د. محمد سعيد حسب النبي | أكاديمي مصري
اصطحب أحد الأثرياء ابنه في رحلة إلى بلد فقير ليريه كيف يعيش الفقراء، وأمضيا فيها بضعة أيام في مزرعة لأسرة فقيرة معدمة، وفي نهاية الرحلة سأل الأب الثري ابنه عن مدى إعجابه بالرحلة، فقال الابن بسعادة: كانت الرحلة ممتعة، فقال الأب: هل رأيت كيف يعيش هؤلاء؟! قال الابن: نعم، فقال الأب: ماذا تعلمت من هذه الرحلة؟ قال الابن: لقد رأيت أننا نملك كلباً واحداً، والفقراء يملكون أربعة، ونحن لدينا بركة ماء وسط حديقتنا، وهم لديهم جداول ماء ليس لها نهاية، ولقد جلبنا الفوانيس لتضيء حديقتنا، وهم لديهم النجوم تتلألأ في السماء، كما أن باحة بيتنا تنتهي عند الحديقة الأمامية، بينما لهم امتداد الأفق، لدينا مساحة صغيرة نعيش عليها، ولديهم مساحات تتجاوز تلك الحقول، لدينا خدم يقومون بخدمتنا، وهم يخدمون أنفسهم، نحن نشتري طعامنا، وهم يأكلون ما يزرعون، نحن نملك جدراناً عالية لتحمينا، وهم يملكون أصدقاء يحمونهم.. يا أبي لقد علمتُ يقيناً أننا نحيا حياة الفقراء.
عجيب أمر هؤلاء الذين يرون الحياة بعيون مختلفة، إنهم يحيون بيننا ولكن بقلوب مفتوحة وعقول مستنيرة، وفطرة صادقة لم يعبث بها عابث، ولم ينحرف بها حاسد، والأعجب منه أننا ننشأ في طفولتنا بوجدان نقي يرى الجانب المشرق من الحياة، نرى الوجود جميلاً ممتعاً، وما يلبث المحيطون بنا يغيرون ذلك، ليلونون الحياة بألوان قاتمة؛ فتتحول سعادتنا شقاء وربيعنا شتاء.
ولنعلم أننا في هذه الدنيا نعيش بحظوظ متقاربة، رغم ما يبدو في الظاهر من فوارق، ولو قُدّر لنا أن نطّلع على قلوب غيرنا لأشفقنا عليهم، ولرأينا عدل الموازين الباطنية رغم تباين الموازين الظاهرية، وبالتالي لانعدم شعور الحسد والحقد ولغابت مشاعر الزهو والكبر والغرور.
ولقد علمتنا خبرات الحياة أن القصور والجواهر واللآلئ ما هي إلا قشور خارجية، في قلوب ساكنيها والمتحلين بجواهرها ترقد الحسرات وتسكن الآهات، يشكون الكآبة والخوف، ويعانون الوساوس والأرق والقلق.
والذين افترشوا الأرض وتلحفوا السماء يستشعرون السعادة وراحة النفس وهدأة البال، لا يحملون هماً للغد ولا يشقون في انتظار ما يسوقه الغيب.
ومن الفطنة أن ندرك أن محصولنا من الشقاء والسعادة متقارب، على الرغم من الفوارق الظاهرية بين الأغنياء والفقراء، فالعذاب ليس له طبقة، وإنما هو قاسم مشترك بين الجميع، فقد نتجرع منه جميعاً كأساً علقمية، وفي النهاية تتساوى الكؤوس رغم اختلاف المشاهد وتباين الهيئات والطبقات والدرجات.
إن الاختلاف الظاهر بيننا هو اختلاف مواقف ليس أكثر، والرابح الأكبر هو من يعلو بنفسه ليرى الحكمة والعبرة والعدل والجمال في كل شيء.
•