شيخ العيطة الحسين السطاتي
لكل شعب ثقافته وتراثه وموسيقاه بمختلف ألوانها وأصنافها، والموسيقى المصنفة تراثيا تكون كلماتها وموسيقاها وكذا الآلات المستعملة في عزفها مفعمة بإحالات على حقب غابرة، تخللتها أحداث راسخة، كانت فيها لهذا المجتمع أو ذاك أمجاد وانتصارات وكبوات وانتكاسات.. والمغرب بلد غني بثقافته الشعبية وبثرائه الغنائي الموسيقي التراثي، حيث يزخر الحقل الغنائي المغربي بألوان عديدة من الألوان الموسيقية التراثية التي تمتاز بنصوصها العميقة المعبرة، وألحانها الجذابة وإيقاعاتها المتنوعة الخلابة، ومن الألوان الغنائية التراثية نذكر على سبيل المثال لا الحصر ؛ موسيقى الآلة، وطرب الملحون، والطرب الغرناطي، وغناء الظاهرة الغيوانية، وفن عبيدات الرما، والسماع والمديح، والموسيقى الحسانية، والموسيقى الأمازيغية بفروعها الثلاثة “الأطلسية الزيانية، والريفية، والسوسية”، وموسيقى كَناوة، وفن العيطة ..وغير ذلك..من الألوان الموسيقية التراثية التي تعد رأسمالا لاماديا.
وقد أتاحت هذه الأغنية التراثية لتقاليد، وحكايات ووقائع.. أن تتجاوز مراحل تاريخية لتصل إلينا مستفزة فينا الفضول لمعرفة المزيد ما حملته وتحمله ظل في معظم الحالات حبيس ما كان في المتناول من وسائل وإمكانيات مادية وعلمية بسيطة ومتواضعة، وهو ما يطرح ضرورة القيام بعودة من جديد إلى تلك الإيقاعات والأنغام وتلك الكلمات والغوص في أعماقها واستجلاء ما هو أسير الظل فيها، وتسخير كل ما توفر من وسائل حديثة وإمكانيات متطورة لإضفاء مسحة من التجديد على تلك الكنوز.
وتتميز الأغنية الشعبية المغربية التراثية بتعددها وبطابعها الإزدواجي: أغنية عامية عربية، وأغنية عامية أمازيغية. فالأغنية المغناة باللهجة الدارجة العربية لها إطار جغرافي يتميز بالاتساع حيث تحيطه السهول الغربية وحوض سبو، وحوز مراكش، ومنطقة خريبكَة وأبي الجعد حتى مدينة بني ملال.. ويتوزع المشهد الطبيعي في هذه المناطق بين السهول والتلال، بين البلاد الساحلية والبلاد القارية، وكل هذه العوامل أثرت على أسلوب الأغنية في هذه المناطق، وفيما يتعلق بالأغنية الأمازيغية فهي تتمركز على العموم بالجبال، بما في ذلك جبال الأطلس وجبال الريف. ومن بين أشكال الأغنية الشعبية المغناة بالدارجة العامية المغربية نجد فن “العيطة”.
والعيطة كما هو معروف؛ هي غناء تراثي مركب، ديوان البدو، فن راقي أصيل، يجمع بين الموسيقى والغناء والرقص، واكب مجموعة من التطورات الاجتماعية التي انطلقت من مخالطة اللسان العربي بصفة فعلية لسكان كثير من المناطق المغربية الأطلسية، التي تقع خلف الهضاب الأطلسية، عند أقدام جبال الأطلس المتوسط، إلى منطقة الغرب، وإلى تخوم جبال الريف بالشمال، وكذلك أقدام الأطلس الكبير في فسحة الحوز ثم إلى منطقة تافيلالت سجلماسة، وكذا فيما يليها المناطق المجاورة بما في ذلك؛ الشاوية، ودكالة وعبدة إلى حدود مناطق حاحة..وفنيا هي فن شعبي مغربي- موسيقى وغناء ورقص- يأتي فيه الإيقاع الموسيقي مصاحبا للكلام، وهي أغنية مهيكلة على شكل أجزاء، تنطلق من بداية وتحتمل جزأين إلى تسعة أجزاء أو أكثر وتنتهي بخاتمة، وتحتوي على مجموعة من المقاطع الغنائية والفواصل الموسيقية الإيقاعية في منظومة تختلف عناصرها باختلاف أنواع العيطة نفسها. وهي في الأصل أغنية تراثية محلية، كلمات وموسيقى وألحان ورقصات، تختص بها كل منطقة على حدة، وتختلف من منطقة إلى أخرى. ومواضيع مختلفة قد لا يدرك لها معنى من غير أبناء تلك المنطقة، سوى من كانوا مولعين أو مهتمين أو باحثين في التراث العيطي، وهي منذ عقود تسير زحفا سلحفاتيا وتنشد التجديد والتطلع إلى الوصول للعالمية، وقد عانى هذا الفن لعقود طويلة من التهميش والإقصاء، ويعد فن علمي قائم بذاته يدخل في خانه الألوان الثقافية الأدبية التي تتطلب الدراسة والبحث العلمي الأكاديمي.. الشيء الذي يطرح العديد من التساؤلات؛ فماذا نعني بفن أصيل راقي؟ وكيف هو حال الأغنية العيطية حاليا على مستوى التلقي في المشهد الفني المغربي؟ وهل العيطة في حاجة إلى التأصيل والتجديد لكي تساير متطلبات المرحلة؟ أم إدخال تغييرات عليه سيضر به ويشوه صورته الأصلية؟ وهل الفنان العيطي لا يبتكر ويجدد إلا بقدر ما يحاكي ويقلد؟ أو نقول أن الأصالة نفسها مركب هجين بين عنصر التجديد وعنصر التقليد؟ وما هي السبل للارتقاء بفن العيطة إلى العالمية؟ وماذا تعني كلمة فن عالمي؟ فهل يكفي أن تقوم مجموعات غنائية “شيخات وأشياخ” أو فنانين يمارسون فن العيطة بسهرات خارج أرض الوطن، ويقومون بجولات فنية عبر العالم بدول أوربية أو أمريكية.. يعني هذا أن فن العيطة صار عالميا؟ وإلى أي مدى ساهمت الأغنية العيطية في الارتقاء بالأغنية المغربية عموما، وبالرقي بذوق المتلقي، والتعريف بتلك الهوية الريفية “العروبية” المغربية؟
وتستحضرني أبيات عيطية من عيطة “دامي” تلك الرائعة المرساوية:
لله يا دامي هواك عداني….عداني عداني مشى وخلاني
يلاه يا لخليل نسيحو ونديعو…اللي تعيطيه جريه واللي ترهنو بيعو
العود اللي كسبتيه علاش بدلتيه… ياك كسبتيه وعلفتيه علاش عيبتيه
بعتي وشريتي الله يسعدك بيه… جديدك لبسيه والبالي لاتفرط فيه
وريه وريه وايلا عمى زيد وخليه…من الواد لهيه كَاع طمعو فيه
سيدي إيلا كنتِ علام ركب وشد اللجام…ايلا كنت عوام درع وزيد لكَدام
إن الفنان العيطي “شيخات وأشياخ” ناظم ومغني، كانت لهم القدرة على الإبداع وعلى التقاط تفاصيل الحياة ونبض النفس البشرية، والتعبير عنها بطريقة مؤثرة وبصور بلاغية رائعة، دون ميوعة أو ابتذال أو خدش للحياء، أشعار منها التورية والتحريضية ، ومنها ما تتكلم عن الحب، والوصل، والفراق، وعن الخيانة.. والمتأمل في هذه الأبيات يجد لها دلالات رمزية، نجد من بينها ما يدعو إلى التغيير والتجديد مع الحفاظ على القديم الغالي. لكن شرط أن يكون الفرد قادرا على التغير “علام” متمكنا من صنعته “عوام” كما جاء في النص العيطي. فكذلك الشأن بالنسبة للتجديد والإبداع في مجال العيطة، فهو يحتاج أن يكون للفنان خلفية ثقافية وتكون له دراية موسيقية بعمله الموسيقي، لأن هذا التراث الموسيقي هو بحر لا حدود له..فلابد لمن يريد الإبحار بداخله، وينشد الغوص والتعمق فيه، أن يكون بحارا، يحسن بل يتقن فن العوم “عوام”، وإلا تاه داخله أو غرق في هذا اليم.
إن “الأصل” و”الأصول”، و”الأصيل”، و”التأصل”، و”الأصالة”- كلمات متجانسة تنحدر من أصل” لغوي واحد، وتؤلف عائلة لفظية واحدة. ونقول عن شيء ما سواء كان لوحة أو صورة أو كتابا أو قطعة موسيقية، أو غير ذلك، أنه “أصلي”، إذا لم يكن مجرد صورة منسوخة، أو مطبوعا مكررا، أو نسخة مطابقة للأصل، في حين أننا نقول عن شخص ما أنه سواء كان ذلك في معرض الحديث عن النسب، أم في معرض الحديث عن الأخلاق، أم غير ذلك..”أنه شخص أصيل”، إذا كان لهذا الشخص من عراقة النسب أو أصالة الخلق ما يجعل منه إنسانا نبيلا قد “تأصلت” جذوره في أعماق تربية الماضي. ولعل هذا ما حدا ببعض الباحثين إلى وضع كلمة “الأصالة” في مقابل كلمة “التجديد” على اعتبار أن الأصالة عودة إلى القديم أو التراث، في حين أن التجديد دعوة إلى الابتكار أو الإبداع. ومن هنا فقد أصبحت الأصالة في نظر الكثيرين مجرد دعوة إلى إحياء الماضي أو على الأكثر تأصيل الجديد في تربة القديم، وكأن الصدور عن “الأصل”أو “الأصول” هو بالضرورة مجرد عودة إلى الماضي، أم مجرد اجترار لتراث الأقدمين.
بيد أن كلمة “الأصالة” قد جرت على أقلام المحدثين بمعنى الطرافة، أو الجدة، أو الإبداع، فأصبح مفهوم الأصالة، يشير إلى معاني الابتكار أو التجديد أكثر ما يشير إلى معاني الإتباع أو التقليد. وقيل في تبرير ذلك أنه على الرغم من أن كلمة “أصالة” مشتقة من كلمة أصول، إلا أن المرء لا يكون أصيلا بحق إلا إذا كان هو أصل “ذاته”، بحيث لا يصدر إلا عن نفسه، في كل مظاهر سلوكه، فالأصالة تعبير على استناد الفرد إلى ذاته بحيث يكون هو “المبدأ المبدع” لكل ما في ذاته من جوانب شخصية فريدة. ولكل ما في سلوكه من مظاهر حيوية ذات أهمية. والواقع أن الإبداع حليف الحرية”، والحرية هي الأصل في ظهور “الفردية” فلابد للإبداع من أن يعمل على تأكيد “الفروق الفردية”، وإبراز مظاهر الاختلاف بين الذوات، ومن هنا فإن من شأن الحرية الإبداعية أن تأتي فتجعل من كل فرد منا “ذاتا” مستقلة، لها طابعها الشخصي وكأن أصالة كل منا رهينة باختلافه عن غيره، أو كأن صدور المرء عن ذاته هو الأصل في حريته واستقلاله الذاتي، ومعنى هذا أن الأصالة مصاحبة للإبداع أو بالأحرى شهادة حية تنطق باسم “الحرية الإبداعية”، لأنها بمثابة تعبير عن استخدام الحرية لقدرتها الإبداعية..ومسألة التراث الموسيقي هي مسألة وجودية تتعلق بكينونة الذات داخل هذا المحيط، فيها يتجلى طرح السؤال: من أنا؟ من أكون؟ هل أنا الآن أشبه ما أريد أن أكون عليه، أو ما يريد الآخرون أن أكون عليه؟ فالذات التي تستقبل الموسيقى هي ذات متغيرة ومتحركة..وبالنسبة للأغنية العيطية فإنها ستجدد ذاتها دوما مع الحفاظ على خصوصياتها إذا كان للفنان الأصيل وعي بمعنى العيطة، ووعي بالأغنية التراثية. فهناك من يجدد ويبدع في فن العيطة، وهناك من يشوهه ويظن أنه بذلك يطور هذا الموروث، وهناك من يمتطي على التراث الموسيقي من أجل تحقيق مكاسب شخصية وأرباح مادية وشتان بين هذا وذاك.
إن الإبداع والخلق يكون من الفرد ومن بعد تتبناه الجماعة، والعمل الأصيل هو في البدء جهد فردي يتجه بصاحبه نحو الاعتزال والوحدة، ولكنه بمجرد ما يتحقق فانه سرعان ما يهيب بالآخرين أن يتعاطفوا معه، ويعترفوا به، لأنه نداء إنساني يلتمس من البشر التقدير والإعجاب، ولعل هذا هو السبب في أن الأصالة الفنية قلما تكون أصالة الأغراب. كما أن البعض ليظن أنه لابد للعمل الأصيل من أن يتسم بأسبقية زمنية، بحيث يكون الأول من نوعه، ولكن الحقيقة أن هذه الأولوية التاريخية ليست شرطا أساسيا لكل “أصالة”، وبيت القصيد في العمل الأصيل أن يكون عملا إبداعيا له من قوة الحضور ما يستطيع معه أن يفرض نفسه على الأبصار أو الأسماع. فالأصالة ليست مجرد صورة من صور السبق أو المبادرة، بل هي تعبير عن الانجاز أو الإعجاز، الذي تستطيع الحرية المبدعة أن تحققه، ومن هنا فإنه ليس ما يمنع من أن تكون بعض الأعمال المتشابهة في الظاهر أعمالا أصيلة، على الرغم مما بينها من تشابه، ما دام كل منها يحمل طابعا نوعيا خاصا يعبر عن عملية إبداعية مستقلة. كما هو الشأن في عيطة “خربوشة” تلك العيطة العبدية، والمنسوبة في الأصل للشيخة الشاعرة “حادة الزايدية” الملقبة ب” حويدة الغياتية”، في هجائها للقائد العبدي “عيسى بنعمر”، الذي ضغى وتجبر على أفراد قبيلتها..فكانت لها نهاية مأساوية تراجيدية على يده كما تحكي الرواية العيطية..وبعد سنين أعادت فرقة بوشعيب البيضاوي والماريشال قيبو غناء هذه العيطة بصيغة نمط العيط المرساوي بعد إدخال تعديلات وتحسينات في الكلمات والتوزيع والألحان والآلات، لتصير بذلك أكثر تحضرا وتمدنا بدخولها إلى سهل الشاوية بحاضرة الدار البيضاء، ثم بعد ذلك بسنين ستعيدها الفنانة المتألقة “حياة الادريسي” في قالب أكثر عصرنة وبلون أركسترالي وبكلمات مستحدثة.. وجميع هذه الإبداعات لقيت انتشارا وإشعاعا، وحافظت لنا على العيطة الأم إن صح التعبير. ومن الفنانين الذين جددوا في فن العيطة، بإدخال آلات هجينة عصرية أجنبية حديثة، ومزجوا بين هذا التراث الموسيقي وموسيقى أجنبية في تلاقح للثقافات، حيث أضافوا إلي إبداعاتهم إيقاعات غربية وحتى كلمات أجنبية.. نجد هناك: الفنان الكبير “كمال عصام”، في العيطة المرساوية “ألباس” و “ركوب الخيل”، ومجموعة النجوم الشعبية “عبيد السعيدي وميكَري رضوان” في عيطة “المحوب” وعيطة “شعيبة”، والفنانة “حياة الإدريسي” في قصيدة “خربوشة”، والفنانة “زينة عويطة” في تنائي مع أيقونة العيطة المرساوية الفنانة “الحاجة الحمداوية”، في توليفة موسيقية عيطية تبرز تلاقح الثقافات مع الشيخة الحاجة الحمداوية المغربية والفنانة زينة عويطة الأمريكية الولادة والنشأة. ورغم أن هذه الإبداعات لم تلق شهرة واسعة، لكنها أعمال جيدة ومسوقة لثقافتنا الفنية وعرفت بموروثنا الثقافي وغنائه الموسيقي.
وهذا التجديد يعد مثال على التأصيل في المجال العيطي..وهذا ما حدا ببعض الباحثين إلى القول بأن العمل الفني عموما قد يكون أصيلا على الرغم من صدوره عن تراث فني سابق، ولكن بشرط أن يكون الفنان قد تمثل “التراث”، وأحاله إلى ذاته واستطاع بالتالي أن يصنع منه شيئا جديدا، ولا غرو أن الجديد أو الفريد لا يكتسب معناه إلا بالقياس إلى القديم أو العادي، ومن تم فإن الأصالة لا تنبثق إلا فوق خلفية من التراث، فضلا عن أن التجديد نفسه قد يكون عملية استبدال لتقليد بتقليد. والفنان الأصيل يبتكر ويجدد حتى حين يحاكي ويقلد؛ إنه يعرف كيف يحمل كل شيء إلى ذاته، لكي يلقي عليه طابعه الخاص، كما قال الأديب الألماني “غوته”: “إن ما ورثه عن أباءك وأجدادك، لابد لك من أن تعود وتكسبه من جديد، حتى يصبح ملكا خاصا لك”.
إن النص العيطي ليس بالنص المقدس، فهو شعر شفهي لم يتم توثيقه، ولم يتم تسجيل النص العيطي الحقيقي تسجيلا قانونيا رسميا، فهو تراث شفهي وصل إلينا بالتواتر مع ما رافقه من انحرافات وتغييرات حسب مزاجية و أهواء الرواة القبلية والإيديولوجية..إذ ليس هناك متنا عيطيا موحدا فحتى ذلك المكتوب هو فقط اجتهاد لباحثين، فالباحث نفسه قد يصيب أو يخطئ، يضيف إلى النص أو ينقص منه، ولا يمكن أن نجد أداء موحدا لنص من النصوص، فكل شيخ ناظم مؤدي يتغنى بما وقر في سمعه من الروايات، وقد يرتجل في لحظة انتشاء وغواية كلمات مستحدثة، لذلك لا يمكن أن نجد تطابقا كليا بين المكتوب والمسموع، وذلك راجع لكون الباحث لا يأخذ عن المغني فقط بل يعتمد أيضا على الروايات الشفوية غير المغناة، وقد يأخذ عن مصادر سمعية خاصة وقديمة قد لا تتوفر إلا عنده ..كما يصادف الباحث مشكل الانتقال من الشفوي إلى الكتابي، فالأدب الشفهي أو الشعبي صعب تدوينه على مستوى الكتابة الخطية، لأن اللهجة يجب أن تُكتب كما تُنطق، والنطق يختلف من منطقة إلى أخرى مع ما يصاحب ذلك من إدغام ونبر وإبدال للحروف، وكذلك نجد اختلافا على مستوى معاني بعض الكلمات من منطقة إلى أخرى، فهناك بعض الكلمات يتم حذفها لأنها قد تخدش الحياء في منطقة معينة أما في منطقة أخرى فيكون مسموح بها ولا تشكل عيبا، وكذلك مشكل الأشياخ المؤدين حيث هناك من يحفظ الكلمات خاطئة دون أن يتعمق في مغزاها والمقصود منها..هذا فيما يتعلق بالنص، أما بالنسبة للموسيقى والتوزيع والألحان فلا ينبغي أن نقتصر على إدخال آلات موسيقية جديدة، سواء منها الالكترونية والرقمية تساير العصر فحسب، فهذا ضروري وأمر مفروغ منه..بل المطلوب هو توسيع مجالات المواضيع التي تتطرق إليها العيطة واستكشاف ما بقي مطمورا وظل متواريا في مناطق الظل يتهدده الانقراض، كلما غادر الحياة شيخة أو شيخا يمثل حفظ الذاكرة.
إن الوضع الذي تعيشه الأغنية العيطية يدعو إلى الحسرة والقلق، رغم الانتشار الواسع الذي يلقاه هذا الفن، وعلى الرغم من النهضة التقنية واللوجيستيكية في ظل العولمة والتقدم الذي تحقق على مستوى التكنولوجيا الرقمية والإعلام الافتراضي، وعبر مختلف مواقع التواصل الاجتماعي.. لقد ظل الاهتمام بفن العيطة محدودا من طرف الجهات المختصة الوصية على قطاع الثقافة، وكذا تقصير منظمات المجتمع المدني والنقابات الفنية.. لكن في المقابل علينا دائما أن نجدد الشكر والتحية للسيدات والسادة الدكاترة والأساتذة الباحثين والإعلاميين..على مجهوداتهم الفردية الجبارة والقيمة، هم الذين اشتغلوا على فن العيطة والتراث الشعبي وأناروا لنا الطريق في هذا المنحى، وحافظوا لنا على هذه المعطيات الثمينة عن هذا الموروث.. فأنا كاتب هذه المقالة فنان شعبي عاشق ومولع بهذا الفن، ممارس ومهتم، موسيقي “كومنجي” ومغني لفن العيطة، أجتهد وأبحث كي أرقى إلى مستوى شيخ للعيطة، وأنقل ما وصل إلى علمي للمتلقي وللناشئة، وأكرر قولي أنني لست باحثا، لأن كلمة باحث هي كلمة كبيرة في عمقها وتعريفها الأكاديمي، وقد شقا الباحثون سنين طويلة، وأنفقوا من أموالهم وأوقاتهم للوصول إلى مراجع ومستندات علمية منها التي كانت مطمورة، ومنهم باحثون أكاديميون محنكون يجب دائما التذكير بأعمالهم والتنويه بها كنوع من التكريم، والترحم على الأموات، لهذا أعيد خلال كل مقال أكتبه عن فن العيطة أن أذكر وأشكر وأنوه بفخر واعتزاز هؤلاء الذين نبشوا وهبشوا، ونفضوا الغبار عن هذا الكنز المشترك بين المغاربة، هذا الموروث الثقافي اللامادي، رحم الله الأموات منهم وزكى في عمر الباقين الأحياء، وأذكر منهم الراحل رائد البحث والتحري العيطي محمد بوحميد، الله يرحمه، وحسن نجمي، وإدريس الإدريسي، وحسن بحراوي، ومحمد شقير، وأبو بكر بنور، ومحمد أقضاض، ومحمد الولي، وصالح الشرقي، وعبد العزيز بن عبد الجليل، وعبد الفتاح السليماني، وأحمد عيدون، وعباس الجيراري، وأحمد الصبيحي السلاوي، وعلال الركوك، وعبد الكريم الجويطي، وسعيد فاضلي، وعزيز خمريش، وبنسالم اكويندي، وأحمد الدافري، ومحمد بهجاجي، ومحمد قاوتي، ومضمون محمد، والتهامي الحبشي، وسالم عبد الصادق، وعبد السلام غيور، والغازي عبد الله، ونسيم حداد، والسهامي رشيد، وعلي المدرعي، والمصطفى حمزة، ولطفي العوادي وعبد العالي بلقايد.. ومنهم كذلك باحثون أجانب جذبتهم أنغام العيطة من قارات أخرى، كالباحثة الأمريكية “ديبورا كابشن”، التي أنجزت عملا هاما في موضوع العيطة ضمن بحث كلفت به من جامعتها ب”تيكساس”، والباحثة الموسيقية الايطالية “اليسندرا توتشي” الموفدة من جامعة أمريكية لدراسة هذا الفن موسيقيا وأكاديميا.. وجزيل الشكر لجمعية “أطلس أزوان”، في شخص رئيسها الأستاذ الباحث والخبير الموسيقي “ابراهيم المزند”، صاحب “أنطولوجيا العيطة”، هذا الفنان الباحث الذي قام بعمل كبير، عمل ثقافي أدبي توثيقي يتضمن كتابين باللغتين العربية والفرنسية، وأقراصا مدمجة مسجل عليها العديد من الأغاني العيطية بأصوات خيرة الشيخات والأشياخ من مجموعات عيطية غنائية من مختلف مناطق المملكة المغربية سيبقى مرجعا ومستنَدا مهما ضمن أرشيف الخزانة الثقافية الأدبية والفنية المغربية. شكرا لهؤلاء الباحثين والمهتمين بفن العيطة جميعا، وغيرهم من الذين لم تسعفني ذاكرتي على تذكرهم فمعذرة منهم.
بصفتي مهتم وممارس في هذا الميدان، فإنني جد متفائل لمصير هذا الفن العيطي، وهو يسير من حسن إلى أحسن، من بداوة إلى تمدن، ومن تقهقر إلى تحضر، رغم ما يقال عكس ذلك من بعض النقاد والفنانين المزاولين، فرغم رحيل العديد من الأشياخ والشيخات، ومات العديد منهم منسيا مقصيا..وكبر سن آخرين، فإن الجيل الجديد ما يزال حاملا للمشعل منكبا على تراثه برصيد ثقافي وتكوين موسيقي أكاديمي، هناك أصوات شبابية عيطية أتبثت جدارتها وميزتها وتميزها في الوسط الفني بفضل التسويق الجيد عبر شبكات التواصل الاجتماعي وتطبيقات التراسل الفوري أعطت لهذا الفن دفعة قوية، .. لقد صار أشياخ العيطة بمستويات دراسية وثقافية عالية، منهم من يحمل شواهد عليا: دكاترة “مهندسين، أطباء، إعلاميين، متقاعدين..”، وفانين مثقفين ودارسين للموسيقى أكاديميا.. ولم تفلح الأغاني الهاجمة من الداخل والخارج في محو هوية هذا الفن الأصيل وطمس روحه المغربية..
وجزيل الشكر للجهات المختصة بالشأن الثقافي بالمغرب، بما فيها وزارة الثقافة والشباب والرياضة، على الجهود التي تبدلها في شأن المحافظة وتأصيل هذا التراث، وإن كان ذلك الجهد والزحف يسير سلحفاتيا، إذ لا يمكن لنا أن نتجاهل وننكر تلك المجهودات الملحوظة والملموسة التي تصب في خدمة الأغنية المغربية عموما، ودعمها المادي المحتشم لبعض الفنانين المغنيين، ولا يمكن نسيان اهتمام بعض النقابات بالوضع الاعتباري لبعض الفنانين منهم أشياخ وشيخات، من أجل ضمان حقوقهم الاجتماعية ومساعدتهم في أزماتهم المادية ومحنهم الصحية..لكن مازالت الساحة الفنية الغنائية ومنها فن العيطة بالمغرب تعاني من نقص على مستوى الرعاية والدعم. إذ ليس هناك مخططا واضحا لدعم هذا التراث، وليست هناك إستراتيجية مخططة واضحة، فليس أن تقوم الجهات الوصية على القطاع الثقافي فقط بإحداث مهرجانات داخل المغرب وبعضها خارجه، وذلك بتكريم لفنانين عيطيين معروفين دون غيرهم وبطرق متكررة خارج أرض الوطن، هذا فعلا جميل لكن ليس كافيا لنقول أن فن العيطة صار فنا عالميا، وجعلت من بعض الفنانين سفراء لفن العيطة، فكلمة “سفير” كلمة كبيرة لها قيمتها، وبعدها ورمزيتها ومسؤوليتها، يجب على حامل هذا اللقب أن يكون أهلا لذلك، يوكون فنانا بمعنى الكلمة، “شيخ للعيطة” له خلفية ثقافية وتكوينا موسيقيا، وثقافة عامة، وتجربة حياتية وأخلاقية يحتدا بها..لتمثيل وتشريف هذه المسؤولية..وليس كل فنان ممارس للعيطة أو فرقة غنائية عيطية قاموا بجولة فنية عبر دول أوربية أو أمريكية يعدون فنانون عالميون وفنهم عالمي، فربما تكون الصدفة أو الطرق الملتوية هي التي سنحت وسمحت لهم بتلك الجولة الفنية السياحية، وهم خالين الوفاض من الثقافة الفنية الموسيقية..فإذا أردنا أن نرتقي بتراثنا العيطي إلى العالمية لابد من التكوين الموسيقي الأكاديمي، والتدريب العيطي، ودراسة اللغات العالمية، للتحاور والتخاطب ولمعرفة ثقافة الآخر، كما يجب تنشيط مراكز بحث علمية للبحث في المجال الموسيقي التي من خلالها يمكن تطوير هذا التراث والحفاظ على خصوصياته لكي يتخلص هذا الإرث من الفوضى والضجيج والعشوائية، هذا إذا نحن أردنا أن نمزج ونبدع تلاقحا وتمازجا ثقافيا عالميا، وتكون لنا عيطة عالمية.
ويجب على وزارة الثقافة أن تهتم بتراثنا الموسيقي كما فطنت إلى ذلك العديد من الدول، التي أولت فنها العناية والرعاية اللازمتين والضروريتين، وذلك بإنشاء أجنحة إضافية بالمعاهد الموسيقية لهؤلاء النادرين من الأشياخ والشيخات المحترفين ممارسي هذا الفن وصانعي الفرجة، والعمل على إلحاق مجموعة من الشباب الموهوبين موسيقيا والذين لهم استعدادا لتلقي هذا الفن ودعمهم وتشجيعهم ، من أجل التكوين وتلقي الدروس والاستفادة من تجارب وخبرات الرعيل الأول، وتمثل هذه الخبرات والمضي بها قدما نحو المستقبل، محققين بذلك عملية التواصل والتوصيل مع التراث، والتسلم والتسليم فيما بين الممارسين، لاستمرار فن العيطة وصونها من الضياع والتلاشي بضياع حامليها ورحيلهم..وبالتالي تطويرها والإضافة إليها بما يتلاءم وخاصياتها التي تحتضن تراثنا الأصيل. وهنا يكمن أهمية “الأشياخ والشيخات”، وكل العاملين في حقل العيطة، فضرورة رعايتهم والمحافظة على أيديهم وأصواتهم ، لأن تراكم الخبرات الفنية العملية والنظرية لدى هؤلاء الفنانين المغنيين، تعتبر كنزا من كنوز الوطن، ليس من الضروري المحافظة عليها وحمايتها وتطويرها فحسب، بل من الأهمية بمكان، حفظ هذه الخبرات وإيجاد شتى السبل لاستمرارها من جيل إلى جيل، ذلك لأن هذا الكنز الثمين قد يطمر ويقبر ولا يتكرر أو يعوض بنفس الخصوصية والنكهة المميزة، ولا بأس أن تتداخل العيطة وتتلاقح مع فن أو فنون أخرى تأخذ منها وتعطيها، وما أروع أن نبدع هجين جميل من الفن والصنعة، يشير للتراث الأصيل في جانب، وللعصر بكل عنفوانه وتطوراته المذهلة من جانب آخر، وذلك مع الحفاظ على روح الهوية المغربية.
نعم لتأصيل وتطوير فن العيطة الشعبي، وإغنائه بأمشاج من الألوان الغنائية الأخرى من أجل فتح هذا الفن على الجمهور العريض، وحتى نستطيع أن نعرف بفن العيطة وتثبت حضورها في المحافل الدولية، لكي تؤدي وظيفتها الثقافية والحضارية في ظل ما تشهده الساحة الفنية العالمية من أشكال غنائية متداخلة ..وحتى لا يبقى حضورها في المهرجانات الدولية الكبرى حضورا محتشما أو يكاد لا يكون.. كما لا ينبغي لنا أن نركن إلى التقليد والتمجيد من أجل التخليد، بل علينا أن نسعى إلى الإبداع والخلق والتجديد إذا نحن أردنا الذهاب بهذا الفن إلى بعيد، وعلينا أن نبتعد عن الطريق السهل المنذور للاجترار والتكرار بل اختيار سبيل الابتكار وخوض مغامرة الارتقاء بالفن العيطي، فإن لم نوفق سيكون لنا بذلك شرف المحاولة، وإن الفنان لا يبتكر ويجدد إلا بقدر ما يحاكي ويقلد، ويمكن القول بأن الأصالة نفسها مركب هجين يجمع بين عنصر التجديد وعنصر التقليد..فإن من يرى القديم بعقلية متفتحة لابد من أن يراه جديدا، في حين أن من يرى الجديد بعقلية منغلقة لابد من أن يراه قديما. وهذا هو السر في أن أصحاب الأصالة الحقيقية كثيرا ما يبدون أهل تجديد، حتى حينما يتناولون موضوعات سبق التطرق إليها..
إن تراثنا العيطي يحتوي على كنوز ثرية، وهو رأسمال لامادي، يجب دائما أن نعود إلى هذا التراث المرجع، لأننا لا نستطيع الاستغناء عنه، وأعتقد أنه إلى حد الآن لم نقدر على وضع موسيقى عيطية بما في ذلك اللحن الإيقاعي والميلودي والأشعار أحسن من روادنا الذين سبقونا هذه مدة قرون خلت وليس بسنوات، بل لم نستطع حتى أن نضع ما يعادلهم أو يقترب من إبداعاتهم، أعترف أن الإبداع يكون رهين بالظرفية التي يعيشها الفنان المبدع، أجدادنا المبدعين عاشوا ظروفا قاسية وصعبة، فأبدعوا فنا صعبا أصيلا، عمر قرونا ومازال حاضرا.. أنا لا أدعو إلى الرجعية، بل العكس، دائما أدعو إلى التجديد والإبداع، لكن علينا أن نستحضر ماضينا الجميل ونفتخر به، ونضيف إليه ما يشرفنا، ونسلم المشعل الفني للأجيال القادمة، التي ستنقله بدورها إلى الأحفاد.. وقد لا تتعارض الأصالة في بعض الأحيان مع عملية المحاكاة أو التقليد؛ لأن الفنان المبدع حتى حين يأخذ عن الآخرين، فإنه يعرف أن شخصيته ستظل هي المهيمنة على كافة التأثيرات التي سبق لها أن وقعت تحت طائلتها، وما أحوجنا في هذه الظرفية وفي هذا العصر أن يطلع الجيل الحالي وجيل المستقبل على التراث الموسيقي المغربي بكل أصنافه وتكون له دراية بكل أصنافه، ليكون فخورا أن له تراث وحضارة يقام لها ويقعد..
وبصفتي فنان شعبي شيخ للعيطة كومنجي ل”رباعة الشيخات”، وبتجربتي الميدانية ونحن اليوم في عصر السرعة، فالجمهور المتلقي لم يبق له ذلك النفس الطويل للاستماع إلى عيطة طويلة مدتها من ربع ساعة إلى ساعة ونصف، بل صار يطلب السرعة والتنويع في كل شيء؛ السرعة والتنويع في الإيقاع، وفي الأداء، وحتى في الرقصات، معبرين بذلك عن طلباتهم بمصطلحات وعبارات دخيلة صارت متداولة ومقبولة مثال: “بغينا شي حاجة راكشة”، “نايضة”، “زادحة رادحة”، “الحايحة”.. وقليل من الجمهور من يحن إلى العيط الماضوي متلفظا: “دير لينا شي حاجة من قاع الخابية”، أو “بغينا شي حاجة خاترة”، فأنا شخصيا أساير الجمهور في طلباته مع الحفاظ على النكهة الموسيقية العيطية، بتجديد في الموسيقى والتوزيع، والاختصار في المواضيع ..لهذا على الفنان العيطي أن يعي بخصوصيات المرحلة ويسايرها، كما ينبغي له أن يحس بالتقلبات المزاجية للكائن البشري المحيط به والوسط الذي يعيش فيه..فطبيعة تطور المجتمعات تفرض على أن يكون لكل مرحلة آليات لترويج إبداعاتها والتعبير عن خصوصياتها الآتية..فاليوم لم يوضع هكذا وإنما اليوم صنع من الأمس، الحاضر وليد الماضي، يعني أننا نجر وراءنا تاريخا. فعملية التجديد يفرضها العصر، لأن العصر أصبح يقوم على السرعة…ومن حسن حظ فن العيطة أنه على ارتباط وطيد بالأغنية الشعبية، يلقى إشعاعا وقبولا ودعما جماهيريا، لذلك نجد الأغنية العيطية دائما حاضرة، ودائما موجودة وستظل كذلك..بحكم أن هناك فنان عيطي مغربي أتبت وجوده، وهناك إقبال على الفن العيطي في الحفلات وفي الأعراس وفي اللقاءات وفي المطاعم وفي المقاهي وفي الملاهي وفي الحانات وفي الأسواق العمومية والساحات بل حتى على مثن القطارات وحافلات النقل العمومي.. إضافة إلى أن هذا الفن يستهلك في السر أكثر مما يستهلك في العلن، لذلك لا خوف على العيطة مادام هناك من يعيط ويطلب العيطة.
وختاما أختم هذا المقال وأنا أستحضر وأتذكر الشيخة وهي تغني أمامي في الحفل، تبتسم والدمع في مآقيها يترقرق، وحبالها الصوتية توشك أن تتمزق، وهي تعيط عيطة الحساب الزعري ولا تعي بما تنطق:
مذا عيطت… واش أنت ميت
كترة تهلالك….شكون بغاها لك
بكايا وشكايا …عليك مولايا
شلا ما يتكَال…ع اللسان تقال