“الأغنية العيطية بين خطر النمطية وشبح الاندثار وهاجس الاستمرارية وطموح العالمية” لشيخ العيطة الحسين السطاتي

جسر التواصل30 ديسمبر 2024آخر تحديث :
“الأغنية العيطية بين خطر النمطية وشبح الاندثار وهاجس الاستمرارية وطموح العالمية” لشيخ العيطة الحسين السطاتي

 شيخ العيطة الحسين السطاتي

الإنسان كائن حي عاقل، فعال ومنتج في الحياة، وعبر تاريخ الحضارات على مر العصور كان يكد ويجتهد ويبدع في كل الميادين، تتوارث أعماله وفنون إبداعه من جيل لجيل، تاركا خلفه تراثا إنسانيا حضاريا تنتفع به البشرية، والتراث هو كل ما خلفه الأجداد لكي يكون عبرة من الماضي، ونهجا يستقي منه الأبناء الدروس ليعبروا بها من الحاضر إلى المستقبل، ويشكل التراث الشعبي التقليدي سواء كان ماديا أو لا ماديا مصدرا ثقافيا حيويا لذاكرة الشعوب، ومعينا أساسيا تأخذ منه الإنسانية مداركها وممارساتها على مستوى العادات والتقاليد والمعتقدات والفنون.. وهو في الحضارة بمثابة الجذور في الشجرة، فكلما غاصت وتفرعت هذه الجذور، كانت الشجرة أقوى وأثبت وأقوى على مواجهة تقلبات الزمان، لذلك فكل ناتج ثقافي لأمة يمكن أن نقول عنه تراث، ومن بينه نجد التراث الشعبي الغنائي الذي يشكل جانبا حيا من تلك البصمة التي تحدد هوية الجماعة البشرية، وهو بذلك مخزن خصب لمعارف وخبرات وإبداعات تراكمت عبر العصور، فاختزنت في تجارب الأجداد جيلا بعد جيل، كل ما هو جدير بأن يفحص ويدرس ليستمر في بناء ثقافة جديدة حديثة لا تنتكس إلى الماضي ولا تتنكر له، وإنما تستمد منه نسغا يغدو شجرة الحضارة الإنسانية لتمتد أغصانها إلى الأعلى في اتجاه الأفق الرحب.
ولكل أمة تراثها وذخيرتها الثقافية، والمغرب بلد غني بثقافته الشعبية، وبثرائه الغنائي التراثي الذي بُني على الرجل والمرأة على حد سواء بلهجات مختلفة، وتتميز الأغنية الشعبية المغربية بتعددها وباختلاف لهجاتها، ومن بين أشكال الأغنية الشعبية المغربية المغناة باللهجة العربية الدارجة العامية نجد فن “العيطة”، هذا الفن الذي يؤدى من طرف رجال ونساء، “أشياخ” و”شيخات”. يشتركون في النظم والعزف والرقص والغناء على حد سواء، في مساواة بين الرجل والمرأة..فن موسيقي فرجوي يجمع بين الشعر”الزجل” والموسيقى والغناء والرقص، يحتوي على رصيد غني ومتنوع من الألحان والإيقاعات والأشعار والرقصات، وقد تعرض هذا الفن عبر سنين للنسيان والإهمال والتهميش والتبخيس، سواء بسبب صراعات داخلية طبقية اجتماعية، أو من طرف المستعمر الذي عرف بأنه فنا تحريضيا حماسيا فحاربه وحاول تهجينه والحط من قيمته وتطويعه لصالحه، الشيء الذي نجم عنه إهمال لمكونات جد هامة وملهمة من هذا التراث الشعبي، الشيء الذي بخس حقه في التداول بين الأجيال، وحرم دوره المساهم في تشكيل هيكلنا الحضاري، وقد تضاربت حوله الرؤى، فهناك من يرى أن فن العيطة شكل غنائي بدوي تقليدي تجاوزه الزمن ويكرر نفسه في نمط واحد برتابة دون إبداع أو تجديد عبر قرون، وهناك من يراه فن أصيل وإرث ثقافي وطني زاخر يجب صونه وتنميته وتجويده باستمرار، كما أن هناك من يبدو له أنه الفن الشعبي الغنائي الذي يحضا بالدعم والتشجيع من طرف السلطة والجمهور، ويستولي على حصة الأسد في الإعلام المغربي بكل ألوانه، فيا ترى هل الأغنية العيطية ترزح تحت ثقل النمطية؟ وإذا ما كانت كذلك كيف يتسنى لها أن تخرج من نمطيتها؟ وكيف يمكن حماية ما تبقى من المتون العيطية من الاندثار؟ وهل ما تشهده اليوم الساحة الفنية العيطية يرقى بالذوق الفني للمتلقي؟ وكيف يكون التجديد في العيطة لضمان استمراريتها؟ وما السبيل كي تشق الأغنية العيطية طريقها نحو العالمية؟

وللتذكير ففن “العيطة”، هو فن شعبي يأتي فيه الإيقاع الموسيقي مصاحبا للكلام، وهي أغنية مهيكلة على شكل أجزاء، تنطلق من بداية وتحتمل جزأين إلى تسعة أجزاء أو أكثر وتنتهي بخاتمة، كما أنها مجموعة من المقاطع الغنائية والفواصل الموسيقية الإيقاعية في منظومة تختلف عناصرها باختلاف أنواع العيطة نفسها. ويأتي التركيب كخاصية موسيقية وهوية إيقاعية وزجلية. وهي تتوزع إلى تسعة أنواع، تتنوع حسب تنوع المناطق الجغرافية التي تحتضنها، ونجد هناك: العيطة الجبلية، والعيطة الغرباوية، والعيطة الزعرية، والعيطة المرساوية، والعيطة الحصباوية وتسمى أيضا بالعيطة العبدية، والعيطة الشيظمية، والعيطة الحوزية، والعيطة الملالية، ثم العيطة البلدية وتسمى أيضا بالعيطة الفيلالية الجرفية. وضمن هذه الأنواع العيطية نجد عيطة الساكن التي توجد في كل نمط من هذه العيوط. كما نجد لوحات فلكلورية تعبيرية من الرقص الشعبي تأثث هذا الفن التراثي.
==( “وإن هذا الغناء الذي يطلقون عليه اسم العيطة، وأحيانا أسماء أخرى للتمييز، هذا النفس الساخن الصاعد من الدواخل، عبر الأصوات البشرية- الأنثوية والذكورية- والإيقاعات والألحان الآسرة، هو الذي أسعف على ميلاد شعر شفوي ظل يخرج من الجراح الفردية والجماعية مثل النزف الدافق، ويلتصق بذوات وبمصائر الفلاحين والمزارعين والرعاة، والقرويين عموما، المنحدرين من ذاكرة عميقة ومن سلالات عربية لها تاريخ بعيد، مهمل، مكبوت ومسكوت عنه”)==. المرجع: الباحث الدكتور حسن نجمي في كتابه بعنوان: “غناء العيطة، الشعر الشفوي والموسيقى التقليدية بالمغرب 1″، الصفحة 17.
وهذا الغناء هو فن رعوي شفوي، غناء البدو، إذ يتسم بالبساطة على مستوى التأليف الشعري والموسيقي، يؤدى بلهجة دارجة عربية عامية ضاربة في العمق الريفي، وبصور جمالية وتركيب فني رائع وعميق، زجل امتزجت فيه عوامل السرد والإنشاد، والحكي والغناء، وتتجلى شفوية العيطة في أنها ممارسة فنية وظيفية داخل المجتمع القبلي، بتلقائية وعفوية، توارثتها أجيال عن أجيال، ولا يعرف مؤلفها الشعري والموسيقي، وإنما تقوم مثل كل تراث شفوي على المجهولية..إذ يشكل عنصرا هاما في التعبير عن التراث الثقافي لكل منطقة من خلال إيقاعاتها المتعددة ومقاماتها المتنوعة ونصوصها المرتبطة بالواقع المعاش والخصوصية المتنوعة لكل منطقة من المناطق التي ينتشر بها ذلك النوع من العيطة بالمغرب.
إن كلمة النمطية في اللغة العربية مشتقة من فعل نمط ينمِط تنميطا، فهو منمِط والمفعول منمَط، ونمط الشيء تعني جعله على نفس النوع أو الأسلوب، والجمع: أنماط ونِماط، ونقول صورة نمطية أي ما يُعَدُ تمثيلا أو تطبيقا لصورة أو نوع تقليدي، على طريقة واحدة، لا تغيير ولا جديد ولا إبداع فيه..ونقول يسير العمل على نمط واحد أي رتيب لا يتغير..وذلك ما يذهب إليه الكثيرون. فحينما يستمع أو يشاهد المتلقي مجموعة غنائية وهي تؤدي أغنية عيطية فمن خلال الألحان والإيقاعات والأنغام يتبادر إلى دهنه أنها أغنية مكررة وبأنه قد سمعها مرات عديدة منذ سنين وليس فيها من جديد، رغم أنها قد تكون متغيرة بنسبة كبيرة ولا تحتفظ سوى بالقالب العيطي، كتغير الآلات الموسيقية التقليدية وتعويضها بآلات إلكترونية كهربائية ورقمية، وتغيير في اللباس، وفي عدد الأشخاص الموسيقيين العازفين، وحتى المغني المؤدي قد يكون صوته مبرمجا ومعدلا عبر آلة الكترونية رقمية وهو يكتفي فقط بتمثيل دور المغني، وبما أن العيطة دائما حاضرة على أمواج الاذاعات والقنوات التلفزيونية..فهذا دليل على حيويتها ونشاطها وتجددها المستمر، لهذا فالأغنية العيطية دائما في تجدد ولا تركن إلى النمطية.

إن عدد القصائد العيطية المتداولة بمختلف ألوانها عبر الوطن وحتى خارجه ما هي إلا النزر القليل الذي وصلنا من إرث الأجداد، والكثير منها ضاع من جراء الاهمال والنسيان وبعدم التداول وعدم التجديد، وحرمانه من تسليط الضوء عليه.. فعندما نسلط الضوء على أي فن كيفما كان، فإنه يظهر وتتضح معالمه ويستطيبه المتلقي، وعلى سبيل المثال في العيطة، نجد أن العيطة المرساوية لها حضور قوي في الساحة الفنية المغربية عموما، وفي الأغنية الشعبية خصوصا، ومن بين الأسباب التي جعلتها تحضى بهذه الشعبية والشهرة أنها تتموقع في المركز بالمغرب ( الرباط، الدار البيضاء، وسطات)، قريبة من منابع وسائل الإعلام من صحافة وراديو وتلفزيون ومهرجانات، ولقاءات أدبية…كما تم تهجينها بآلات عصرية وأزياء تقليدية تضاهي مثيلاتها العالمية لكن بنكهة مغربية تقليدية تحافظ على الهوية التقليدية المغربية، ورغم هذا نجد بعض العيوط قد أوشكت على الاندثار مثلا عيطة “عشاق الخيل”، وهذا مقطع منها:
عشاق الخيل …دازو بالليل…على كَصاص الخيل.. مذا جراو
عشاق الزين…سهرو الليل…مذا كَالو…مذا دواو
سيد العربي…قنديل تادلة…غادي للشاوية…يقضي
أه يالالة..يا لالة ويا لالة…وايلي ياييلي
أيا لالة… أنا لخديم وأنت الحاكمة..هيا واهيا
ألطيف..أيا لطيف..لطف يا لطيف
أيا لطيف…العين كحلة والحاجب خفيف

كما نجد كذلك أن عيطة “قيدي ادريس”، هذه العيطة المرساوية التي تمدح فيها الشيخة العيطية أبناء القايد عيسى بن عمر كل من القايد ادريس، والقايد أحمد، وقد طال النسيان هذه العيطة، والتي يقول ممطلعها:
ااااه يا بابا ادريس…بابا ادريس…سيدي ادريس..يا قيدي دريس
بابا ادريس …زين الكَلسة…ذهب لكويس
اااه يا بابا بلال..بابا بلال… سيدي بلال… يا قيدي بلال
با بلال… واش هذا حب ولا هبال.
ااااه يا بابا ادريس…بابا ادريس…سيدي ادريس… يا قايدي ادريس
قايدي ادريس….فتح القرعة وكب شي كويس
اااه يا بابا أحمد…با با أحمد سيدي أحمد…ويا قايدي أحمد
وبابا أحمد زين القياد حرش لعيون.
هاتان العيطتان، كانتا متداولتين إلى وقت قريب ولم أعد أسمعهما، ونجد كذلك بعض العيطات من العيطة العبدية قد أقبرت ولم تعد رائجة، ونذكر على سبيل المثال؛ عيطة “سيدي راكب جوادو”.. والشكر موصول لبعض الأشياخ الذين كان لهم الفضل في إحياء بعض العيوط الغابرة وأعادوها إلى التداول مثل الشيخ جمال الزرهوني، والشيخ عمر الزايدي التماني..كما نجد بعض الفنانين العصريين الوقتيين ممن قاموا بتجديد في طريقة أداء العيطة وهجنوها لتتماشى مع العصر دون الابتعاد عن الهوية الفنية المغربية، ونذكر منهم الفنان “كمال عصام”، الذي أبدع في نمط العيط المرساوي بطريقة عصرية محببة للشباب كما فعل في عيطة “ألباس” وعيطة “ركوب الخيل”، حيث أدى العيطة بطريقة عصرية شبابية وبتوزيع موسيقي جديد محافظا على الهوية العيطية ومجددا في النص العيطي وفي الألحان والإيقاعات والتراكيب الموسيقية. أما من ناحية استمرارية فن العيطة فهذا الفن سيظل دائما حاضرا في الحقل الفني المغربي لأنه فن شعبي من الشعب وإليه، وهو الفن الذي يُستهلك في السر أكثر ما يستهلك في العلن، فحتى في عز هذه الأزمة الكورونية، هناك بعض من الفنانين العيطيين يعملون في ضيعات وبأماكن خاصة رغم المنع القانوني. كما نجد هذا الفن الشعبي حاضرا في الحفلات والأعراس، وبالمهرجانات والمواسيم، وعلى المسارح العالمية وفي فضاء الحلقة، وفي الأسواق الأسبوعية وحتى على مثن الترامواي وحافلات المسافرين وعلى قارعة الطريق…
وللنهوض بهذا الموروث الثقافي والرأسمال اللامادي ولكي نرقى به إلى مستوى عال، لابد من برنامج تنموي مدروس، لصون هذا التراث بالمعنى الحقيقي للكلمة، وهذا الصون يتأتى عن طريق برنامج متكامل يمكن أن يعتبر الدعامة الأساسية للمحافظة على هذا الإرث، وذلك بإدخال دراسة التراث الغنائي الشعبي في مناهج التعليم العمومي والخصوصي عبر مختلف المستويات الدراسية، وحتى بالمعاهد والجامعات..وأن يتم تدريسه في إطار ينمي لذا المتلقي احترام التراث، كما يطلعه ليس على التراث الشعبي القروي الريفي فحسب، وإنما يطلعه أيضا على عناصر التراث المتولدة في البيئة الحضرية، فيتكون لديه إيمان علمي بالتنوع الثقافي على مستوى الوطن..وينبغي العمل على تنسيق الجهود المحلية والإقليمية عن طريق إنشاء مراكز للتكوين تكون تابعة لوزارة الثقافة، كإضافة أجنحة تربوية تكوينية تهتم بالتراث الغنائي داخل المعاهد الموسيقية، ودعم البحوث التراثية العلمية بكافة السبل عن طريق توفير مساندة ودعم اقتصادي للأفراد والمؤسسات التي تدرس المواد التراثية أو تعرف بها وتعتني بشؤونها..كما يجب دعم الباحثين والمدرسين ووسايل الاعلام التي تهتم بهذا التراث، بينما يجب التركيز بدرجة أكبر على الأشخاص الذين يقومون فعلا بانتاج التراث الغنائي، إذ ينبغي معاونتهم على مساعدة أنفسهم وألا يغمطهم الباحثون والمتخصصون في التراث وغيرهم مقدرتهم، أو النظر إليهم على أنهم مجرد كم احصائي أو مادة بحثية…وبصفتي فنان شعبي شيخ للعيطة،كومنجي ل”رباعة الشيخات”، ومغنيا ومهتما بهذا التراث، أسمع كثيرا من الباحثين في التراث الشعبي الثقافي يحذرون في أبحاثهم بل يؤكدون على خطر انقراض الشيخة واندثار فن العيطة، وأنا أرى غير ذلك بصفتي ممارس في الميدان، طبعا التراث الذي لا يتجدد ولا يتطور يموت، لكن قصائد العيطة وموسيقاها لن تموت والشيخة لن تنقرض لأنهما في تجدد وتطور مستمر، وشيخة اليوم ليست هي شيخة الأمس، لكنها تبقى شيخة، والعيطة تخاطب الوجدان الإنساني، فهي بالدرجة الأولى أغنية عاطفية وجدانية ايروتيكية، والإنسان بصفة عامة يعيش بالحب وللحب في كل تجلياته، ذلك الحب الأيروسي الطاهر، حب الله، حب الآخر، حب الفن وعشقه..والحب هو عصب الحياة، لهذا أجد العيطة في اشعاع وتجدد مستمر يساير العصر، فكما لكل وقت وحين فرحه وبكاءه وعياطه، وخيره وشره، نجد كذلك أن لكل عصر فنه، وأشياخه وشيخاته، وعيطاته.. فلا شيء حي ثابت بل كل شيء يتحول ويتجدد، ولا يمكن أبدا أن نجد أغنية عيطية تشبه أخرى إلا إذا كانت مستنسخة ومسجلة إلكترونيا، بمعنى لا يمكن أن نجد في الغناء المباشر عيطتان متشابهتان ولو تعلق الأمر بنفس العيطة وبنفس الشيخ المغني، لا من حيث البنية الفنية للنص الشعري الزجلي ولا من حيث الألحان أو الرقصات، أو البنية الإيقاعية، فحتى العيطة التي أغنيها في هذه اللحظة تختلف عن أخرى التي سبقتها والتي سوف أغنيها مستقبلا، كما يقال بين أهل الحرفة “العيطة الحية مكتعاودش”، أو كما جاء في شدرة من عيطة الحساب الزعري ( العيطة الحية…ما تزكَى ليا)، فهي كبصمات الأصابع تبدو متشابهة لكنها في الأصل مختلفة تماما. ولكل شيخ أو شيخة عيطته، بمعنى لكل شيخ أو شيخة بصمته العيطية الخاصة به، وهذا من بين ألغاز العيطة، الشيء الذي يرفع عنها شبح النمطية، إنني أعرف أن لكل زمن أشياخه وشيخاته، وعياطاته، لكن يجب أن يكون تجديدا ايجابيا، تجديدا وتشبيبا في الآلات الموسيقية بإدخال آلات موسيقية حديثة منها الالكترونية والرقمية، واستحداث أزجال جديدة تصب في نفس خانة العيطة الأم بلغة مغربية دارجية، دون تهجينها بمصطلحات سوقية أو كلمات بلهجة أو لغة أجنبية دخيلة، ويطول التجديد كذلك المدة الزمنية للقصيدة العيطية حيث كانت تصل في بعض الأحيان مدة غناء عيطة واحدة من ربع ساعة إلى ساعة، لذا يجب تقزيم مدتها مع ما يواكب العصر فلم يعد ذلك الجمهور المتلقي الذي يطيل السمع والتمعن في الغناء، وحتى يمكن بثها عبر المحطات الإذاعية والقنوات التلفزيونية، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، وتطبيقات التراسل الفوري،..كما ينبغي التجديد في اللباس التقليدي تماشيا مع الموضة السائدة مع الحفاظ على الهوية المغربية، أما إذا أردنا أن نرقى بمستوى العيطة إلى العالمية فلابد أن نكون نحن المهتمين بها عالميين، وليس كل فنان أو مجموعة غنائية للعيطة قاموا بإحياء سهرات خارج المغرب أو قاموا بجولات فنية عبر عدة دول عبر العالم، هذا يعطيهم أنهم صاروا عالميين وأن فنهم صار فنا عالميا، قد يكون ذلك محض صدفة ليس إلا، أما أن تصير العيطة فنا عالميا فهذا ليس بالمستحيل لكنه يتطلب العمل بالدراسة الأكاديمية للموسيقى وللغناء، وتضافر الجهود من طرف كل المهتمين، وتسليط الضوء على هذا الفن الغنائي بما في ذلك اللهجة المغربية الدارجة..آنذاك يمكننا أن نتكلم عن كلمة “العالمية في فن العيطة”.

وعلينا دائما أن نجدد الشكر والتحية للسيدات والسادة الدكاترة والأساتذة الباحثين والإعلاميين والمهتمين والممارسين أشياخ وشيخات.. الذين اشتغلوا على فن العيطة والتراث الشعبي وأناروا لنا الطريق في هذا المنحى، فأنا كاتب هذه المقالة فنان شعبي شغوف، عاشق ومولع بهذا الفن، ممارس ومهتم، موسيقي “كومنجي” ومغني لفن العيطة، أجتهد وأبحث كي أرقى إلى مستوى شيخ للعيطة، لأصير متمكنا من العزف والغناء ومن طريقة الصحيحة للأداء..حتى أتمكن من نقل ما وصل إلى علمي للمتلقي وللناشئة، وأكرر قولي أنني لست باحثا، لأن كلمة باحث هي كلمة كبيرة في عمقها وتعريفها الأكاديمي، وقد شقا الباحثون سنين طويلة، وأنفقوا من أموالهم وأوقاتهم للوصول إلى مراجع ومستندات علمية منها التي كانت مطمورة، ومنهم باحثون أكاديميون محنكون يجب دائما التذكير بأعمالهم والتنويه بها كنوع من التكريم، والترحم على الأموات، لهذا أعيد خلال كل مقال أكتبه عن فن العيطة أن أذكر وأشكر وأنوه بفخر واعتزاز هؤلاء الذين نبشوا وهبشوا، ونفضوا الغبار عن هذا الكنز المشترك بين المغاربة، هذا الموروث الثقافي اللامادي، رحم الله الأموات منهم وزكى في عمر الباقين الأحياء، وفي هذا السياق نرى لزاما علينا أن نستحضر أحد الباحثين ومن خلاله نرمز إلى كوكبة من ساروا على دربه وطلابه، إنه الأستاذ الذي كسر قاعدة الإهمال والنسيان، وجمع الأوراق التعريفية لإثبات هوية هذا الفن، ورفع لواء الدفاع عن التراث الشعبي المغربي عموما وعن فن العيطة خصوصا، وذلك بلفته الانتباه إلى أهمية فن العيطة والدعوة إلى الاهتمام به، إنه الراحل رائد البحث والتحري العيطي الباحث الأستاذ سي محمد بوحميد أستاذنا وملهمنا في هذا الهم المشترك، الله يرحمه ويغفر له ويسكنه فسيح جنته، كما نرفع القبعة احتراما وإجلالا لمن بحثوا ونقبوا حتى وصل هذا الفن إلى ما هو عليه اليوم من قيمة فنية وحضور ثقافي وازن ونذكر منهم: كل من حسن نجمي، وادريس الإدريسي، وحسن بحراوي، ومحمد شقير، وأبو بكر بنور، ومحمد أقضاض، ومحمد الولي، وصالح الشرقي، وعبد العزيز بن عبد الجليل، وعبد الفتاح السليماني، أحمد عيدون، وعباس الجيراري، وأحمد الصبيحي السلاوي، وعلال الركوك، وعبد الكريم الجويطي، وسعيد فاضلي، وعزيز خمريش، وسالم اكويندي، ومضمون محمد، والتهامي الحبشي، والمصطفى بن سلطانة، وسالم عبد الصادق، وعبد السلام غيور، وعبد العالي بلقايد، والغازي عبد الله، ونسيم حداد، والسهامي رشيد، وعلي المدرعي والمصطفى حمزة ولطفي محمد، والمصطفى مشيش برحو.. ومنهم كذلك باحثون أجانب جذبتهم أنغام العيطة من قارات أخرى، كالباحثة الأمريكية “ديبورا كابشن”، التي أنجزت عملا هاما في موضوع العيطة ضمن بحث كلفت به من جامعتها ب”تيكساس”، والباحثة الموسيقية الايطالية “اليسندرا توتشي” الموفدة من جامعة أمريكية لدراسة هذا الفن موسيقيا وأكاديميا.. شكرا لهؤلاء جميعا، وغيرهم من الذين لم تسعفني ذاكرتي على تذكرهم فمعذرة منهم.

وجزيل الشكر لجمعية “أطلس أزوان”، في شخص رئيسها الأستاذ الباحث والخبير الموسيقي “ابراهيم المزند”، صاحب “أنطولوجيا العيطة”، الذي عمل عملا ثقافيا أدبيا توثيقيا يتضمن كتابين باللغتين العربية والفرنسية، وأقراصا مدمجة مسجل عليها العديد من الأغاني العيطية بأصوات خيرة الشيخات والأشياخ من مجموعات عيطية غنائية من مختلف مناطق المملكة المغربية، وشكرا لكل من حافظ على موروثنا الفني الأصيل، هذا الرأسمال الثقافي اللامادي. وبالنسبة إلي فإن مسؤولية ما وصل إليه الفن العيطي والأزمة التي يتخبط فيها ممارسيه أراها بالدرجة الأولى على عاتق كل المسؤولين على القطاع الثقافي بالمغرب، كل حسب موقعه، وبالدرجة الثانية تقع المسؤولية على الفنانين “أشياخ وشيخات”، واللوم عليهم هم أنفسهم وذلك بطريقة تعاملهم ونوعية إبداعاتهم وعدم اجتهادهم الفني، أما من جهتي فلذي غيرة على فننا الشعبي الذي يندب حظه في زوايا الإهمال والنسيان، والأمل كبير في أن تمنحه الدولة اهتماما وتعمل على تكوين باحثين متخصصين يتصلون بالشعب في المدن والقرى والأسواق والمجالس الخاصة والعامة…ويدرسون في موضوعية ومنهاج هذا التراث الذي مازال حيا على لسان الشعب ، منه وإليه يسكن قلبه ومترسخ في معتقداته وفنونه معبرا أصدق تعبير عن شخصيته وعبقريته. إنني أدرك تمام الإدراك أنني لست وصيا على هذا التراث، ولكن لا يصح لي من موقعي كفنان ممارس أن أتركه يتذمر ويندثر وعلي أن أساهم بما أستطيع..لهذا سأظل وفيا ومخلصا لهذا الفن، لقد منحتني نشأتي البدوية تعلقا كبيرا بهذه الموسيقى، وبلهجتي العامية الدارجة “العروبية”، وإني أحمل على عاتقي إظهار ارثنا الحضاري العيطي العريق في أعمالي الفنية الغنائية، كما ستكون العيطة حاضرة في كل كتاباتي الأدبية السردية؛ من مقالة وقصة ورواية..بما في ذلك لهجتي سواء في الزجل أو ضمن حوارات الشخصيات الروائية، فالعيطة بالنسبة إلي مصدر فخر واعتزاز ونقطة قوة..وأختم هذا الباب بقفل “سدة” من العيطة الحوزية: “ياو هادي ساعة مباركة… فاش تلاقينا”.

الاخبار العاجلة