العيطة بين الانفتاح والحفاظ على الهوية

جسر التواصل17 أكتوبر 2020آخر تحديث :
العيطة بين الانفتاح والحفاظ على الهوية

شيخ العيطة الحسين السطاتي

الغناء فن إنساني مشترك بين الشعوب، وحضارة الشعوب تُعرَفُ برُقي موسيقاها، ويَعرِف المغرب تنوعا هائلا في الموسيقى التي تختلف في سياقاتها التاريخية والجغرافية وطبيعة نشأتها والظروف التي ساعدت على وجودها وساهمت في بلورتها، كما يتميز الفن الموسيقي والغنائي بالمغرب عموما بالتنوع في الأشكال والمضامين، سواء منها الأغنية التقليدية أو العصرية، وذلك بتعدد إيقاعاتها ومقاماتها وألحانها، بما في ذلك الأشكال الغنائية العصرية التي تنشد التجديد والتحديث، والأغاني الأصيلة المرتبطة بالتراث، ومن بين الموسيقى التراثية نجد فن “العيطة”.
وهذا اللون الموسيقي هو من أعرق فنوننا الغنائية الشعبية، غناء البدو.. فن رعوي أصيل متجذر في التراث الشعبي، نداء كتعبير عن ألم مشترك، وعن الحب بلذاته وعذاباته..صرخة الإنسان القروي، وهو نداء القبيلة والاستنجاد بالسلف، لتحريك واستنهاض الهمم، واستحضار ملكة الشعر والغناء، بأشعار تحمل قيما إنسانية قوية، وقد تحولت بعض الأبيات والشدرات إلى أمثال شعبية خالدة يتداولها الكبار والصغار، وخير دليل نجده في هذه الأبيات ومنها الآلاف من عيطة “الحساب الزعري” المنبثقة من العيطة الزعرية:
العمود لحنين…كَاع يغسل لبطاين
جري يا صغري…على كبري
فوت عليك الخيل…وشوف ليك بغيل
الحبس والبرودة…يشيبو القرودة…
تهلا في الوالدين..راهم ليك عوين
الدميعات اللي عل لخدود..يبلغو المقصود
مشاو دوك الناس… وبقاو ع لماس
العود العلام… خانتو ليام…..
هذه أبيات زجلية عيطية بلغة ضاربة في عمق البادية المغربية، تتغنى بموسيقى ممتدة امتداد السهل والصحراء، وصدى أنغامها تردده أعالي الجبال الشاهقة الشامخة، وتحضنه أشجار الغابات العالية الكثيفة.. إبداع فيه مجاز، تعبيرات جذابة، وفيه كنايات وأشياء مثيرة، كلمات رنانة تتجه نحو سبر أغوار المشاعر الجياشة، التي تغمر الذات وتسعى إلى لفظها حارة بواسطة لغة عميقة وجارحة ليشرك الشيخ المغني في أحاسيسه المتلقي، غامرة أفقها المعجمي والدلالي بملفوظات ومقولات مستلهمة من القاموس الشعبي المتداول، مغنية بذلك الصور الشعرية بما تزخر به هاته المقولات من إيحائية وبلاغة، قد نجد أحيانا المستمع لا يستبين كلماتها التي يتغنى بها الشيخ المنشد، ولكن المتعود على هذا الصنف من الشعر الشعبي التقليدي يستلذها ويتذوقها جيدا، ويستمتع بترديدها، فأبيات القصيدة العيطية اهتزت لمعانيها ورناتها أعطاف الجماهير المثقفة وغير المثقفة، وجدير بالذكر أن الترنم بهذا الفن قد يبلغ من النشوة شأنا جميلا لمن يدرك معانيها ومع من يجيد أدائها..وعيط في اللغة تعني صاح، والعياط يعني الصياح، والعائط الصائح وجمع عيط عيطات.. ورغم ما أضيف إلى هذا الفن التراثي من تحسينات وتهجينه بآلات موسيقية عصرية، فقد عانى ولا زال يعاني من الإهمال سواء على مستوى الدراسة أو على مستوى التأليف والنشر، ويعاني من قلة المصادر التي يمكن أن يعتمدها الباحثون والمهتمون بعلوم الموسيقى، وعموم المواطنين الشغوفين بهذا الموروث الثقافي، إذ يشكل جزءا من الثقافة والهوية المغربية.. وهو غناء تراثي مركب، واكب مجموعة من التطورات الاجتماعية التي انطلقت من مخالطة اللسان العربي بصفة فعلية لسكان كثير من المناطق المغربية الأطلسية، التي تقع خلف الهضاب الأطلسية، عند أقدام جبال الأطلس المتوسط، وكذلك أقدام الأطلس الكبير في فسحة الحوز إلى منطقة تافيلالت سجلماسة، وكذا فيما يلي المناطق المجاورة بما في ذلك؛ الشاوية، ودكالة وعبدة إلى حدود مناطق حاحة.

و”العيطة” فنيا هي فن شعبي يأتي فيه الإيقاع الموسيقي مصاحبا للكلام، أشعار تغنى باللهجة العامية العربية المغربية، وهي أغنية مهيكلة على شكل أجزاء، تنطلق من بداية وتحتمل جزأين إلى تسعة أجزاء أو أكثر وتنتهي بخاتمة، كما أنها مجموعة من المقاطع الغنائية والفواصل الموسيقية الإيقاعية في منظومة تختلف عناصرها باختلاف أنواع العيطة نفسها. ويأتي التركيب كخاصية موسيقية وهوية إيقاعية وزجلية داخل فن العيطة..، فهي تتوزع إلى تسعة أنواع، تتنوع حسب تنوع المناطق الجغرافية التي تحتضنها، نجد هناك: العيطة الجبلية، والعيطة الغرباوية، والعيطة الزعرية، والعيطة المرساوية، والعيطة الحصباوية وتسمى أيضا بالعيطة العبدية، والعيطة الشيظمية، والعيطة الحوزية، والعيطة الملالية، ثم العيطة البلدية وتسمى أيضا بالعيطة الفيلالية الجرفية.
وهذا التراث هو مصدر فخر واعتزاز وقوة بالنسبة لنا كمغاربة، وليس مصدر دونية واحتقار كما يذهب إلى ذلك البعض، ولكي نحافظ على هذا الفن التراثي علينا صونه والإضافة إليه بما يشرفنا لكي يرقى إلى ما هو أحسن، نتأثر بالفنون الجميلة والرائعة، وننفتح على كل ما هو ايجابي، وراقي،وجميل، لأن رقي الفنان من رقي فنه ورقي الفن من رقي الفنان، وللرفع من شأن هذا الفن ينبغي أن تكون لنا رؤية واضحة وخلفية فنية راقية، تقتضي طرح مجموعة من الأسئلة حول هذا التأثير والتأثر، تأثير الانفتاح على الهوية، والتأثر بالنماذج الغنائية المستوردة من الخارج والدخيلة على ثقافتنا..فهل الأغنية العيطية ملزمة بالتقيد بالطريقة التقليدية الموروثة عن الأسلاف؟ وهل بصيغتها التراثية التقليدية مازالت قادرة على الاستجابة للذوق المحلي وإرضاء طلب المتلقي أمام الكم الهائل من الأشكال الغنائية الأخرى بما فيها الأجنبية التي تتسرب إلى المجتمع؟ وهل فن العيطة بصفته فنا غنائيا تراثيا قد انتهى فيه التجديد والصناعة الفنية ونكتفي بالتقليد والتمجيد؟ أم أن هذا الفن قابل للانفتاح على الأشكال الغنائية الأخرى بما فيها الدخيلة؟ وإذا كان انفتاح العيطة على محيطها الخارجي لابد منه بحكم أنها فن موسيقي إبداعي إنساني، فهل يعني أن يكون هذا الانفتاح مطلقا وليس له حدود أم ينبغي أن تكون له معايير وحدود معينة لا ينبغي تجاوزها؟
منذ سنين وفن العيطة منفتح على غيره من الألوان الموسيقية والغنائية الأخرى الوطنية منها والأجنبية، نجد هناك فنانون أبدعوا في الأغنية العيطية وجددوا فيها بطريقة تستجيب لروح العصر وتواكبه، وخير مثال لنا في سيرة الفنانة الشيخة “الحاجة الحمداوية”، التي لعبت دورا مهما في تحديث فن العيطة، وجعلته ينافس الغناء العصري، وهي التي استبدلت “رباعات الشيخات” التقليدية بآلاتهم البسيطة البدائية ” كمنجة، بندير، طعريجة، نواقس” ولباسهم التقليدي، “الجلباب، والقفطان، والتكشيطة، والطربوش والبلغة”.. بالجوق العصري بكامل عناصره وبأحدث آلاته؛ “الأورغ، الساكسفون، القانون، لباتري..”، وبلباسهم العصري.. وبفضل هذا التغيير الايجابي تحسن أداء العيطة بما لا يقاس مع ما كان عليه في السابق، إذ نهضت من البداوة وتهجنت نحو التمدن، وأعادت توزيع جمله الموسيقية وجددت إيقاعاته بانفتاحها على إيقاعات عصرية وأجنبية، وغيرت في الكلمات والألحان، وذلك في تناغم مع صوتها الرخيم الرائع حيث لقيت أغانيها ومقطوعاتها العيطية انتشارا واسعا يستهوي جميع الأذواق ويمس مختلف الطبقات الاجتماعية بعدما كان محدود الانتشار، ومازال يُغنى وسيظل كذلك، ومن بين روائعها الخالدة عيطة “منين أنا ومنين أنت” التي اقتبستها من العيطة الشهيرة “خربوشة”.. وآخر ابداعاتها تحديثها هذه السنة وهي في عقدها الثامن لرائعتها الخالدة “خوتا في الاسلام.. هزو بنا لعلام”، التي جددتها في ثنائي رائع “ديو”، مع الفنانة المغربية الأمريكية “زينة عويطة”، وأدتها رفقتها في تجاوب بين اللهجة المغربية واللغة الأنجليزية، كما سارت على نهجها في السابق مجموعة من الشيخات، منهن الفنانة “لطيفة أمال”، والشيخة “حليمة”..ونجد كذلك الفنان “عصام كمال”، الذي مزج بين الإيقاع الشعبي العيطي وإيقاعات غربية واستحدث كلمات في كل من عيطة “ألباس”، وعيطة “ركوب الخيل”، هذه العيطة التي أدت موسيقاها الأوركسترا السمفونية الهولندية وغيرهم..وعلى الصعيد الدولي نجد فرقة موسيقية نسائية فارسية من دولة إيران، تمزج موسيقاها بموسيقى العيطة الجبلية كما هو الشأن بفرقة موسيقية من الولايات المتحدة الأمريكية التي مزجت بين فن العيطة الجبلية بالغيطة والطبل كما هو عند فرقة “جهجوكة”، وإيقاعاتها العيطية بآلاتها الغربية وإيقاعاتها في توزيع موسيقي جديد، فلقيت أغانيهم انتشارا واسعا، كما نجد مجموعة من الفنانين من المشرق العربي ودول الخليج تغنوا بالعيطة المغربية وهذا خير دليل بأن اللهجة المغربية العامية ليست عائقا للانتشار بل الانفتاح الايجابي في الموسيقى والنص العيطي هما السبب في نجاح العمل الفني الغنائي..وقد استطاعت الأغنية العيطية بفضل فنانين مبدعين أن تثبت حضورها في المحافل الدولية وتسوق للفن المغربي التراثي..
تعيش العيطة فترة ازدهار ونجاح وإشعاع منذ سنين، ولا تعيش أزمة كشقيقتها الأغنية العصرية أو بعض الألوان الغنائية الأخرى، وذلك راجع لاقترانها بالأغنية الشعبية، فالعيطة من الشعب وإلى الشعب، تتغنى في أماكن متنوعة وأزمنة مختلفة، وهناك إقبالا كبيرا على الفن العيطي، حيت تغنى العيطة في الحفلات وفي الأعراس وفي اللقاءات الأدبية وفي المطاعم وفي المقاهي وفي الملاهي وفي الحانات وفي الأسواق العمومية والساحات بل حتى على مثن القطارات وحافلات النقل العمومي..وفي المناسبات الوطنية والأعياد الدينية، وحتى الحجاج العائدين من أداء مناسك الحج يتم استقبالهم أحيانا بفن العيطة.. إضافة إلى أن هذا الفن يستهلك في السر أكثر مما يستهلك في العلن، لذلك لا خوف على العيطة مادام هناك من يطلب.. ومن ينادي ويستنجد ويستغيث ويعيط. كما أن العيطة قد تجاوزت شهرتها الحدود، لكن في المقابل هناك انفتاح سلبي من بعض أشباه الفنانين، همهم الأول البحت عن النجومية المزيفة والربح التجاري، في غياب الرقيب والمحاسب من الجهات الوصية..أشباه فنانون ليست لهم رؤية مستقبلية ولا خلفية ثقافية لهذا الفن التراثي، ولا دراية لهم بنتيجة ما ينتجون، لا يطرحون على أنفسهم أسئلة إبداعية من قبيل “كيف؟ ولماذا؟ ولمن؟ ومتى يبدعون..؟


إن أمثال هؤلاء قد أدخلوا على هذا الفن التراثي بعض الشوائب في النص التي ظلت عالقة به من كلمات سوقية تحمل في طياتها حمولة جنسية فاضحة دون تشفير، فضرورة الحشمة في النص العيطي تستوجب التشفير والتلميح بدل التصريح..فبإمكان الفنان المغني الشعبي أن يجيش عواطفه وأحاسيسه ويغني عن الحب كيفما شاء في حد المقبول والمعقول، فهناك مواضيع مختلفة يتناولها، منها الهجاء والمدح والرثاء والغزل، وأحيانا حتى الغزل الذي يعتبره البعض غناء ساقطا خادشا للحياء.. على المغني الصانع أن يعرف حد حريته في الإبداع ..كما يمكن له التعبير حتى عن الحزن والشقاء بطريقة فنية من شأنها أن تنمي وترقي عواطفنا.. ومما زاد من مذلة هذا الموروث انتشاره في أماكن الشراب وأوكار الفساد بعدما كان يؤثث ليلة العرس وأيام الفرح والأنس، إذ زحفت عليه موجات متتالية من التمييع والتشويه لأصوله وثوابته، وتعددت مظاهر وألوان المساس بجوهره وبقيمته الفنية، واتسعت رقعة المسخ والتمييع، بدعوى التجديد والتحديث والحرية في الإبداع، وذلك رغبة في البحث عن النجومية المؤقتة ومراكمة الثروة والربح المادي، ومن أجل إثبات الذات والهيمنة على المشهد الفني فقط لأسباب شخصية ذاتية دون التفكير في تبخيس القيمة الفنية لهذا الموروث الثقافي اللامادي..لكن الواقع أتبت العكس وقلب الكثير من الموازين، مما حول صورة هذا الفن خلال فترة معينة إلى موجة من الانحطاط في الكلمات والمعاني الدخيلة عليه، تجاوزت الحدود بشكل سافر وفاحش فاضح، الشيء الذي ضاعف الإيلام الذي نابه وطاله بالابتذال والميوعة، فكان أن تحول خلال فثرة هذا الغناء السلس العذب، إلى عبارات مسكوكة ومقعرة يشتم منها المجون والرعونة وغياب الأخلاق..
نعم هناك اختلاف في الأذواق لكن هناك حد أدنى للإبداع يمكن أن يكون مقبولا، بحيث يحدث ذلك الإحساس الجميل الذي يمكن أن تتركه هذه الموسيقى وهذا الغناء من أثر في النفس، أن يكون إبداعا جادا يحمل رسالة ويؤسس لنجاح يمكن أن يدوم..فيمكن أن نبدع ونعبر عن العاطفة والحب وحتى عن النزوات بأسلوب فني مرموز يلقى صدا طيبا لدى المتلقي، لكن غير المقبول هو التفاخر بالكلام النابي الخادش للحياء بأسلوب متدني موغل في الرداءة..والرقص بطريقة سافرة وبايحاءات جنسية ضاربة في عمق الإباحية…
ورغم كل ما أصاب هذا الفن من جراح وتعطيل متعمد مقصود وتبخيس، فقد ظل صامدا وسيظل شامخا، ولا زال يحضا بالقبول وباشعاع واسع، وذلك على الرغم مما حصل من تغيرات وتحولات اجتماعية وثقافية وسياسية، وما طرأ من تغيير وبالأخص في البادية المغربية الموطن الطبيعي الأصلي لهذا الفن، ونأمل أن يستعيد هذا التراث تألقه وإشعاعه، ويعود لاحتلال مكانته تحت شمس المشهد الفني المغربي. نعم للتجديد الهادف الايجابي، نعم لانفتاح الأغنية العيطية وتطويرها دون إفراغها من حمولتها الثقافية ورسالتها ومحتواها الأصلي الحقيقي.. فالأغاني المنحطة لا تصنع هوية رغم التهافت المحموم عليها لفترة زمنية محددة، نريد تجديدا بدون تجريح، دون خدش للحياء، نريد فنا يحترم المتلقي، ليكون الهدف منه ساميا يهدف إلى نشر قيم الخير وزرع المحبة. والفنان المبدع الفاعل داخل حقل الإبداع عليه أن يكون نخبويا في تفكيره وأن يرقى عن كل ما هو متداول ومبتذل فذلك هو الفنان المسئول المنتج الجاد، الذي يحمل رسالة هادفة. ويمكنه أن يترك فنا قد يستمر ويخلد..

 

إن فن العيطة يشكل جزءا من هويتنا ومن تراثنا الفني الشفهي، و”الشيخات” هن فنانات مغنيات شعبيات مغربيات من بنات جلدتنا، لهن حضورهن القوي في الساحة الفنية المغربية رغم تلك النظرة الدونية التي ينظر بها البعض إليهن، فهن لسن أجسادا مكتنزة، وخصورا مستديرة، وأذرعا مزررة بالحلي والحلل، أو عارضات لثياب نسائية تقليدية، بل إنهن صوت المهمشات المنسيات، صوت لجغرافيا المغرب من شماله إلى جنوبه وغربه، صوت يتردد صداه في السهل والجبل والصحراء، صوت مغرب الأمس، صوت الاحتجاج ضد الظلم والقهر والبؤس والاستعباد والاضطهاد، صوت مغرب القواد والبشوات والأعيان.. لذا يجب أن نقف وقفة إجلال وأن نرفع التحية احتراما للأشياخ والشيخات صناع الفرجة الذين بفضلهم قام هذا الفن على امتداد مسيرة طويلة في مختلف مناطق المغرب ببواديه وحواضره، حيت صدحت حناجرهم بأصوات طربية في مناسبات وملتقيات مختلفة، أصوات أشياخ حملوا مشعل هذا الفن، وأصوات شيخات حافظات طباعات “عياطات”، استمد بفضلهن وجوده الفني وكينونته، فرغم رحيل العديد من الأشياخ والشيخات، وموت بعضهم مقصيا منسيا.. وكبر سن آخرين، فإن الجيل الجديد ما يزال حاملا للمشعل منكبا على تراثه، لقد صار أشياخ العيطة بمستويات دراسية وثقافية عالية، منهم من يحمل شواهد عليا دكاترة “مهندسين، أطباء، متقاعدين..”، وفنانين دارسين للموسيقى أكاديميا ومثقفين.. ولم تفلح الأغاني الهاجمة من الداخل والخارج في محو هذا الفن الأصيل، صحيح أن بعض الأشياخ والشيخات ماضيهم بائس وحاضرهم مبكي ومستقبلهم مبهم بلا أفق، هكذا كانوا ومازالوا، لكنهم دائما متواجدون، وحاضرون في الوجدان الشعبي للمجتمع.
بصفتي فنان شعبي ممارس لفن العيطة، عازف كمنجة “كوامانجي” ومغني لمجموعة الشيخات، وكاتب؛ قاص وروائي..، أحمل على عاتقي إظهار ارثنا الثقافي الحضاري العريق في جميع أعمالي سواء منها الغنائية أو السردية، لذلك تحضر العيطة في جميع أعمالي، “أغنية، مقالة، قصة، رواية..”، وشخصيا عملت وسأعمل جاهدا ما استطعت على الدفاع عن هذا الإرث الثقافي، وتطوير الأغنية العيطية التراثية دون إفراغها من محتواها الأصلي الذي جاءت من أجله. وذلك بتقديم لون فني غنائي يستمد روحه من العيطة يتماشى مع العصر مع الحفاظ على الهوية الفنية..
وواهم من يظن أن الشيخة ستنقرض، الشيخة ليست فنانة شعبية مغنية وراقصة فحسب، بل هي ظاهرة فنية اجتماعية، إذ لا يمكن تكوين الشيخات بمدارس أو معاهد موسيقية.. الشيخة خليط متجانس من هذا وذاك، خليط من الموهبة الفنية الغنائية، والقهر، والدكتاتورية الذكورية، والحرمان من الدراسة، وتزويج القاصرة، والاستغلال بكل أنواعه ومنه الجنسي.. هذا الخليط هو الخلطة السحرية التي تنتج لنا الشيخة، فبما أنه مازال هناك بالبادية المغربية استغلال للمرأة والحد من حريتها وحرمانها من العلم والعمل، وقهرها واستعبادها، وتزويجها قاصرة أو بالغة مكرهة بمن لا ترتضيه زوجا، ستظل هذه المرأة تصرخ وتنادي وتستنجد وستبقى “تعيط”، لهذا سنظل ننتج الشيخة بل صار لدينا الفائض منها، وقد نصدرها إلى الخارج بما في ذلك إلى دول الخليج وأوربا.

الاخبار العاجلة