والخيانة للفئة أو الحزب الذي ينتمي إليه أو حتى لبني جلدته أو لأبناء شعبه( ). فهو يجيد لعب كافة الأدوار واقتناص كل الفرص لتحقيق مكاسب ومنافع شخصية حتى لو كانت غير شريفة وغير أخلاقية، وغير مشروعه/ قانونية والانتهازي في نظر علماء الشريعة، لا يردعه دين ولا قانون ولا أعراف، لذلك نجده في العديد من الأمم يحطم صمودها ويفقدها قدرة التمييز بين الحقيقة والزيف.
الانتهازية في العصر الحديث، كما في العصور الغابرة، لم تشكل طبقة أو فئة وإنما كانت ومازالت تأتي من عموم الطبقات والفئات. الفرق كبير بينها وبين الطبقات الرجعية المعادية للتقدم، لأن الطبقات التي تدافع عن القديم يكون لها موقف واضح وصريح تدافع عنه وتعتقد أنه صحيح وصواب.
الانتهازية ليس لها موقف صريح وواضح، لأن مواقفها وآراءها لا تنبع من معتقداتها، بل من مصالحها المتسارعة والمتقلبة، فهي تقول اليوم ما تنقضه غدا وتقول ما تتخلى عنه بعد غد، وهي لا تطرح آراءها بشكل نظرية متكاملة بل بشكل مواقف آنية.
لا تمتلك الانتهازية أي شيء يمكن أن تقدمه للمجتمع، ولا يمكن أن تكون عاملا إيجابيا في مرحلة من المراحل، ولا تطرح نفسها كنظام بديل لأي شيء، والسبب في ذلك أنها لا تهتم بتنظيم المجتمع أو بإصلاحه، وإنما بتحقيق مصالح أنانية خاصة بها فقط.
الانتهازية، ظاهرة بشرية تطفح في النفوس الشريرة، تظهر على السطح في الظروف العصيبة كنوع من أنواع النفاق والمداهنة يتوسلها المتملقون والمتزلفون لتحقيق مكاسب وامتيازات معينة، لها عواقبها وانعكاساتها السلبية على المجتمع، وهي لذلك يعتبرها علماء النفس، صفة دميمة من اقبح الصفات التي يلجأ إليها السفهاء لتعويض شعورهم بالنقص.
-4-
الانتهازية… كلمة واسعة الانتشار في المحيط السياسي، فهي كلمة تختلط بكلمات عديدة، تنتمي إلى كل قواميسنا، السياسية وتترابط معها، ولكنها تبقى وحدها التي تعبر عن نفسها من خلال أفعال مؤثرة في الأخلاق والقيم والسلوكات .
في كل المجتمعات السياسية، يكون أمهر الانتهازيين، من يصطاد الفرصة في وقتها المناسب، ولتكن فريستهم من المقهورين أو الجائعين، من الزعماء والوزراء والقياديين. لا فرق عندهم بين هذه الفريسة أو تلك، فالانتهازية السياسية، سلوك لا يفرق بين الخاص والعام. ولا بين فقير وغني. فهي ظاهرة قديمة جديدة، تواجدت بكل فترات التاريخ بالمؤسسات والجهات السياسية، وعلى تضاريس الجغرافية، نمت وترعرعت داخل المجتمعات المتخلفة والمتقدمة، ولها في التاريخ اعلام وأخبار وحكايات.
عندما تسربت “الانتهازية” إلى المجالات الحيوية/ السياسية والاقتصادية بأوربا، خلال القرن الثامن عشر، وأصبح الانتهازيون يلعبون أدوارا خبيثة على ساحة الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، أنصب اهتمام العلماء على الدراسات النفسية التي تفسر سلوكات الذين يطمحون إلى قيادة مواقع القرار السياسي بالبلاد، لتطهيرها المبكر من سلوكياتهم، في محاولة لإعداد أجيال سياسية نقية، تستوعب بالعقل والمشاعر قوانين وتوجهات الديمقراطية، للانتقال بأوربا إلى مرحلة جديدة من تاريخها، لا اثر فيها للانتهازية، ولا لقوالبها وأحلامها المريضة، خاصة وأنها كانت تسعى إلى دخول عصر جديد، يحتاج إلى سلامة الأبدان والعقول التي من شأنها قيادة الديمقراطية والديمقراطيين إلى مراكز المسؤولية.
وبالرجوع إلى التاريخ السياسي لأوربا خلال هذه الفترة، سنجدها قد توفقت في تأسيس نظريات جديدة للنضال السياسي، قائمة على سلامة المناضل العقلية والسلوكية، وسلامة سريرته السياسية، وتوفقت في أبعاد كل مصاب بداء الانتهازية عن مراكز المسؤولية. وهو ما أمن لهذه القارة مركزها الحضاري، رغم ما أصابها من صراعات وحروب خلال القرنين الماضيين.
-5-
وكما تتموقع على صدر الحياة السياسية، تأخذ الانتهازية موقعها بقلب الحياة الثقافية العربية التي أصبحت أوساطها المختلفة تحتضن أصنافا من الانتهازيين الذين لا يملكون هوية فكرية واضحة المعالم، يقدمون أنفسهم تنظيرات فكرية في شتى المجالات والميادين، فهم يساريون تقدميون عندما يجدون أنفسهم مع القوى اليسارية التقدمية، وهم قوميون عرب عندما يجتمعون مع القوميين العرب، وهم ملكيون “أبناء المخزن” عندما يتعلق الأمر بمصالحهم الذاتية.
المثقف/ الانتهازي يتخذ مواقف سياسية أو فكرية لا يؤمن بها في سبيل تحقيق مصالحه الخاصة، أو من أجل حماية مصالح شخصية… يتخذ مواقفه وآراءه الفكرية والثقافية والسياسية، حسب تغيير الظروف أملا في الحصول على مصلحته الذاتية والمحافظة عليها، دون أن يكون مؤمنا بالمواقف أو الأفكار التي يعلن عنها.
يعود ذلك في نظر علماء الاجتماع( ) إلى الخلفية الفكرية والثقافية التي نشأ وترعرع في أحضانها ذلك النوع من المثقفين، تزداد أوضاعهم تعقيدا عندما تختلط عليهم الرؤى الثقافية علميا أو فلسفيا، فالتجاذب والتقاطع والتداخل مع فكر مغاير ليس صعبا على هذا الصنف من المثقفين، لا سيما أنهم يستطلعون من خلاله أن يرسموا رؤاه السياسية وفقا لتلك العلاقة القائمة على المصالح المتداخلة والمتبادلة حتى وإن اختلفوا في المنابع والمدارس والاتجاهات.
-6-
الانتهازية، لا تنحدر من طبقة أو فئة في المجتمع، فهي تنتمي إلى كل الطبقات والفئات، وتوجد في عمق كل الشرائح، ويمكن حصر مواقعها في:
1/ الفئة الوسطى: وهي بيئة جيدة لنمو هذه الظاهرة، ففي زوايا الفئة الوسطى شرائح وفئات كثيرة تعيش بطرق غير مشروعة، تقوم حياتها على اقتناص الفرص الإدارية والتجارية، وعلى الاحتكار والسمسرة والوساطة والمحسوبية والصداقات مع الشركات الأجنبية، همها الوحيد الارتباط بالطبقة السياسية الحاكمة، ونسج علاقات ودية معها بشتى الوسائل، الأمر الذي يتيح للانتهازيين دخول الحياة السياسية لحماية مصالحهم الخاصة.
2/ الفئة المثقفة: وهي مصدر مهم لظهور الانتهازية لأن المثقف في الوسط المتخلف غالبا ما يستغل ثقافته لتحقيق مآربه الشخصية، وهذا لا يعني بأن الثقافة العامة هي التي تخلق الانتهازية، بل هي عامل مساعد ومهم لمن تتوافر فيه الروح الانتهازية، وذلك لأن البعض من هذه الفئة يحاول أن يحقق مصالحه بواسطة انخراطه في النشاط السياسي أو في النشاطات الأخرى. فمثلا: الموظفون الملتفون حول الوزراء والمدراء، الذين يتملقون من أجل الترقيات والتنفيعات، وأيضا فئات من الشعراء والكتّاب الذين يستعملون أقلامهم للمديح والثناء أو للذم والقدح حسبما تقتضيه المصلحة.
3/ الأحزاب المنظمات السياسية: ويعود السبب في ظهور هذا المرض ببعضها إلى ضعف التأطير… وإلى الضعف الأخلاقي لدى بعض الأفراد الذين يشكلون أطر الأحزاب أو المنظمات السياسية، وإلى عدم تلقي التربية العلمية والسياسية بشكل صحيح نتيجة عدم اقترانها برقابة صارمة على السلوك والممارسات، والأخذ بالاعتبار المحسوبيات والولاءات الشخصية الضيقة، مما يؤدي إلي فقدان سيطرة القيادة على أطرها الفاعلة إن لم تكن مشاركة لها في تحقيق مثل هذه المصالح. فالأحزاب والحركات عندما تنتقل من حالة المعارضة والاضطهاد إلى حالة استلام السلطة، تكون معرضة لانبثاق الميولات الانتهازية الكامنة لدى بعض الأفراد الذين ناضلوا في صفوفها، ولكن ليس الانتصار هو الذي يخلق ذلك بل الضعف الخلقي وعدم توازن الشخصية، هو ما يجعل الانتهازية واقعا حيا في ذاتها. والأمثلة كثيرة عن الأفراد المنحدرين من طبقات فقيرة، عملوا في صفوف الأحزاب وأصبحوا في قبظة الانتهازية بمجرد أن اصبحوا مسؤولين، كما أن منظمات المجتمع المدني، تعتبر أيضا وسطا ملائما لظهور الكثير من الشخصيات الانتهازية في صفوفها( ).
في الحياة العامة، تتحول “الانتهازية” إلى سلوك بشرى، ترتبط بشكل خاص بشريحة من الخلق : الكذابون/ المضللون/ المتملقون/ المحتالون/ المخادعون/ الوصوليون. وكل أصحاب المصالح الذين لا تهمهم الأخلاق ولا قيمها في اصطياد الفرص وانتهازها. فهي (أي الانتهازية) تستقطب نخبة معينة من الناس تعوض لهم “هارمونات” الشعور بالكبت والإحباط والشعور بالسطحية والدونية .
ولأنها على مستوى كبير من الخطورة، صنفها علماء النفس في درجة الأمراض الفتاكة التي تنخر المجتمعات من الداخل وتهددها في سلامتها من الداخل أيضا.