
شيخ العيطة الحسين السطاتي
يعيش العالم عصر التكنولوجيا والرقمنة، عصر الانترنيت وحياة العالم الافتراضي على مواقع التواصل الاجتماعي والتطبيقات الالكترونية، وقد صار العالم قرية صغيرة يمكن السفر والطواف حولها ومعرفة كل جديد عليها، انطلاقا من الإبحار عبر شاشة جهاز هاتف خلوي محمول بحجم كف اليد، والمغرب ليس بالاستثناء منه، لقد عرف تطورا في جميع المجالات وشتى الميادين، بما فيها الميدان الثقافي الأدبي والغنائي، وقد اكتسحت الآلة والرقمنة الأغنية المغربية بكل أصنافها وألوانها بما في ذلك فن العيطة.
والرقمنة هي التحويل الرقمي، وهي عملية تمثيل الأجسام، بما فيها الصور، والملفات، أو الإشارات (التماثلية)، باستخدام مجموعة متقطعة مكونة من نقاط منفصلة، وتعني أيضا التحول في الأساليب التقليدية المعهود بها إلى نظم الحفظ الالكترونية، هذا التحول يستدعي التعرف على كل الطرق والأساليب القائمة، واختيار ما يتناسب مع البيئة الطالبة لهذا التحول. والتحول إلى الرقمية ليس صيحة تموت بمرور الزمن، بل أصبح أمرا ضروريا لحل كثيرا من المشكلات المعاصرة في مختلف المجالات.
ويُعتبر فن العيطة من أهم وأشهر الأنواع الغنائية الشعبية التراثية المتداولة في المغرب، وكنزا فنيا زاخرا بأغنى الجمل الشعرية والتركيبات اللحنية والإيقاعية، وهذا اللون الموسيقي هو من أعرق فنوننا الغنائية الشعبية، غناء البدو.. فن رعوي أصيل متجذر في التراث الشعبي يجمع بين الموسيقى والغناء والرقص، نداء كتعبير عن ألم مشترك، وعن الحب بلذاته وعذاباته..صرخة الإنسان القروي، وهو نداء القبيلة والاستنجاد بالسلف، لتحريك واستنهاض الهمم، واستحضار ملكة الشعر والغناء..أشعار تغنى باللهجة العامية المغربية، تحمل قيما إنسانية قوية، مازالت تصدح بها حناجر المغنيين من أشياخ وشيخات منذ قرون خلت إلى يومنا هذا..فهو تراث أصيل ومعمر وفن حي متحرك ومتجدد. فن يجمع بين الأصالة والمعاصرة، ليؤكد أصالته في أشكاله وقوالبه الموسيقية التقليدية، كما يؤكد حداثته في الاستفادة من الأحداث والوقائع كعوامل مثيرة للإبداع والتجديد والإنتاج، وهو أشبه بالنذر المرصود الصعب.. فهو بقدر ما يضرب في الماضي الأبعد والأقرب، يضرب في الحاضر والآتي أيضا.. وإذا تأملنا في هذه الأبيات العيطية من عيطة “دامي” تلك الرائعة المرساوية، نجد هذا الفن صالح لكل زمان ومكان وكأن الناظم الزجال كان سابقا لعصره بقرون وكأنه يتنبأ بما ستؤول إليه أوضاع فنه في عصر أحفاده كما جاء في هذه الأبيات:
لله يا دامي ….هواك عداني
بلاني وعداني….ومشى وخلاني
خليني نبكي…على أيام مشات
من حر الكيات…درت جوج امات
بكايا وشكايا…عليك مولايا
بكايا وشكايا…على صحاب الحال
العود اللي كسبتيه….علاش بدلتيه
ياك كسبتيه وعلفتيه..علاش عيبتيه
بعتي وشريتي….الله يسعدك بيه
جديدك لبسيه…والبالي لاتفرط فيه
إن هذه الأبيات العشرة هي من بين عشرات الأبيات المغناة في عيطة “دامي”، تم إبداعها هذه مدة عقود مضت، وهاهي اليوم تُكتب كمرجع في هذا المقال، ومازالت وستظل تُغنى وتُطرب الأجيال. لقد كانت العيطة تؤدى بآلات موسيقية بسيطة بدائية وبأصوات صافية عادية خالية من أية تعديلات، بجودة في الكلمات المنتقاة والأوزان والألحان الرائعة، فكانت ومازالت تنعش الروح وتطرب الوجدان بإبداع متكامل؛ حلاوة في سرد الكلمة وعذوبة في النغم وطراوة في الأداء..كانت للأغنية رسالة تحمل دلالات ثقافية وسياسية واجتماعية وعاطفية.. فكيف تم هذا الإبداع الفني الخالد؟ وكيف استطاع أن يحافظ على بريقه وتألقه في عصر الآلة “الماكينة” والتيكنولوجيا الرقمية الحديثة؟..وهل الآلة والرقمنة تسير بالعيطة إلى تحضر أم إلى احتضار؟..
وإذا أخذنا مثلا بعض الأبيات الزجلية من عيطة “الحساب الزعري” المنبتقة من “العيطة الزعرية” على سبيل المثال:
تبعتي الفايسبوك….حتى فقستي بوك.
تبليتي باليوتوب….ع الله يعفو ويتوب
اليوتوب والفايسبوك…هما اللي هتروك
ولد البوحاطي…بايت يشاطي
إذا استمعنا إلى هذه الأبيات مغناة في سهرة أو عرس نجد نفس الجمل الموسيقية اللحنية القديمة إنما الصوت والكلام هو الذي تغير، رغم أن الفارق بين الكلمات والألحان يتعدى عشرات السنين، فقد رُكبت الأبيات العيطية المستحدثة في عصر مواقع التواصل الاجتماعي، أما الموسيقى اللحنية والإيقاعات فقد تم إبداعها عشرات السنين. وبحكم التقدم التكنولوجي وتطور الماكينة الإعلامية والمنافسة الحامية بين القنوات الفضائية الفنية الغنائية، ومواقع التواصل الاجتماعي، أضحت الأغنية المصورة والسريعة الإيقاع تستحوذ على مساحة واسعة من البث والحضور، بل صارت الأغنية غطاء للترويج لأنواع السلع التجارية والمنشآت العمرانية كما هو الحال بالنسبة لبعض الوصلات الاشهارية التي شارك فيها بعض أشياخ العيطة ومجموعات من فن “عبيدات الرمى”..
إن الأغنية العيطية هي أغنية شعبية مركبة، مجهولة المؤلف، وقد قطعت أشواطا طويلة حتى وصلتنا في حلتها الجديدة، فقد كانت في البداية تنقل عن طريق الحفظ شفويا، رغم وجود صعوبات وعراقيل بما في ذلك ندرة الوسائل اللوجيستيكية والتقنية، بما فيها قلة الآلات الموسيقية والتسجيلية، وانعدام وسائل التواصل بين الأشياخ والشيخات، وصعوبة طريقة التنقل ليجتمعوا فيما بينهم، إضافة إلى عيشهم وسط مجتمع محافظ يعشق فن العيطة بهوس وجنون وينهى عن تعلمها ومزاولتها ومنهم من يحرمها.. مجتمع يحب الشيخة بالليل وينبذها بالنهار..ورغم ذلك كان أفراد الفرقة المغنية العيطية يجتمعون ويتدربون فيما بينهم بالمباشر عن طريق التكرار والاجترار، وبما وجد لديهم من آلات موسيقية بسيطة وترية كانت أو نفخية وإيقاعية.. إلى أن يتمكنوا من حفظ القصيدة العيطية والتمكن من طريقة أدائها، وبعد ذلك يحضرون الحفل جماعة “أشياخ وشيخات” في أزيائهم التقليدية ويؤدون فنهم، فيبدعون ويطربون، ويمتعون ويقنعون المتلقي الشغوف بفن العيطة.. وكانت الأغنية العيطية تؤدى وتعزف بآلات تقليدية بدائية ومحلية، أصوات نقية صافية لا تحتاج إلى مكبرات الصوت، ولا إلى مُعدِلات أو مؤثرات إلكترونية، آلات بسيطة تصنع من طين وخشب وجلد؛ وتار وكمنجة من خشب، أوتار من أمعاء حيوانات، بنادير وطبول ودفوف من خشب مجلد بجلود الأنعام، وطعريجة ودربكة من طين تعلوها جلود ، وشبابات من أعواد القصب..كل شيء كان طبيعيا لا تكلف فيه، وصدحت حناجر الأشياخ والشيخات بعيطات خلدت سنين طويلة بل قرون ولازالت رائجة، كانت الشيخة تتسلطن وتشدو لتطرب بصوت جميل، كما كان الشيخ المغني يشدو بصوت صافي عذب وفق لحن مضبوط وجذاب، وبناء على كلمة هادفة ذات بعد جمالي وعمق..على الرغم من البساطة الفنية في الإنتاج والنشر والتوزيع ورغم غياب القنوات الفضائية ووسائل التواصل الحديثة والآلات المتقدمة، في تلك العقود شهد فن العيطة ازدهارا كبيرا وضمت الساحة الفنية نجوما كبار مازالت أسماءهم خالدة، بفضل إسهامهم بترك بصمات خالدة على هذا الموروث اللامادي..ولازالت شريحة كبيرة من الجمهور تعشق وتحن إلى هذا الماضي الفني وتطلب هذه البساطة في الأفراح والأعراس وفي سهراتها الخاصة..واليوم قد أُدخلت على الأصوات مُعدِلات ومؤثرات بل مغيرات الصوت، وأُقحِمت آلات موسيقية كهربائية، وإلكترونية ورقمية، ولآلات أجنبية وترية وإيقاعية ونفخية وتقنية، وماكينات عصرية غربية هجينة، وأضيفت إلى الأغنية العيطية ألحانا جديدة وكلمات مستحدثة، ورغم ذلك لم يدم صدى هذه الأعمال الفنية الجديدة سوى بضعة أشهر بل بضعة أسابيع وخمد ضوءها وانطفأ وهجها.
أما في هذا العصر، فقد صارت الأغنية تحتاج إلى مجموعة من اللمسات الفنية وإلى جملة من العمليات الفنية والتقنية من أجل تحضيرها وتسجيلها، قبل أن تتحول إلى عمل إبداعي متكامل، وتصبح في متناول المتلقي، عبر مختلف الوسائط الإشهارية الترويجية، وذلك راجع لتطور التكنولوجيا وظهور البرمجيات المعلوماتية “لوجيسيال”، المستعملة في مجال التسجيل والتصوير وعلى مدى مستوى عمليات ما بعد الإنتاج بإذاعتها وترويجها عبر شبكة الانترنيت وعبر وسائل التواصل الاجتماعي بمختلف أنواعها..فبفضل هذه المكننة والرقمنة استطاعت العيطة أن تتجاوز الكثير من الصعوبات التقنية وأصبح بإمكان المبدعين العيطيين “أشياخ وشيخات”، أن ينجزوا أعمالهم الفنية في ظروف أفضل وأسهل وأبسط.. فيا ترى هل الأغنية العيطية استطاعت أن تستفيد إبداعيا من هذا التطور التكنولوجي؟ وهل أدت الرقمنة إلى إحداث تغييرات في الإبداع العيطي؟ وكيف هو حال الأغنية العيطية في خضم التيكنولوجيا والرقمنة؟ وهل التقدم التكنولوجي والرقمنة عملا ايجابيا في حقل العيطة وساهما في انتشارها والرقي بها أم كانا السبب في ابتذالها وتقهقرها؟..
في هذا الزمن طغت النزعة الاستهلاكية إلى حد غير مقبول وغير معقول تبرره الأنانية وحب الذات، صرنا نرى التهافت والبحث عن النجاح الفوري، والعمل على الوصول بسرعة دون التوفر على الإمكانيات والمؤهلات الفنية والنفس الطويل..وهذا نتيجة لتغيرات العصر ووتيرة السرعة التي يسير بها، حتى كدنا أن نفقد البوصلة الفنية وأوشكنا أن نتيه عن الهوية المغربية.. فحاليا يمكن لأي شخص أن يصبح فنانا مغنيا، بإمكانه أن يصبح فنانا شعبيا لكن ليس شيخا عيطيا لأن للعيطة ضوابطها وقواعدها، فبفضل المعدات التكنولوجية الحديثة والرقمنة صار كل من هب وذب يلج عالم الأغنية، وأضحت الأغنية تعتمد على الإثارة في الكلمات والصور، كما أن أكثرها بات لا يحمل أية رسالة أو قيم تعكس الهوية المغربية، وصار الغناء مهنة من لا مهنة له، والكل يريد أن يغني..يكفي أن يتوفر الشخص على بعض الدهاء والذكاء، وأن تكون بحوزته آلة “أورغ” ذو جودة صنع عالية مزودا بجهاز حاسوب “كومبيوتر” يتوفر على شرائح الكترونية رقمية قوية المفعول وعالية الجودة في المعالِجات الكومبيوترية، ومبرمج بتقنيات وبرامج تطبيقية حديثة..فيصير الشخص فنانا بين عشية وضحاها..وبفضل هذا الاختراع الآلي الموسيقي العجيب سهلت على الممارس المأمورية وطاعت بين يديه الموسيقى وطاب المغنى، فهذا الجهاز الآلي يحمل تسجيلا إلكترونيا رقميا لمختلف الآلات الموسيقية بجميع أنواعها وأصنافها، كما يسمح لمستعمله بتسجيل أية نبرة صوتية تعجبه ليقلد بل ليقرصن صوت فنان مشهور، كما صرنا نشاهده في ظاهرة فنانو “الديدجي”، حيت نجد فردا واحدا، ينشط حفلا سهرة أو عرسا وأمامه آلة الأورغ وجهاز الكومبيوتر، محدثا بذلك ضجة فنية وضجيجا غنائيا وسط الجمهور، وأحيانا تجده فقط بالأحرى يحرك شفتيه على الميكروفون، في عرض ممسرح تمثيلي، أما الحقيقية فكل شيء مجهز ومبرمج مسبقا بفضل الآلة والرقمنة ..حيث يتم تسجيل الحفل الراقص دون احترام لخصوصية المدعوين ووضعه على مواقع التواصل الاجتماعي والتطبيقات ليحصد ملايين المشاهدات ويحقق الانتشار الكاسح..وبهذا فقد عوضت هذه الآلة الموسيقية المغنية الالكترونية الرقمية، جوقة من الفنانين منهم العازفين والتقنين والمنتجين وحتى الموزعين والمروجين الاشهاريين..فخلطت الأوراق بين فنان حقيقي وفنان رقمي مزيف، وساهمت في بطالة وعطالة عدد من الفنانين الموسيقيين والمغنين.
وكما للمكننة والرقمنة جانب سلبي لها أيضا جانبها الايجابي الكبير ومزاياها الكثيرة، وصار بإمكان الفرد الطموح المجتهد أن يصل إلى هدفه الفني ويحقق حلمه.. صارت الآلات الموسيقية متوفرة وفي متناول الجميع، كما أن وجود الهاتف الخلوي المحمول سهل الأمور، حيث يمكن للفرد وهو بمنزله أو على كرسي بالمقهى أن يبحر من هاتفه المحمول عبر مواقع التواصل الاجتماعي “الفايسبوك، اليوتوب، التويتر…”، فيجد ضالته من دروس موسيقية، وتسجيلات صوتية وسمعية بصرية لأشياخ وشيخات ولمختلف أنواع العيطة.. كما صار بالإمكان التسجيل بجودة عالية وبتكلفة أقل، لكن ليست بنفس الجودة الفنية الحسية الطبيعية التي كانت فيما قبل، إذ لوثت طعم رنة الموسيقى الطبيعية. وبفضل التقدم التيكنولوجي أصبح بإمكان الممارسين لفن العيطة أن يتواصلوا فيما بينهم عن بعد، كل من مكانه الذي يوجد به ومن المدينة التي يسكن بها، حيث تتم التداريب وتبادل المعلومات ومناقشة الأفكار، وقد يمكن لمجموعة الشيخات التي تحيي عرسا بدوار أو مدشر نائي بقرية في الجبل أن تنقل ذلك العمل بالمباشر على أوسع نطاق داخل المغرب وخارجه انطلاقا من تتبيث شاشات رقمية بمكان الحفل. لكن رغم كل هذا التطور التكنولوجي الرقمي يبقى الإنسان هو الأقوى، لأنه هو الذي اخترع الآلة وهو الذي يسيرها، ولا ولن تعوض الآلة الإنسان.
ومن هنا نقف على فأتين من الفنانين الغنائيين الشعبيين والعيطيين؛ فئة فطنت إلى رغبات السوق مؤمنة بالقولة ” الجمهور باغي بحال هكذا”، معتمدة على وسائل المكننة والرقمنة والسماسرة، وجشع إغراء الإثراء السريع.. فتحول الشخص الواحد منهم إلى فنان وإلى منتج “الكم” على حساب “النوع”، لتلبية رغباته الشخصية الذاتية وتحقيق الانتشار، وبالتالي استغلال الفرص وتحقيق أكبر قدر ممكن من الربح المادي بأسرع وقت، وهذا راجع إلى ميكنة هذه الصناعة الفنية، فأعطب بذلك جانبا تعبيريا وفنيا مهما فيها..وهناك الفئة الثانية من الأشياخ والشيخات، التي التزمت الأصول الصحيحة لإيمانها بقيمة وأهمية ما تنتجه، كتعبير وموضوع ورمز..وهؤلاء عادة يتعثرون في حياتهم الشخصية ويبقون فقراء وقد يموتون أدلاء، إن لم تقدم لهم يد المساعدة والرعاية من الدولة، أو من جهات مثقفة وواعية، تدرك قيمة منتوجهم وتقدره. وتكفي نظرة إلى الأشياخ والشيخات العيطيين تؤكد أن جلهم يخرجون من الحياة بخبرتهم الرفيعة وكرامتهم، يرافقهم إحساس مر بالغبن والحسرة والجحود! لأنهم أصبحوا يعيشون في زمن غير زمانهم.
إن التراث الحقيقي والأصيل هو ما يستمر بين الناس، وهو الماضي الأقرب الذي يختصر ويختزل الماضي الأبعد. والحياة الشعبية هي الوعاء والحاضن لهذا التراث، بل هي رحمه الحنون التي يتناسخ فيه ويتجدد، ويبقى الفنانون الشعبيون “الأشياخ والشيخات”، هم المسئولين الأولين عليه، وهم سدنته وحراسه وحاملي صيانته وحفظه واستمراره. كما أن أصالة فن العيطة عموما تكمن في امتداده التاريخي، وهو يشكل جزءا من هويتنا الثقافية، وكل واحد منا مسؤول من موقعه على حمايته.. ومن أجل الحفاظ على هذا الفن وصونه من الضياع، علينا أن نكثف الجهود، وأن نحمل المشعل إلى الأجيال القادمة، فلكي نضمن استمرارية هذا النمط من الغناء الأصيل، نحن في أمس الحاجة إلى تبصير الشباب بجذور هذا الفن وألوانه وموضوعاته، كل منا حسب استطاعته ومعرفته؛ “ممارسين، باحثين، إعلاميين، جمعيات، مؤسسات وصية…”، كما يتوجب علينا توثيق ذلك المتن القليل الذي وصلنا منه، واستغلال التكنولوجيا التطبيقية بما فيها المكننة والرقمنة استغلالا ايجابيا، بصفة فن العيطة إرثا مشتركا، وهو إنتاجا فنيا قام بالتعبير عن هموم وأفراح الإنسان الشعبي خلال فترة حاسمة من تاريخه، وسجل لنا مظاهر حية من معيشه وطقوسه وأحلامه.. فقد حان الوقت لسبر أغوار هذا التراث الأصيل على أسس علمية لإعادة الاعتبار إليه. ولما لا فقد نبدع ونخلق عيطات غنائية جديدة تصل إلى مستوى أو تقارب ما تركه أجدادنا.
إن الوضع الذي تعيشه الأغنية العيطية يدعو إلى الحسرة والقلق، رغم الانتشار الواسع الذي يلقاه هذا الفن، وعلى الرغم من النهضة التقنية واللوجيستيكية في ظل العولمة والتقدم الذي تحقق على مستوى التكنولوجيا الرقمية والإعلام الافتراضي، وعبر مختلف مواقع التواصل الاجتماعي.. لقد ظل الاهتمام بفن العيطة محدودا من طرف الجهات المختصة الوصية على قطاع الثقافة، وكذا تقصير منظمات المجتمع المدني والنقابات الفنية.. لكن في المقابل علينا دائما أن نجدد الشكر والتحية للسيدات والسادة الدكاترة والأساتذة الباحثينوالإعلاميين..على مجهوداتهم الفردية الجبارة والقيمة، هم الذين اشتغلوا على فن العيطة والتراث الشعبي وأناروا لنا الطريق في هذا المنحى، وحافظوا لنا على هذه المعطيات الثمينة عن هذا الموروث.. فأنا كاتب هذه المقالة فنان شعبي عاشق ومولع بهذا الفن، ممارس ومهتم، موسيقي “كومنجي” ومغني لفن العيطة، أجتهد وأبحث كي أرقى إلى مستوى شيخ للعيطة، وأنقل ما وصل إلى علمي للمتلقي وللناشئة، وأكرر قولي أنني لست باحثا، لأن كلمة باحث هي كلمة كبيرة في عمقها وتعريفها الأكاديمي، وقد شقا الباحثون سنين طويلة، وأنفقوا من أموالهم وأوقاتهم للوصول إلى مراجع ومستندات علمية منها التي كانت مطمورة، ومنهم باحثون أكاديميون محنكون يجب دائما التذكير بأعمالهم والتنويه بها كنوع من التكريم، والترحم على الأموات، لهذا أعيد خلال كل مقال أكتبه عن فن العيطة أن أذكر وأشكر وأنوه بفخر واعتزاز هؤلاء الذين نبشوا وهبشوا، ونفضوا الغبار عن هذا الكنز المشترك بين المغاربة، هذا الموروث الثقافي اللامادي، رحم الله الأموات منهم وزكى في عمر الباقين الأحياء، وأذكر منهم الراحل رائد البحث والتحري العيطي محمد بوحميد، الله يرحمه، وحسن نجمي، وإدريس الإدريسي، وحسن بحراوي، ومحمد شقير، وأبو بكر بنور، ومحمد أقضاض، ومحمد الولي، وصالح الشرقي، وعبد العزيز بن عبد الجليل، وعبد الفتاح السليماني، وأحمد عيدون، وعباس الجيراري، وأحمد الصبيحي السلاوي، وعلال الركوك، وعبد الكريم الجويطي، وسعيد فاضلي، وعزيز خمريش، وبنسالم اكويندي، ومحمد بهجاجي، ومحمد قاوتي، ومضمون محمد، والتهامي الحبشي، وسالم عبد الصادق، وعبد السلام غيور، والغازي عبد الله، ونسيم حداد،والسهامي رشيد، وعلي المدرعي، والمصطفى حمزة، ولطفي العوادي وعبد العالي بلقايد.. ومنهم كذلك باحثون أجانب جذبتهم أنغام العيطة من قارات أخرى، كالباحثة الأمريكية “ديبورا كابشن”، التي أنجزت عملا هاما في موضوع العيطة ضمن بحث كلفت به من جامعتها ب”تيكساس”، والباحثة الموسيقية الايطالية “اليسندرا توتشي” الموفدة من جامعة أمريكية لدراسة هذا الفن موسيقيا وأكاديميا.. وجزيل الشكر لجمعية “أطلس أزوان”، في شخص رئيسها الأستاذ الباحث والخبير الموسيقي “ابراهيم المزند”، صاحب “أنطولوجيا العيطة”، هذا الفنان الباحث الذي قام بعمل كبير، عمل ثقافي أدبي توثيقي يتضمن كتابين باللغتين العربية والفرنسية، وأقراصا مدمجة مسجل عليها العديد من الأغاني العيطية بأصوات خيرة الشيخات والأشياخ من مجموعات عيطية غنائية من مختلف مناطق المملكة المغربية سيبقى مرجعا ومستنَدا مهما ضمن أرشيف الخزانة الثقافية الأدبية والفنية المغربية. شكرا لهؤلاء الباحثين والمهتمين بفن العيطة جميعا، وغيرهم من الذين لم تسعفني ذاكرتي على تذكرهم فمعذرة منهم.
بصفتي مهتم وممارس في هذا الميدان، ففن العيطة يسير من حسن إلى أحسن، من بداوة إلى تمدن، ومن تقهقر إلى تحضر، رغم ما يقال عكس ذلك من بعض النقاد والفنانين المزاولين، فرغم رحيل العديد من الأشياخ والشيخات، ومات العديد منهم منسيا مقصيا..وكبر سن آخرين، فإن الجيل الجديد ما يزال حاملا للمشعل منكبا على تراثه، هناك أصوات شبابية عيطية أتبثت ميزتها وتميزها في الوسط الفني بفضل التسويق الجيد عبر شبكات التواصل الاجتماعي.. لقد صار أشياخ العيطة بمستويات دراسية وثقافية عالية، منهم من يحمل شواهد عليا: دكاترة “مهندسين، أطباء، إعلاميين، متقاعدين..”، وفانين مثقفين ودارسين للموسيقى أكاديميا.. ولم تفلح الأغاني الهاجمة من الداخل والخارج في محو هوية هذا الفن الأصيل، صحيح أن بعض الأشياخ والشيخات ماضيهم بائس وحاضرهم مبكي ومستقبلهم مبهم بلا أفق، هكذا كانوا ومازالوا، لكنهم دائما متواجدون، وحاضرون في الوجدان الشعبي للمجتمع.
وعلينا أن لا نتجاهل المجهودات التي تقوم بها الجهات المختصة بالشأن الثقافي بالمغرب، بما فيها وزارة الثقافة والشباب والرياضة، وإن كان ذلك الجهد والزحف يسير سلحفاتيا، إذ لا يمكن لنا أن نتغاضى عن المجهودات الملحوظة والملموسة التي تصب في خدمة الأغنية المغربية عموما، ولا يمكن نسيان اهتمام بعض النقابات بالوضع الاعتباري لبعض الفنانين منهم أشياخ وشيخات، من أجل ضمان حقوقهم الاجتماعية ومساعدتهم في أزماتهم المادية ومحنهم الصحية..لكن مازالت الساحة الفنية الغنائية ومنها فن العيطة بالمغرب تعاني من نقص على مستوى الرعاية والدعم. إذ ليس هناك مخططا واضحا لدعم هذا التراث، ويجب على وزارة الثقافة أن تهتم بتراثنا الموسيقي كما فطنت إلى ذلك العديد من الدول، التي أولت فنها العناية والرعاية اللازمتين والضروريتين، وذلك بإنشاء أجنحة إضافية بالمعاهد الموسيقية لهؤلاء النادرين من الأشياخ والشيخات المحترفين ممارسي هذا الفن وصانعي الفرجة، والعمل على إلحاق مجموعة من الشباب الموهوبين موسيقيا والذين لهم استعدادا لتلقي هذا الفن، من أجل التكوين وتلقي الدروس والاستفادة من تجارب وخبرات الرعيل الأول، وتمثل هذه الخبرات والمضي بها قدما نحو المستقبل، محققين بذلك عملية التواصل والتوصيل مع التراث، والتسلم والتسليم فيما بين الممارسين، لاستمرار فن العيطة وصونها من الضياع والتلاشي بضياع حامليها ورحيلهم..وبالتالي تطويرها والإضافة إليها بما يتلاءم وخاصياتها التي تحتضن تراثنا الأصيل. وهنا يكمن أهمية الأشيخ والشيخات وكل العاملين في حقل العيطة، فضرورة رعايتهم والمحافظة على أيديهم وأصواتهم ، لأن تراكم الخبرات الفنية العملية والنظرية لدى هؤلاء الفنانين المغنيين، تعتبر كنزا من كنوز الوطن، ليس من الضروري المحافظة عليها وحمايتها وتطويرها فحسب، بل من الأهمية بمكان، حفظ هذه الخبرات وإيجاد شتى السبل لاستمرارها من جيل إلى جيل، ذلك لأن هذا الكنز الثمين قد يطمر ويقبر ولا يتكرر أو يعوض بنفس الخصوصية والنكهة المميزة، ولا بأس أن تتداخل العيطة وتتلاقح مع فن أو فنون أخرى تأخذ منها وتعطيها، وما أروع أن نبدع هجين جميل من الفن والصنعة، يشير للتراث الأصيل في جانب، وللعصر بكل عنفوانه وتطوراته المذهلة من جانب آخر، وذلك مع الحفاظ على روح الهوية المغربية.
وبصفتي فنان شعبي شيخ للعيطة،كومنجي ل”رباعة الشيخات”، ومغني ومهتم، سأظل وفيا ومخلصا لهذا الفن، لقد منحتني نشأتي البدوية تعلقا كبيرا بهذه الموسيقى، وإني أحمل على عاتقي إظهار ارثنا الحضاري العريق في أعمالي الفنية الغنائية، كما ستكون العيطة حاضرة في كل كتاباتي الأدبية السردية؛ من مقالة وقصة ورواية..فهي بالنسبة إلي مصدر فخر واعتزاز ونقطة قوة..فإذا كانت بنايات الأهرام المصرية من عجائب الدنيا، فإن فن العيطة المغربي من عجائب الموسيقى الكونية، له بنيانه الموسيقي المرصوص العجيب، وإذا كان للأهرام المصرية فراعنة، وتاريخ بناء، وأسرار، وكنوز ولعنة..حيرت علماء وخبراء علم الآثار والأنتروبولوجيا.. وتجلب سياحا وثروة لبلدها، فإن العيطة كلها أسرار وألغاز محيرة يصعب تفسيرها؛ تاريخ نشأتها الحقيقي يبقى مجهولا ومؤلفها مجهولا، الشيخة العيطية امرأة يكره الراعي الفلاح البسيط الزواج منها ويتزوجها القاضي والقائد، هي المرأة التي تُنبذ بالنهار وتحب بالليل، وهي المرأة التي تفضل مصاحبة الرجال وترفض الزواج منهم..كما للعيطة سحرها على الممارس والمتلقي وقد يصل هذا التأثير إلى حد الإدمان، ولها فراعنة أسياد كما لها عبيد..جلبت سياحا وثروة للبلد، أغنت الكثير وأفقرت الكثير، حقل ملغوم ظاهره ورود مزهرة وباطنه أشواك مدمية، فالعيطة ملكة فرعونية متوجة لها سلطانها وثراؤها وكرمها وسحرها، تموت فتحنط ولا يمحى أثرها، فتبقى حاضرة بأسرارها وألغازها.. وكما لها عطفها وسخاؤها، لها أيضا لعنتها لمن أخل بمراسيم الطاعة والولاء، فحذاري من لعنة العيطة..