
سفيان يامحمد
باحث في العلوم السياسية

عرف النظام السياسي الفرنسي تحولات عميقة منذ الثورة الفرنسية سنة 1789، وصولا إلى الجمهورية الخامسة التي أسست سنة 1958 بهدف وضع حد لعدم الاستقرار الحكومي الذي ميز المراحل السابقة، وقد جاء الدستور الجديد بمبدأ السلطة التنفيذية المزدوجة، حيث يجتمع رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء في إدارة شؤون الدولة ضمن نظام شبه رئاسي، إلا أن الممارسة أظهرت خللا في التوازن بين الطرفين لصالح رئيس الجمهورية.
1. سلطة التعيين والإعفاء بين النص والممارسة
تحدد المادة 8 من الدستور الفرنسي طبيعة العلاقة بين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، حيث يعين الرئيس رئيس الوزراء، وينهي مهامه حين يقدم هذا الأخير استقالة الحكومة.
يظهر هذا النص أن الرئيس هو مصدر السلطة التنفيذية، ورغم غياب نص صريح يمنحه حق الإقالة المباشرة، إلا أن قدرته على دفع رئيس الوزراء إلى تقديم استقالته تجعل منه المتحكم الفعلي في مصير الحكومة وتجديدها.
وقد ترتب عن ذلك أن أصبح موقع رئيس الوزراء هشا، يخضع لتوازنات ظرفية وسياسية أكثر مما يستند إلى شرعية برلمانية مستقرة.
2. استقالة الحكومة كآلية لتصريف الأزمة السياسية
إن تعدد حالات استقالة رؤساء الحكومات خلال السنوات الأخيرة يبرز كيف تحولت الاستقالة من أداة طوعية إلى آلية سياسية لتجاوز الأزمات.
فغالبا ما يلجأ الرئيس إلى قبول الاستقالة السريعة، إذ إن ذلك يتيح له تفادي مواجهة علنية مع البرلمان أو تجنب تصويت بحجب الثقة. وبالتالي، يجعل من هذه الاستقالات شكلا من أشكال تصريف الأزمة دستوريا دون حلها فعليا.
وإذا كان هذا النمط المتكرر من التعيين والإعفاء يعكس مرونة شكلية في النظام، فإنه في الجوهر يبرز هشاشة الصيغة شبه الرئاسية الفرنسية عندما تتراجع الأغلبية البرلمانية، فيصبح رئيس الوزراء ضحية لتوازنات لا يملك التحكم فيها.
3. تحصين موقع رئيس الجمهورية في مواجهة الأزمة الحكومية
في مقابل هذه الهشاشة يظل رئيس الجمهورية محصنا دستوريا، فالدستور لا يمنح البرلمان أي وسيلة لمساءلته أو سحب الثقة منه.
فهو وفقا للمادة الخامسة من الدستور يسهر على احترام الدستور وضمان استمرارية الدولة، أي أنه يعلو على الأزمات الحكومية والبرلمانية.
أما إنهاء ولايته قبل أجلها فمقتصر على حالات العجز الدائم الذي نصت عليه المادة 7، وهو إجراء ذو طبيعة قانونية.
إضافة إلى ذلك، يملك الرئيس سلطة حل الجمعية الوطنية طبقا للمادة 12، وهي وسيلة دستورية تمكنه من إعادة ترتيب المشهد السياسي حين يفقد الأغلبية، غير أن هذه السلطة، بعد تجارب متكررة، أصبحت محفوفة بالمخاطر في ظل برلمان منقسم وشارع سياسي متوتر.
4. انعكاسات الممارسة السياسية في عهد الرئيس الحالي
أظهرت تجربة السنوات الأخيرة عمق الأزمة المؤسساتية في فرنسا، إذ توالى على رئاسة الحكومة عدد غير مسبوق من رؤساء الوزراء، بعضهم لم يعمر طويلا في المنصب.
وتعكس هذه التحولات حالة من الارتباك داخل مؤسسات الدولة، حيث لم يعد الإشكال في الأشخاص بقدر ما أصبح في البنية نفسها التي تجعل الحكومة رهينة للأغلبية، والأغلبية رهينة لتوازنات قصر الإليزيه.
5. أزمة النظام بين النص والاستمرار
يبقى النظام الفرنسي أسير المفارقة التي صاغها دستور 1958، الذي جاء أصلا نتيجة سقوط الجمهوريات المتكرر، وأقر مبدأ العقلنة البرلمانية، لكنه في المقابل كرس مقتضيات تجعل رئيس الجمهورية قويا ودائما، في مقابل حكومة متغيرة.
ففي حين كان الهدف من هذا الدستور هو تحقيق الاستقرار، أصبح اليوم سببا في الشلل السياسي.
ومن هنا يبادر إلى الذهن سؤال جوهري: هل آن الأوان لإعادة النظر في موقع رئيس الجمهورية في النظام الدستوري الفرنسي؟
وهل يمكن الحديث عن استمرارية مؤسسة في ظل غياب استقرار حكومي فعلي؟
ربما يكون استمرار الأزمة مؤشرا على أن الإشكال لم يعد في رؤساء الوزراء المتعاقبين، بل في رئيس يرفض أن يعيد تعريف حدود سلطته.
Views: 85







