أحمد إفزارن
دعوات إلى “مغربة العلمانية”..
وهذه الدعوات تنتشر أكثر فأكثر ببلادنا..
فهل هذا التصور هو الحل؟ وإذا كان كذلك، فهل هو ممكن؟ قابل للتطبيق، كما حصل في العالم الغربي؟
تساؤلات يتم تداولها.. وكتابات تخوض في هذا النقاش.. وتعتبر هذا التوجه “طريقا سالكة” إلى التعايش مع الاختلافات التي تعرفها بلادنا في تعاملاتها واستقطاباتها لأجناس وأعراق وديانات من مختلف أنحاء العالم..
دعوات تستند إلى حقوق “الاختلاط الإتني والتكنولوجي والليبرالي والاستثماري والتشغيلي”..
وهذا الاختلاط يزحف على بلدنا أكثر فأكثر، حاملا معه تساؤلات عن أوجه الحرية الفكرية والعقدية وغيرها، لتحقيق التعايش، وقبول الآخر، وتطوير حوار الثقافات، والاندماج، ومتطلبات أخرى للحياة المعاصرة…
– ولا تعارض لهذا النقاش مع العمق الديني!
الدين لا يعارض العلمانية.. والعلمانية لا تعارض الدين.. فبالعودة إلى التراث الفكري العالمي، نجد أن العقل الإسلامي هو من أنتج “فصل الدين عن الدنيا”..
وفي هذا السياق، نجد “ابن رشد” وغيره من فلاسفة العقل..
وفي مصر نجد “سعد زغلول” الذي أطلق عبارته الشهيرة “الدين لله، والوطن للجميع” (1919م)..
وعندنا في المغرب تيار فكري يتقوى أكثر فأكثر، به مفكرون وباحثون ومناضلون سياسيون منهم الكاتب “أحمد عصيد” الذي يناقش هذا الموضوع في بعده التاريخي والتعايشي، في كتابات ومحاضرات هنا وهناك..
ويعود السؤال القديم: هل يسير بلدنا – بالفعل – في اتجاه فصل الدين عن السياسة؟
المسألة ليست بسيطة.. ولا هينة..
فقبل الفصل الكامل بين الدين والدنيا، ومن مختلف زواياه، يتوجب تغيير رزمة من القوانين، وتوضيح الفوارق بين ” حق التعبد” وواجب المعالجة العقلانية للشؤون السياسية والاقتصادية والاجتماعية…
والهدف: أن يكون التعبد، بكل عمقه ونوعه وشكله، حقا شخصيا لا يجوز أن يتدخل فيه أحد، حتى الدولة نفسها، كما هو الحال في أوربا وأمريكا وغيرهما، حيث تحافظ الدولة على مسافة حيادية من الحقوق الشخصية..
وهذا يعني أن القوانين ببلادنا، في ضوء الاختلاط البشري المتكاثر يوما عن يوم، يجب ألا تكون قوانين “شرعية”، بالمفهوم الديني، بل قوانين مدنية، لكي يتم الفصل الواضح بين الشؤون الدينية والقناعات السياسية..
والدولة في حالة إعلانها أنها “دولة مدنية”، بقوة القانون، لا يحق لها أن تجبر أي فرد على اعتناق دين معين، أو التشبث بتقاليد معينة..
لكل شخص حرية الاختيار.. وحرية القرار.. ولا يحق لأي كان أن يتدخل في هذه الحرية الشخصية، التي تصبح مضمونة بقوة القانون..
والمواطن لا يكون محترما، في المنطق العلماني، لا بطريقة تعبده، بل فقط بالتزامه بالقانون..
– وتتم محاكمة كل من يخرق القانون..
القانون هو الأساس في كل الدول العلمانية، لأنه يقطع الطريق على كل من يستغل الدين لتحقيق مكاسب ذاتية..
وهذا القانون المدني ليس معارضا للدين، بل يضمن التعايش بين كل الأديان وكل المتدينين، وكل التوجهات الأخرى.. فما يجمع المواطنين جميعا، في الدولة العلمانية، ليس الدين بل القانون..
وهذه هي العلمانية كما هي معمول بها في العالم الغربي.. تضمن الحقوق الشخصية.. وتفرق بين شؤون الحياة اليومية المشتركة، ولا تتدخل في القناعات الشخصية حول الغيبيات..
والعلمانية، بهذا الشكل، ظهرت في أوربا، بأقلام أدباء وصحافيين منهم “فولتير” و”جيفرسون” وغيرهما..
وانتشرت العلمانية في العالم بشكل سريع، لكونها تلتزم بالحياد، في مسائل الاختلافات، تحت ظلال قانون مدني مشترك..
وعندنا تتناسل قناعات متنوعة، سياسية واجتماعية، تعتبر العلمانية فضاءا فكريا قابلا للتعايش بين الجميع..
وهذه العلمانية وصلت إلى الغرب من التراث الإسلامي الذي اعتمد الاجتهاد العقلاني في تفسير النصوص الدينية..
وبفضل ترجمة الفكر اليوناني، والإنتاجات الاجتهادية في أوج الحضارة الإسلامية، حصل العالم الغربي على أرضية خصبة لبناء تعايشه مع الاختلافات الدينية والمذهبية..
وعلى اساس العقل الإسلامي، وما تضمنه من تراث فكري يوناني، قامت أوربا بفصل الدين عن الدولة، بعد قرون من اضطهاد الكنيسة للعلماء والفلاسفة، واحتكار “قساوسة” للسياسة العامة، على أساس أنهم يتخذون قراراتهم، وهي مملاة عليهم من السماء..
– حتى وهي قرارات سياسية واقتصادية واجتماعية!
والقساوسة الذي كانوا يتكلمون إلى الناس باسم “الرب”، فشلوا وانتهوا في “الثورة الصناعية” التي غيرت الحياة العامة في أوربا، رأسا على عقب!
ويتذكر التاريخ أن “المحاكم الكنسية” قد أبادت علماء كثيرين، وأقدمت على تهميش العلوم الطبيعية، باسم “المسيح”..
وهكذا نصب “رجال الدين” أنفسهم أوصياء على الحكم، تحت غطاء ما كانوا يصفونه بالشرعية الدينية..
ثم جاء الخلاص من الكتب العقلانية التي ترجمها العرب عن اليونان، والكتب التي ألفها عباقرة عرب أنفسهم، فاكتشف الأوربيون أن البقاء للعقل، وألا تعايش بدون إبعاد الكنيسة عن الشؤون السياسية، أي عدم الخلط بين الدنيا والآخرة في معالجة قضايا الحياة الدنيوية المشتركة..
وبدأ الغرب يتطور.. بينما العالم الإسلامي تخلى عن الاجتهاد العقلي، وصار يتشبث بالنصوص، وبشكل حرفي.. وهذا أدى به إلى التقهقر..
وظهرت تفسيرات وتأويلات متناقضة.. ومعها أحاديث منسوبة للنبي، وهي ضعيفة، وكثير منها لا يصدقها عقل، ولا تتناسب مع المنطق، أي هي مجرد اختلاق..
– وهذا ما أدى إلى التخلف.. و”قانون الغاب”.. والتطرف والإرهاب..
وتحولت التأويلات إلى مشكل يهدد التعايش الإنساني.. فكل “فقيه” يدعي أن تأويله للنصوص القرآنية هو الأصح، علما بأن القرآن يقول بوضوح: “لا يعلم تأويله إلا الله” – قرآن..
وتراجع العالم الإسلامي بعد أن تراجع عن العقلانية في تسيير وتدبير شؤون الحياة الدنيا..
وإلى الآن ما زال جزء كبير من العالم الإسلامي يقحم الغيبيات في القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية المعاشة، ويكرر نفس الأخطاء التي كان يقترفها الغرب..
وما زال “فقهاء” يهيمنون على مقاليد الأمور الدنيوية باسم الدين..
وفي وقتنا الراهن، تقوى التيار “الغيبي”، وصار يستغل الدين لأهداف سياسية، ومكاسب وامتيازات دنيوية محضة..ومعهم انتشرت تجارة الغيبيات.. وازدهرت الشعوذة والخرافات والأضرحة…
واتسع الاتجار في الدين، لدرجة يمكن معها القول: إن لهذا التيار “المتأسلم” فضلا في الوعي الذي انتشر بمختلف أوساطنا الاجتماعية، خاصة بعد أن أصبح “فقهاء” يوظفون الدين لتبرير سلوكات مجحفة بحقوق الناس..
وتمكن حزب “متأسلم” من غسل دماغ فئة بشرية، واستغلالها باسم الدين، والركوب على ظهرها للوصول إلى مراكز القرار..
وقيادة هذا الحزب لا تفقه لا في “السياسة الدنيوية”، ولا في علوم العصر، ولا الاقتصاد، ولا في قضايا الشأن العمومي..
واتضح أن الفقر والجهل ينتجان فئة قابلة لاصطيادها من قبل أباطرة المخدرات، وأباطرة الإدارات، وأباطرة المال والأعمال، وأباطرة الأضرحة..
وصار بعضهم يجدون في النصوص الدينية ما به يبررون سلوكات هؤلاء اللصوص..
ورئيس الحكومة نفسه (السابق) أعلن أمام عدسات الصوت والصورة بخصوص شبكات “نهب المال العام”: “عفا الله عما سلف”!
وذهب أبعد، فحارب الحقوق الاجتماعية في بلدنا.. وحارب الصحة.. وحارب التعليم..
وجنح إلى سلوكات أخرى كثيرة..
واتخذ فيها قرارات سلبية يرجع لها الفضل في توعية الناس بضرورة الإسراع في الفصل بين الدين والدولة..
وبرزت تيارات تدعو إلى محاسبته، بقوة الدستور..
وإلى نهج نموذج سياسي من نمط العلمانية السائدة في العالم الغربي..
إننا نحن أيضا مهتمون بتوسيع فضائنا العمومي لكي يستوعب الجميع، كل الأطياف والأجناس والقناعات، للتعايش المشترك، كما هو الحال عند غيرنا..
وفي ضوء العلمانية السائدة في الغرب، ينتعش هناك التعايش، وحرية الفكر، والاعتقاد، والتطور العلمي، تحت قوانين مدنية، وسيادة “العهد الدولي لحقوق الإنسان” الذي صادق عليه المغرب..
والمغرب في قوانينه شق مدني، من النمط العلماني.. بينما يعاني تقهقرا في شقه الآخر المتعلق بالأسرة والمرأة والطفل، حيث القوانين متعثرة..
ويتضح أكثر فأكثر أن “استغلال الدين لأغراض سياسية” لا يمكن ان يؤدي إلا لسكتة قلبية..
– والخلاص يبدو في إلحاق قوانين الأسرة بالقوانين المدنية، إذا أرادت بلادنا أن تحتضن – إيجابيا – مهاجرين من مختلف أرجاء العالم، كي يساهموا بتنوعهم في تنمية البلد..
وإذا استمر التنافر بين نصوص قانونية وأخرى، فإن استثمارات وكفاءات تكنولوجية متطورة لن تتحمل إدارة مرتشية، وأباطرة يفسدون في الأرض، باسم الغيبيات..
– والحل: في “الفصل بين الدنيا والآخرة”!
ifzahmed66@gmail.com