“فن القصص والحكايات في غناء الشيخات”لشيخ العيطة الحسين السطاتي

جسر التواصل21 ديسمبر 2024آخر تحديث :
 “فن القصص والحكايات في غناء الشيخات”لشيخ العيطة الحسين السطاتي

شيخ العيطة الحسين السطاتي

تعد الفنون الشعبية نمط من التراث الشعبي، وتضم كافة الفنون التي تعكس تراث الشعوب، هذا التراث الذي ينقل عادات المجتمعات وتقاليد أفرادها وآرائهم ومشاعرهم بل وعقائدهم الدينية.. ويتناقلها جيل بعد جيل، وقد يكون هذا الفن شفهيا أو مكتوبا، كما أن وجوده قائم منذ وجود الإنسان وبداية حياته على وجه الأرض، فالتراث هو تاريخ الشعوب وحضارتها، ولا يقف عند حد معين وإنما يكون في حالة تطور مستمر بحيث يضاف إليه ما يستجد من تجارب. ومن أنماط هذا التراث نجد الأدب الشعبي الذي يتمثل في القصص والحكايات والأساطير والشعر والموسيقى.. وله مكانته الهامة من ذخيرة الحضارة الإنسانية بصفة عامة، والعربية بصفة خاصة، فالبيئة العربية جغرافيا وتاريخيا كانت، ومازالت مركز لقاء حضاري على مر العصور، منذ أقدم حقب الزمان إلى الآن، سواء كان ذلك متمثلا في حضارة الرافدين والنيل أو حضارة ديلمون واليمن..أو حضارة فينيقيا وحوض البحر الأبيض المتوسط، أو حضارة جزيرة العرب والحضارة الإسلامية في المغرب الكبير ومنه بلاد المغرب.فقد ظلت تلك الحضارات في تواصل ثقافي حي وتزاوج بشري، بعضها مع بعض وبعضها مع غيرها من حضارات الهند وفارس واليونان، وما انبثق عن تلك الحضارات من إشعاعات ثقافية وتتابع حضاري وتواصل ثقافي، ظلت ذاكرة الشعوب تحفظها وتحافظ عليها.

والمغرب يزخر بعدة أنماط من الفنون الشعبية، تتنوع بتنوع تضاريسه الجغرافية، وتتفرع حسب المناطق، ومن بين هذا التراث نجد فن “العيطة”، وهو من أعرق فنوننا الغنائية الشعبية، فن موسيقي تقليدي، غناء البدو.. فن رعوي أصيل متجذر في التراث الشعبي، نداء كتعبير عن ألم مشترك، وعن الحب بلذاته وعذاباته.. أشعار عميقة بلغة عامية دارجة ضاربة في عمق البادية المغربية، تتغنى بموسيقى ممتدة أنغامها امتداد السهل والصحراء، وصدى أنغامها تردده أعالي الجبال الشاهقة الشامخة، وتحضنه أشجار الغابات العالية الكثيفة، إبداع فيه قصص وحكايات، وأمثلة وحكم تحمل قيم إنسانية، وفيه مجاز، وتعبيرات جذابة، وفيه كنايات وأشياء مثيرة، نسجت بعبارات رنانة تتجه نحو سبر أغوار المشاعر الجياشة، التي تغمر الذات وتسعى إلى لفظها حارة بواسطة لغة عميقة وجارحة ليشرك الفنان المغني -الشيخ أو الشيخة- في أحاسيسه المتلقي، وغامرة أفقها المعجمي والدلالي بملفوظات ومقولات مستلهمة من القاموس الشعبي المتداول، مغنية بذلك الصور الشعرية بما تزخر به هاته المقولات من إيحائية وبلاغة، وقد جمع هذا الفن الشعبي التراثي بين الموسيقى والغناء والرقص، فن طربي تحريضي وحماسي، كما أنه غناء تثقيفي توعوي ووعظي احتضن بين أنغامه وألحانه الشجية فن القصة والحكاية، فيا ترى كيف تعامل أشياخ وشيخات العيطة مع فن القصة والحكاية؟ وما الهذف من ادراج القصص والحكايات في الفن العيطي؟ وكيف يمكن الحفاظ على هذا الموروث الثقافي الشعبي الذي يجمع بين هذه الأجناس الفنية الشعبية المتمثلة بما فيها تراث العيطة والقصة والحكاية في ظل التطور الحضاري والتقدم التكنولوجي؟
نجد أحيانا المستمع لفن العيطة لا يستبين كلماتها ولا يستوضح قصصها وحكاياتها التي تتغنى بها الشيخة أو الشيخ المنشد، ويكتفي بالاستماع والاستمتاع للموسيقى العيطية لوحدها، ولكن المتعود على هذا الصنف من الشعر الشعبي التقليدي يستلذها ويتذوقها جيدا، ويستمتع بترديدها وما فيها من عبر وحكم وقصص وحكايات، ليكون بذلك الشيخ العيطي مغني قاص وراو شعبي حكواتي على أنغام الموسيقى، فأبيات القصيدة العيطية اهتزت لمعانيها ورناتها أعطاف الجماهير المثقفة وغير المثقفة، وحشد حوله الجماهير الغفيرة في البادية كما في المدينة، وجدير بالذكر أن الترنم بفن العيطة قد يبلغ من النشوة شأنا جميلا لمن يدرك معانيها ومع من يجيد أدائها..وعيط في اللغة تعني صاح، والعياط يعني الصياح، والعائط الصائح وجمع عيط عيطات.. وهو غناء تراثي مركب، واكب مجموعة من التطورات الاجتماعية التي انطلقت من مخالطة اللسان العربي بصفة فعلية لسكان كثير من المناطق المغربية الأطلسية، التي تقع خلف الهضاب الأطلسية، عند أقدام جبال الأطلس المتوسط، وكذلك أقدام الأطلس الكبير في فسحة الحوز إلى منطقة تافيلالت سجلماسة، وكذا فيما يلي المناطق المجاورة بما في ذلك؛ الشاوية، ودكالة وعبدة إلى حدود مناطق حاحة.
وتقدم العيطة صورة فنية بديعة عن البيئة البدوية؛ الجبلية، أو الصحراوية، أو الساحلية أو السهلية الزراعية والرعوية الخصبة التي احتضنتها ورعت محاولاتها الأولى، وهي في الأصل أغنية تحريضية ثورية حماسية، نص شعري بمواضيع مختلفة، تؤرخ للشجاعة والحماس والثورة ضد العدو، والجهاد في سبيل الوطن وضد المستعمر، كما توثق الاضطهاد والمس بالكرامة الذي كان يتعرض له الشجعان الأبطال المغاربة على يد السلطات المخزنية الغاشمة، والعدو المستعمر الظالم، أولائك الأبطال الذين كان يقودهم نضالهم وثورتهم وتمردهم إلى أقبية السجون وساحات الإعدام، كما تتغنى العيطة كذلك بجمال الطبيعة وخيراتها، وجمال المرأة والعشق والهيام، ونجدها تشير لبعض مكونات البيئة التي ترعرعت وسطها كتمجيدها للخيل والفرسان والفروسية، كما تتناول مواضيع عن الأوضاع الاجتماعية والسياسية ، وقد ساهمت بالكثير في الأغنية الوطنية الحماسية. في قصائد مركبة كما ساهم فن العيطة في تبني فن القصة والحكاية الشعبية في شكل الأغنية القصيدة القصة، والأغنية القصيدة الحكاية.

لقد رافقت العيطة التحول الاجتماعي والسياسي المغربي منذ قرون وعبر مراحل وفترات تاريخية عصيبة، سواء بتمردها وتحريض نصوصها للمواطن ضد ظلم والاستبداد وتسلط السلطات المخزنية المغربية الظالمة، أو ضد المستعمر الفرنسي والأسباني، وذلك عبر مراحل تاريخية بالشعر والغناء، سواء بالمدح أو الهجاء، أو الغزل والرثاء، كما يبدو ذلك في العيطة العبدية، عيطة “الحصبة “، هذه العيطة التي سميت باسم الشيخة “حادة الزيدية الغياتية” والملقبة ب “خربوشة”، في إطار تمردها على السلطة المخزنية، المتمثلة في ظلم وجبروت القايد “عيسى بنعمر” على قبيلتها “أولاد زايد” بمنطقة “عبدة”، فصارت بذلك هذه الشيخة شخصية أسطورية، اشتهرت بغنائها العيطي الثوري، وبصوتها الشجي الذي يتحدى الزمن ويتجاوز الأجيال، ومن خلال هذا الصوت ناضلت وعيطت بممارست العصيان والتمرد وعدم الامتثال لسلطة القائد الغاشم، منددة بالتجاوزات والتعسفات التي مارسها ممثل السلطة “القائد”، وبقيت سيرتها تكحيها الأجيال، وتجسد رواية الشيخة الراوية، وقد سميت عيطة في العيط العبدي الحصباوي باسمها “خربوشة”، وفي العيطة المرساوية سميت بعيطة “خربوشة منانة”، هذه العيطة التي أبدعت فيها المجموعة الشهيرة المتكونة من الأشياخ الثلاثة “بوشعيب البيضاوي، والماريشال قيبو وبوشعيب زنيكَة)، إذ تعد هذه القصيدة العيطية بالقصيدة القصة، وهي أغنية تورية حماسية تحريضية، تحكي قصة هذه الشيخة الشاعرة المناضلة، وهي تذكي الحماس وتشعل فتيل الثورة وتدعو المجاهدين للمقاومة والجهاد بالثأر من العدو، فكانت قصة سيرتها قدوة وملهمة للمغاربة المقاومين المناضلين..
كما نجد أن العيطة قامت بإثارة النزعة الوطنية بين الأوساط الشعبية، وحثها على المقاومة والجهاد، قبيل وبعد فترة الاستقلال، وقد عملت على تحريك الحمية الوطنية، إبان فترة عقد الحماية الوطنية، لذا فقد عكست العيطة، صمود القبائل ومقاومتها للتوغل العسكري الفرنسي بمختلف مناطق السلطنة سواء في مناطق الحوز، أو الأطلس المتوسط، أو في منطقة الشاوية.. ” ففي فترة المقاومة كانت مواضيع النص العيطي تنقل أحداث المعارك، التي كانت تندلع بين الوحدات العسكرية الفرنسية بأسلحتها العصرية وقواتها المدربة وتنظيمها المحكم، والقبائل المغربية بقواتها التقليدية ونظامها العسكري العتيق”. المرجع : كتاب “النص الغنائي بالمغرب” للباحث الدكتور محمد شقير الصفحة 24.
وتداولت الألسن عبر سنين، أبيات العيطة الحوزية “خالي يا خويلي” ومازالت متداولة إلى يومنا هذا، وهي قصيدة تقص فيها الشيحة وتحكي قصص المعارك التي شهدتها منطقة الحوز وهذا مقطع قصير جدا منها:
فبين أيامك يا بن كَرير…ع الغبرة والكور يطير
فين ايامك يا بوعثمان…الطرابش كبلعمان
الموتى كيف الدبان…شي مكسي وشي عريان
أولاد العديان كيف الفيران…وولاد الوطن كيف البيزان
فين ايامك يا لاربعا…كان موسم ولا حركة
لا خزانة ولا عود بقا…حس البكا والموت شلا
ويجسد هذا النص الغنائي بإيجاز شديد وبكلمات عميقة ومعبرة قصة ميكانيزمات وآليات المستعمر سواء العسكرية أو الإدارية لبسط نفوذه على المنطقة؛ بما في ذلك استخدام الأجهزة المخزنية من شيوخ ومقدمين وجراية أي مساعدي هؤلاء المقدمين والشيوخ، مع ما رافق ذلك من ظلم وقهر وتسلط. كما نجد وصفا غنائيا بديعا لسقوط الشهداء القتلى، والضحايا الجرحى على أرض المعارك التي تم خوضها ضد القوات الغازية، وتلك المقاومة الشرسة لأبناء الرحامنة بمنطقة الحوز “سيدي بوعتمان، بن كَرير، لاربعا..”
كما نجد العيطة الزعرية تخلد قصص بعض الرجال الشجعان المقاومين الذين خدموا البلاد والعباد ومنهم بعض القواد أمثال : القايد “التهامي بن عبد الله”، والقايد “الحاج المكي”، والقايد “الحاج العربي بن عمر” بمنطقة زعير، الشيء الذي جعلها تخلدهم في نصوصها بكل الاعتبار والتنويه الجدير برجال أبطال شجعان، كما في عيطة “بوعبيد الشرقي” وعيطة “جعيدان”، كما نجد شدرات عيطة “الحساب الزعري”، عبارة عن مجموعة من القصص القصيرة جدا، تلقى من طرف أشياخ وشيخات العيطة، وتمتاز بقصر الأبيات “الحبات” ، وبخاصيات الإيحاء المكثف والنزعة القصصية الموجزة والمقصدية الرمزية المباشرة وغير المباشرة، فضلا عن خاصية التلميح بدل التصريح، والتجريب والنفس الجملي القصير الموسوم بالحركية والتوتر، وتأزم المواقف والأحداث، بالإضافة إلى سمات الاختزال والإضمار، بكلمات عربية عامية “دارجة عروبية”، يلقيها الشيخ العيطي المغني بطعم موحد لا تسمح للمتلقين بإضافة خيالات مهمة عليها..تعلو فيها طريقة الأداء والمهنية الغنائية، ويسيطر فيها أسلوب الشيخ المغني لدرجة تخبو فيها شخصيات القصة، ويصبح المكان شيئا ثانويا، وهذا مثال من أبيات “حبات” هذه العيطة:
باراكا من لعذاب…مول الروح تصاب
الشيفون والملح…ردو الباطل صح
نموت ونتكَدد…وما نجبد حد
حقي عند الله…الحق سبحانه
هذه الأبيات الأربعة إذا تمعنا فيها نجدها تشكل قصة قصيرة جدا تراجيدية، وللمتلقي أن يفسرها كما يشاء حينما يسمعها مغناة بوجع الشيخ العيطي، أو الشيخة العيطية الراوية، فهي تروي معاناة معتقل داخل السجن، وعيطه وصراخه من قهر التعذيب، وفي النهاية يفوض المعذب الضحية أمره لله، القاضي والحاكم الكبير، كما نجد الشيخة تأخذ نوبتها في الغناء بقصة أخرى قصيرة جدا، وما يفصل بين القصتين سوى ثوان معدودة من الأنغام والإيقاعات الداوية، وقد تكون هذه الأبيات بوح من سيرتها الذاتية، حيث نجد أن لكل شيخة قصة، وحسب الأبيات المغناة تبدو معاناتها جلية في نبرات صوتها التي تصدح بمعاناة الزواج القصري وهروبها من بيت الزوجية، كما هو مبين في هذه الأبيات الأربعة من نفس العيطة، وهي تؤديها بصوت عيطي نادب نائح:
حالفة على الشيباني…ما نرجع ليه ثاني
حالفة على ليهودي…ما نكَول ليه سيدي
حالفة عل البيت…ليه لا وليت
كَيطون مجرتل…ولا زواج الدل.

وهكذا خلال الوصلة العيطية الواحدة من عيطة الحساب الزعري، قد يتمتع المتلقي بمجاميع قصصية متعددة تختلف معانيها ومضامنها، ومن بين العيوط الكلاسيكية المركبة التي تحكي قصصا عاطفية غرامية نجدها في نمط العيطة الجرفية الفلالية البلدية،، فهي عيطة وجدانية تحتفي بالعاطفة الإنسانية وتصور تقلباتها بين الحب والهجر والعتاب والتوسلات، ونجد ذلك في كل من عيطة “البيضا” أو ما تسمى أيضا بعيطة “الحريمية”، وهي قصيدة قصة تحكي قصة شاب صحراوي من منطقة تافيلالت أسمر البشرة أحب فتاة من نفس المنطقة، وكانت حبيبته حسناء بيضاء البشرة مقيمة بمسقط رأسها بينما كان هو يعمل بعيدا عنها، وعند عودته بعد طول غياب بدا له نفورها منه، فكان يسائلها عن عن سبب الجفاء وما تنعم به من حلي وحلل، بينما كانت هي تتلذذ بتعذيبه وتدعي بأن كل ما تنعم به من اهداء حبيبها الذي تمني نفسها بالزواج منه.
ونجد كذلك عيطة “العين” وهي تحكي قصة عاطفية لشاب ذهب ليجلب الماء من عين ماء جارية بواحة بمنطقة “عين مسكي” بمنطقة تفلالت سجلماسة بحوض دركة، فإذا به يلتقي بفتاة جميلة فاتنة بيضاء البشرة ومن أول نظرة يسقط صريع هواها بجمالها الفاتن، وهو في القصيدة يصف هذا الجمال من الرأس إلى القدمين ويحكي معانته مع هذا الحب الجارف.
هذه بعض النماذج للقصص العيطي في بعض العيوط الكلاسيكية المركبة، كما نجد هذا الفن يواكب ما يجري في الساحة الفنية المغربية وما يدور في الحياة اليومية للمواطن المغربي، وذلك عبر نقل الأخبار والتخابر بين الوطنين بطريقة مغناة، وقد لعب دور الإعلام وذلك بغناء القصص الاجتماعية والأحداث التي تقع، وغناء الحكايات بصفته فنا شعبيا يحضى بالإشعاع والانتشار القوي حيث نجد الأشياخ والشيخات يصدحون بحناجرهم عبر كل الأزمنة وبأماكن مختلفة، نجدهم بالأسواق الأسبوعي ينشطون فن الحلقة بالعيوط والقصص والحكايات، ويطوفون بين الخيام وبالأماكن العامة كالمقاهي والمطاعم الشعبية، وعلى وسائل النقل داخل الحافلات وعلى مثن القطارات، وبالساحات الكبرى بكبريات المدن، وعلى المسارح العالمية، داخل وخارج الوطن، إذ نجد العيطة حاضرة من المداشر إلى القصور، والأشياخ والشيخات يغنون، يعيطون، يحكون ويقصون..يتحولون أحيانا من مغنيين عيطيين مطربين إلى روائيين قصاصصين وحكواتيين.
والحكاية في قاموس المعجم الوسيط باللغة العربية اسم من فعل حكى، يحكي، حكاية، والفاعل هو حاكي وحكواتي وحكاء، وهو الراوي الشعبي، والمفعول محكي، والحكاية هي ما يحكى ويقص سواء كان واقعي أو تخيل، وحكى الأمر بمعنى رواه وقصه، وحكى القصة بمعنى حكى ما حدث، والحكاية هي نص شفوي يرويه لاحق عن سابق بالمعنى لا باللفظ، وكثيرا ما تختلف روايته في العبارة وإن اتفقوا في المحتوى وهو لذلك نص حكائي أكثر مما هو لغوي، بينما القصة في الأصل نص مكتوب أو كتابي ينقل بصيغته فضلا عن محتواه، وهو لذلك نص سردي ولغوي تكمن جماليته ليس فيما يسرده بل أساسا في لغته التي يسرد بها.
والحكاية شفوية يرويها جيل عن جيل، وكل جيل يضيف أو يحذف أو يعدل فيها، فإنها لسان الجماعة، ليس لها مؤلف محدد ولا تعبر عن خصوصية أو اختلاف بل تعبر عن نظام قيم عام، وتعبر عن الاتساق والانسجام والجماعة، بينما للقصة مؤلف واحد محدد وهي تعبر عن الفرد وعن الخصوص والاختلاف، وعن الهامش والناشز، وحتى حين تتناول القصة مشاكل عامة فإنها تتناولها من منظور فردي. لكن الفرق بين القصة والحكاية لا يعني كثيرا، كون الفرق بينهما كالفرق بين المنزل والدار، والحائط والجدار، هي فوارق تعتمد على وظيفة البناء وطريقة نظرنا للمبنى ومغزى اختيارنا.
وكان ومازال وسيظل لأشياخ وشيخات فن العيطة سجلا حافلا بالقصص والحكايات، ومن بين القصص الشهيرة التي انتشرت عبر ربوع المغرب العربي وتغنى بها العديد من أشياخ وشيخات العيطة هناك ” قصة ميلودة”، وهي قصيدة قصة، تتأرجح بين الخيال والحقيقة، والمراد منها العظة، والوعي ونبد الخيانة والغذر والابتعاد على كل المحرمات من شرب خمر وزنا ومخدرات، و اشتهرت هذه الأغنية الشعبية، في سنوات الستينات والسبعينات، وتحكي قصة امرأة تسمى “ميلودة بنت ادريس”، كانت متزوجة ولها ابن صغير يسمى “سعيد”، وكانت لهذه المرأة علاقة غرامية مع عشيقها، حيث ذهبت معه إلى الغابة لقضاء أوقات من المتعة واللذة الحرام في ممارسة الجنس وشرب الخمر، وبينما هي في نشوة العشق مع خليلها، تركت ابنها يلهو بين أشجار الغابة بعيدا عنها فافترسته الذئاب، ولما فاقت من نزوتها عادت تبحث عن ابنها سعيد فصدمت بوقع الفاجعة، وكان مصير العاشقان السجن..وتناقلت هذه الأغنية أصوات الفنانين المغنين داخل المغرب وخارجه، وتغنى بها الأشياخ في الجزائر تارة باسم “خديجة” وتارة أخرى باسم “ميلودة”، ومنهم الشيخ الفنان الشعبي الجزائري ” بلقاسم بوتلجة” والشيخ “أحمد ليو” والشيخة “الرميتي” وآخرين.. وقد اشتهرت بهذه القصة خلال ستينات القرن الماضي مجموعة من الأشياخ والشيخات منهم: الشيخ بوشعيب البيضاوي، والشيخ الماريشال قيبو، والشيخ بوشعيب زنيكَة، والشيخ لحسن المسكيني، والثنائي الشيخان قشبل وزروال، والثلاثي المتكون من الأشياخ “علي وعلي والحطاب”، كما أداها في سنوات الثمانينات كل من الشيخ عبد الله البيضاوي، والمصطفى البيضاوي، والشيخة الصالحة..

وغيرهم..وقامت بتجديدها في سنوات التسعينات المجموعة الرائعة في فن العيطة المرساوية “أولاد البوعزاوي”، والشيخ الحاج عبد المغيت، والشيخة خديجة البيضاوية، والشيخة العيدية، والشيخة نعيمة البيضاوية.. وبصفتي فنان شعبي شيخ للعيطة عملت شخصيا على تجديد هذه القصة الأغنية صيف سنة ألفين وسبعة عشر، والأغنية موجودة بقناتي على موقع اليوتوب، وقد أعطت هذه الأغنية لهذه المرأة التعيسة والأم المكلومة في فلذة كبدها شهرة تجاوزت الحدود، ومازال بعض من الجمهور يطلب مني أن أغنيها خلال الحفلات والأعراس، ويقول مطلع هذه الأغنية:
ميلودة يا بنتي…يا ميلودة
أش هذ لفضيحة درتي…يا ميلودة
أنتيا مللي بلاك الله…يا ميلودة
خلي الدري لباه…يا ميلودة
ميلودة بنت ادريس…اميلودة
داوها البوليس…يا ميلودة
يا ميلودة فين كنتي…يا ميلودة
أش هذ المصيبة درتي…يا ميلودة
إلى نهاية هذه القصة من الفن الشعبي الغنائي العيطي القصائدي، ونجد أيضا أغنية “العاشقة منانة”، فهي قصة اشتهرت في ثمانينات القرن الماضي، مجهولة المؤلف، تتأرجح هي الأخرى بين الواقع والخيال، وغير معروف إن كانت قصة واقعية أو من نسج الخيال، إذ تحكي هذه القصة علاقة غرامية خارج نطاق الزواج بين فنانة شعبية “شيخة” اسمها “منانة”، كانت ذات حسن وجمال.. وشاب بدوي جزار يسمى “حمو”، حيث أعجب بها وتوطدت علاقته بها، فصار يتوافد بين الفينة والأخرى على مسكنها، ينعمان باللذة المحرمة ويشربان الخمر، فأضحى يعاشرها معاشرة الأزواج، وكان حسب الرواية الشفوية المغناة يرغب في الزواج بها رغم رفض أمه لهذا الزواج، لكنه سيفاجئ بأحد أصدقائه يخبره بأن “منانة” على علاقة مع شخص آخر، فتتبع أثرها وفعلا تأكد من صحة كلام صديقه، وفي تلك الليلة المشؤومة شربا معا الخمر وفي منتصف الليل طلب منها أن ترافقه إلى منزل صديقه فامتثلت لطلبه، ولما أوصلها قرب مجرى الوادي بمحاذاة السكة الحديدية للقطار، هناك استفسرها عن سبب خيانتها له، وأمام إلحاحه عليها وظنا منها أنها ستغيظه وتؤجج نار غيرته اعترفت له بعلاقتها مع الشخص الآخر، بدعوى أن الجزار حمو لم يرغب في الزواج منها، وتحت تأثير الخمر، وفي ظلمة الليل أخرج الجزار من جرابه سكين الجزارة ودبحها كما تذبح الشاة، وعمد على تقطيع جسدها إلى أجزاء، وبعد البحث والتحري من السلطات الأمنية ألقي عليه القبض ودخل السجن، وهذا مقطع قصير من هذه الأغنية:
دها للواد واه مالي ومالي…خلا دمها هواد واه ناري وناري
وعدبتيني ومحنتيني…يا العاشقة منانة
وااه ملي قطعت السكة واه مالي ومالي…سارت عل لبكا واه ناري وناري
وعدبتيني ومحنتيني …علاش لغدر علاش
وااه مللي عاشرتيه واه مالي ومالي…علاش تغدريه واه الصكَعة ناري
وعذبتيني ومحنتيني…واش البكا يرد الموتى.
كما نجد الشيخات والأشياخ كانوا يغنون قصص ما يقع من أحداث ووقائع مثيرة في المجتمع المغربي، كحادثة السير التي ارتكبها الفنان الشعبي “قدور” بطريق بمدخل مدينة خريبكَة، حيث كان يسوق سيارته في حالة سكر برفقة خليلته، وتوفيا في الحال جراء انقلاب السيارة في منعرج، وتسمى هذه الأغنية ب”قصة قدور”، ويقول مطلع هذه القصيدة القصة:
شراها لون الحوت…شراها لون الحوت…هي سبابو في الموت
وايلي ياييلي ياييلي ياييلي…كان الله وقدر…كلشي من لخمر…الويسكي تا يغدر هابا ما شفتي والو
شراها وعجباتو…ساكَها وقتلاتو…في الدورة قتلاتو
وايلي ياييلي ياييلي ياييلي…كان الله وقدر…كلشي من لخمر…الويسكي تا يغدر هابا ما شفتي والو
هانا كون يصحابها تكتاب…كون يصحابها تكتاب…ما يسكر ما يشرب شراب
وايلي ياييلي ياييلي ياييلي…كان الله وقدر…كل شي من الخمر، الكاس كيغدر هابا ما شفتي والو
لوكان ساكَت البنت…لوكان ساكَت لبنت…كون قدور فلت
ويلي ياييل ياييلي ياييلي…مكتاب الله وقدر…كل شي من لخمر …الويسكي كيغدر هابا ما شفتي والو
كما نجد كذلك أغنية “قصة كلتوم”، وهي تحكي قصة امرأة “فنانة شعبية، كانت جريئة وذكية اسمها “كلتوم”، كانت ذات حسن وجمال فاتن مبهر، حيث كانت تسقي الماء من عين مائية وإذا برجل متهور معتد بنفسه بصفته زير نساء، من شيمه التلاعب بالفتيات، فطلب منها شربة ماء، لكنها جدته يتغزل ويتحرش بها، وما كان منها أن استدرجته بالحيلة ومثلت عليه دور المرأة البليدة العاشقة المتيمة بحبه، وكانت قد اشترطت عليه بأن لا تمكنه من نفسها إلا بعدما يكتب عقده عليها، وبالفعل أراد أن يتحداها ويسخر من تعنتها واستهزائها به، وهو الزير الذي يتلاعب بمشاعر النساء، فتبعها وأعد لها ما طلبته إلى أن خسر أمواله عليها، وعقد قرانه بها، وفي ليلة العرس لحظة الدخلة خاب أمله، ووجدها امرأة ليست بالعذراء البكر، فكانت صدمته قوية، ولم يقوى على فضحها ولا معاقبتها خوفا من الفضيحة و الاعتراف بانهزامه أمام حيل المرأة…وقد تناولها الأشياخ والشيخات هذه القصة في غنائهم بصيغة المتكلم وبأسلوب فكاهي ساخر، إذ يقول مطلع هذه القصيدة القصة:
سمعو قصة اليوم…مالها…قصة المغروم…مالها
سمعت عليها اللوم…مالها…في بحرها بغيت نعوم…لالة
سميتها كلتوم…مالها…صورتها مشموم…لالة
مشموم وملموم…مالها..ملموم ومحكوم…لالة
كلتوم يا كلتوم…مالها…زينها زين الروم…لالة
عيني ما تشوف النوم…مالها…خلاتني مهموم…لالة
عرفتني مغروم…مالها…خلاتني مضيوم…لالة
سري في كَلبي مكتوم…مالها…حرها في كَلبي زكَوم…لالة
لالة…لالة…لالة واش من لالة

ونجد كذلك أن أشياخ وشيخات العيطة قد تناولوا في أغانيهم قصصا قادمة من الخارج وعبر العصور، تحمل قضايا من ديانات مختلفة وثقافات أخرى كما هو الشأن لقصة “ودكة” وزوجها المسيحيان، هذه القصة الأسطورة، وقد قام بتجديدها الفنان الشعبي الأمازيغي الشيخ “لمغاري ميلود”، وهي تحكي قصة وقعت في عهد نبي الله سيدنا عيسى عليه السلام، بين امرأة تسمى “ودكة” وزوجها، تروي الأغنية قصة خيانة زوجية من طرف المرأة، مقابل حب جارف من طرف الرجل زوجها، كانت المرأة شابة ذات حسن وجمال فاتن، وتزوجت بشاب فقير لكنه أحبها حبا شديدا، وهام فيها عشقا، وقد تواعدا على أن يخلصا لبعضهما مدى الحياة، وفي يوم من الأيام سألت ودكة زوجها رأيه إن كان سيتزوج إن ماتت، فبكى بحرقة وأقسم على أن يبقى وفيا لحبها ولا يتزوج امرأة بعدها ولو بعد موتها، وتمر الأيام وتموت “ودكة”، وبقي الرجل وفيا لعهده لمدة عام بجوار قبرها يقتات من الطبيعة ويعود ليبكي وينوح على قبرها إلى أن صادفه في يوم نبي الله سيدنا عيسى عليه السلام فشاهده وقد شاب شعره وساءت حالته، ولما استفسره عن حاله أخبره بالموضوع، وكان من معجزات سيدنا عيسى إحياء الموتى، فصلى النبي ودعا ربه فاستجاب الله له وقامت “ودكة” من قبرها، فتعانقت مع زوجها بعد عام من الفراق وهي في عداد الموتى، فتركهما النبي وانصرف حيت صادف في طريقه موكب الأمير في عودته من الصيد، ولكثرة اشتياق وتعب الزوج نام على ركبتها قرب القبر إلى أن جاء الأمير رفقة معاونيه على الخيل، فتغزل بها ووعدها بأن تكون من حريمه، وعلى الفور تركت الزوج نائما قرب القبر، ورافقت الأمير إلى قصره، إلى نهاية هذه القصة حيث سيعود النبي سيدنا عيسى ويجد الرجل يبكي وينتحب، فذهب معه إلى الأمير يطلبها لكن ودكة تنكرت له وأنكرت معرفتها لزوجها، فدعا فيها النبي دعاءا وسقطت ميتة في الحال، وهذا مطلع هذه القصة:
نحكي ليكم قصة…على فعال النسا…في حياة سيدنا عيسى لمرا مع راجلها
مالي وهيا مالي….ودكة مع راجلها…سيدي أهيا سيدي
تلاقاوفي الدنيا…تزوجو عل النية …فقالت لو هيا..الموت لابد منها
مالي أهيا مالي….الموت لابد منها….سيدي أهيا سيدي
كيف تعمل تفرقني…في لعمر ايلا جاني…لابد تنساني وتتزوج من بعدي وتزهى
مالي أهيا مالي…وتتزوج من بعدي وتزهى…سيدي أهيا سيدي
فقال ليها وبكى…سمعي أيا ودكة…تبقا في راسك البركة…ايلا جاتك نلقاها
مالي أهيا مالي…واللي جاتك نلقاها…سيدي أهيا سيدي
ربي يطول عمرك…ما نتزوج من بعدك…وايلا مت أنا قبلك…الكاتبة ما شفتيها
مالي أهيا مالي…الكاتبة ما شفتيها….سيدي أهيا سيدي
أنتي ايلا متي قبلي…نلبس غير البالي…بيتي يبقى خالي…وشروطك نقضيها
مالي أهيا مالي…وشروطك نقضيها…سيدي أهيا سيدي
ياو سمعو كيف جرا لو …ماتت هي قبلو…لحباب عنو رحلو…ودكة عمرها جاها
مالي أهيا مالي…ودكة عمرها داها…سيدي أهيا سيدي
إلى نهاية هذه القصيدة القصة الجميلة، وهذه بعض النمادج من القصص التي تناولها أشياخ وشيخات العيطة، ومنها الكثير مايزال يلقى انتشارا واسعا، كما نجد فن الحكاية حاضرا في هذا الفن العيطي، حيث تتسم الحكاية الشعبية في العالم كله بغلبة الخيال على الواقع، سواء أكان ذلك في تتبع التاريخ، أو تصور الطبيعة الجغرافية، مع تنوع تظاريسها من بحار وسهول وجبال وصحاري..ونجد أن البحر والوادي والغابة من أبرز مقومات الخيال الشعبي للفنان العيطي بالمغرب، ذلك لأن حياة الإنسان البدوي في هذه الأماكن، إنما يكتنفها الغموض وتصبح مجموعة من العجائب والغرائب، وتظل فيها ملامح أسطورية، تعيش في ذاكرته، ويصدر عنها قصصا وحكايات في تصوراته، وقد تتشابه في آداب الشعوب رغم تباعد أوطانها، كما من شأنها أن تنتقل من مكان إلى آخر، ولا تعتمد هذه التصورات على تجارب الإنسان الواقعية فحسب وإنما تعتمد كل الاعتماد على موروثه الثقافي، كما هو الأمر بالنسبة لمجموعة من القصص تجمع بين الواقع والخيال والأسطورة والخرافة، كحكاية “حمادي”، وقصة “هاينة”، وقصة “حديدان”، وقصة “خالي زعكور”، وقصة صالح”،..وغيرها من الحكايات ومن أهمها حكاية “عيشة قنديشة” التي جعلت منها الأسطورة الغنائية ملكة الوادي والبحر..حيث يذهب بعض الرواة إلى أنها حكاية واقعية حدثت بالفعل، وكأن لأبطالها وجود في الواقع مثل أحداثها، وقد برز مجموعة من الأشياخ والشيخات والمجموعات كمجموعةمسناوة ومجموعة التكَادة ومجموعة الخيالة وغيرها من المجموعات الشعبية العيطية.. ومما يثبت أهمية هذا الأدب الشعبي ما نجده في آداب الشعوب من أخيلة، حفرت لها مكانا بارزا في روائع الإبداع الأدبي في عالم القصص العالمية، ففي المأثورات الشعبية موضوعات عديدة عن الجنيات الساكنات بالأودية ويتزوجن برجال من الإنس، كما نجد موضوعات غريبة عن كائنات البحر، سواء كانت من عرائس البحر التي نصفها من أعلى نصف حسناء، ونصفها الأسفل سمكة أو غير ذلك من كائنات خرافية، كما تروي حكايات مغناة عن جنيات الوادي وملكات البحر، عن عشق البدو الرعاة لجنيات بجنب الوادي، وعشق جنيات الوادي للرعاة والصيادين بالوادي والبحر، وعلاقاتهن بالقناصين في الغابة.
وإن قصص الوادي والغابة والبحر هي حكايات يصور المؤلف حدوثها في هذه الأماكن حيث تكون حاضرة في ذهن المؤلف والمتلقي المستمع. ومن أهم المحاور التي لابد من اكتشافها، الإعراب عن الحياة عبر الزمان والمكان، وهي الأسطورة والرمز والتشبيه، عندما يواجه المرء العجب والإعجاب في وقت واحد. واللجوء إلى الحكاية الخرافية والأسطورة هو أسلوب تعتمده في الغالب جماعة مضطهدة في مرحلة تاريخية ما لنقد الظلم والاستبداد، والتمرد على الأوضاع السياسية والاقتصادية المتدهورة بصورة رمزية حتى تتجنب العقاب، كما نجد الفنانين الشعبين -“الأشياخ والشيخات العيطيين- قد استخدموا الترميز ، ووظفوا الأسطورة والخرافات الشعبية من أجل تمرير بعض الأفكار المعارضة، وذلك خشية من السلطات السياسية والدينية، وتحمل هذه الحكايات في صلبها، وعظا وتوجيها، ومغزى أخلاقيا كما جاء مثلا في مؤلف كتاب “كليلة ودمنة” التي تروى على لسان الحيوانات، والتي ترجمعا ابن المقفع إلى اللغة العربية، وكذلك ما جاء في كتاب “ألف ليلة وليلة”.. وفي الأغنية الشعبية المغربية، نجد في الخيال الشعبي رموز للحيوانات، التي تصور سلوك كل جنس منها كالسبع والنمر والذئب وكالنسور والعصافير.. وفي الحكايات الشعبية العيطية نجد تشخيص عالم الحيوان، لكي يشارك هذا المخلوق غير الناطق في أحداث الحكايات ولكي يوجه الإنسان التوجيه الأخلاقي المنشود، ونجد في هذه الحكايات ما يشبه المناظرة، وما يستهدف الاختبار في حياة الإنسان، وهذه الظواهر موجودة عند كل الشعوب. ونجد الحكاية الشعبية العيطية هي أغنية العائلة بأكملها، فيها قيم وعبر وحكم، تغنى للأطفال والمراهقين والشيوخ، يستمع إليها ويستمتع بها ويستفيد منها الجد والابن والحفيد، كما نجد ذلك في قصيدة “بوسفيو والسبع ” التي إشتهر بها كل من الفنان الشعبي الشيخ عبد الكريم الفيلالي، والشيخ اخليفة والشيخ عبد الرحيم بومعزة وغيرهم..وهي تحكي عن حرب دارت بين الحشرات والعصافير التي يرأسها طائر صغير يدعى “بوفسيو”، وبين الحيوانات التدية من نمور وأسود وضباع وخيول وحمير ذات الأجسام الكبيرة والتي يرأسها “السبع”، وفي الأخير سيكون الفوز من نصيب الطائر الصغير باستعمال الحيلة والذكاء لينصب ملكا على الغابة، وهذا مطلع هذه القصيدة:
قصة بوفسيو والسبع…تصنت يامن هو اسمع
هذا في ذاك ما شفع…قامو في الحركة تضادو في الملكية
…….هانانا نانا…كلها يضرب على حكامتو
بوفسيو يحكم على الطيور…والسبع يحكم عل لوحوش
كلها جار اللي من وراه جتة مغلية…كلها يضرب على كلمتو
…هانانا نانا…قصة بوفسيو والسبع…
السبع كَلس في بابا دارو…طلع عينيه مع شفارو
وهبط عينيه مع ظفارو…قال فين الصح أخايت هذي ذلية
…أنانا نانا…حتى بوفسيو ولى بكلمتو….
ناض السبع مع لبيتو….طلعو للغابة يهيتو
راح الليل جاو يبيتو…جاو للعرصة تحت كرمة مسقية
……هانانا نانا…عرصة بوفسيو تاعتو……
بوفسيو ارسل للسبع…ووزيرو كان هو الضبع
قال ليهم ماشي شرع…هديك العرصة نتاعتي راها ليا
…..أنانا نانا….شرع الله معاكم حيدو من تم….
تكلم السبع وليه نادى….هذي عرصة مخلدة
زينة موصوفة وموردة…والله منها ايلا حيدت ليك يا بلمرية
……أنانا نانا….شد حزامك كلشي عدو
بوفسيو سمعها غضى…وكلاب الحال راهي راكَدة
خيول وحمير ومامون راها مجابدة…آمر عليهم كاملين خيل ورجليا
أنانا نانا…بغا يصبح في العرصة خزانتو.
إلى نهاية هذه الحكاية، التي
كما تناول أشياخ وشيخات العيطة في غنائهم، غناء قصائد الحكايات الجماد المتمثل في مشروبات أو أواني منزلية..وعلى سبيل المثال نذكر أغنية قصيدة “أتاي والقهوة”، وتروي الأغنية نزاعا وتلاسنا بالألفاظ بين القهوة والشاي المسمى باللغة العامية “أتاي”، وخصامهما يتم فيه التحكم إلى الشيخ العيطي وهو الراوي المغني الحكواتي، بدعوى أنهما قدما معا يشتكيان إليه مما لحقهما من ظلم وتضرر كل واحد من جراء الآخر، وتبادل الحجج فيما بينهما المتمثل في تمجيد النفس وشتم الخصم والتقليل من أهميته وذكر سلبياته، وفي النهاية يعترف الفنان الحكواتي الذي يلعب دور القاضي بأنه عاجز عن البت في هذه القضية، بحكم أنه أمام حجج لا يمكن الحكم لصالح واحد على الآخر إلا بظلم أحد الطرفين، وقد برع فيها مجموعة من الأشياخ منهم الشيخ صالح السمعلي، والشيخ عبد الرحيم بومعزة، والشيخ العوني والشيخ البهلول وغيرهم…ويقول مطلع هذه القصيدة:
بسم الله نبدا نذكر…وبيها نفتخر
والصلاة على المختار…خاتم الأنبية
سمعوا ليا يا لكرام…سمعو هذ الخصام
القهوة وأتاي بالتمام…جاوني وشكاو عليا
كل واحد جاب مقال…ولقى عليا السؤال
قالو ليا في الحال…تحكم في القضية
نطق أتاي ودوا…قال ليها يا القهوة
عندي معاها دعوة…قلت عليا لحيا
سمع ليا نحكي…أنا اللول نشكي
راها ضرتني في كَلبي…هذ السودانية
إلى نهاية هذه القصيدة الحكاية التي تقص على المتلقي خصاما بين مشروبين محبوبين عند البشر، ونجد نفس المنهاج يتبناه الشيخ العيطي في قصيدة خصام “البوطة والفاخر”، وقد برع في أدائها مجموعة من أشياخ العيطة نذكر منهم الفنان الكبير المبدع الشيخ عبد الرحيم بومعزة، وهو مازال على قيد الحياة يؤلف قصائد مواكبة للأحداث التي تقع بالمجتمع، كما أداها كذلك الفنان المبدع الشيخ أحمد ولد قدور، والشيخ حميد والشيخ لمويس، ومجموعة من الأشياخ العيطيين، وهذا مطلع هذه الأغنية الحكاية:
بسم الله في النظام…وسمعو كلامي يا فهام
هذي قصيدة في لخصام…يا سيادي سمعو ليا
نبداها في لسطار…بين البوطة والفاخر
تخاصمو واحد النهار…جاوني وشكاو عليا
بدتا الفاخر كيبكي…أنا اللول نشكي
تصرفت في ملكي…هذ الروحانية
شحال هذا وأنا ساكت…وهي دارتني مت
ما حشمت ما عركَت…هذ المعاصيــة
كنت وحدي كَاعد في الدار…عايش زوفري مسايق اخبار
حتى جابوها ناس كبار…ونطقو وكَالو ليا
كَالو ليا سير تهنا…جبنا اللي يعاونا
داروني في الركنة…بقيت نخرج في عينيا
مشاو جابو هذ الصكُعة…كتنفخ كيف اللفعة
طيبت الماكلة بالخلعة…في نص ساعة مكَانية
إلى نهاية هذه الأغنية الحكاية، ونجد هناك بعض العيوط القصص مثل : عيطة خربوشة من العيط العبدي ونظيرتها في العيط المرساوي “خربوشة منانة”، وعيطة “الكافرة غدرتيني”، وفي العيط الفلالي الجرفي البلدي نجد عيطة البيضا وتسمى أيضا ب”الحريمية”، وعيطة العين، وهناك القصائد القصصية والحكائية الشعبية التي تغنى بها الأشياخ والشيخات مثل، قصة “ميلودة”، قصة “منانة”، قصة “يامنة”، قصة “كلتوم”، قصة “ودكة، قصة “حمادي”، قصة “هينة”، قصة “بوفسيو والسبع”، قصة “القهوة وأتاي”، قصة “البوطة والفاخر”، قصة “الطاجين والكوكوت”، قصة “العدوزة والكنة”..وغيرها من القصص والحكايات المسلية والمثقفة.
كما أن الرقص المصاحب لهذه الأغاني القصصية والحكائية غالبا ما يكون برقصة الندب: “شطحة المندبة”: وهي رقصة الفاجعة والحزن، رقصة جماعية خاصة بالنساء الشيخات، يردحن فيها داخل حلقة الرقص، وهي تعبيرا عن الحزن وعن الفجيعة في غناء القصائد الحزينة وفي غناء العيطة، حيث تؤدى في العيوط ذات الطابع البكائي الفجائعي، كالعيطة الحوزية “خالي يا خويلي” وعيطة سيدي صالح الخطابي”.. والعيوط الملالية ذات الللحن النائح النادب، مثل( عداو يا الخيل، وعيطة دويدة الشيباني، وعيطة الحساب الملالي..)، حيث يحمى وطيس الإيقاع الشعبي بلحن خفيف، وعلى أنغام وأشعار الغناء العيطي النائح التي تتغنى بالمقاومة وبمناقب المقاومين، فتتقدم الشيخة زميلاتها المتصافات في خط مستقيم خلفها في استرسال للرقص النادب وهي تدرج أمامهن بتفنن إلى أن تصل إلى وسط حلقة الرقص فيلتفون ويطوفون حولها في رقصة دائرية، وشعورهن مسدلة على ظهورهن، ويقمن بحركات ندب الخدود وضرب الأفخاذ، والتلويح بالمناديل البيضاء وإن لم توجد يأخذن أحزمتهن السوداء، وبأمر من الشيخ القائد أو الشيخة “المعلمة، يقفن ويستأنفن رقصهن العادي ، وهي في الأصل تدل في رمزيتها على استحضار أرواح الأموات المقاومين من الأجداد والآباء والأبناء الذين استشهدوا في المعارك أو ماتوا في سجون العدو المستعمر.
لم يكن في السابق هذا التطور التكنولوجي والزخم الآلاتي الذي غزا العالم، وكانت الفنون تنتشر بين الفنانين وبين الجمهور بطرق تقليدية بدائية، حيث من الأسباب الأساسية التي كانت تؤدي إلى الاختلاط والتمازج الذي شهدته متون وإيقاعات العيطة بالمغرب، وانتشار هذه الأغاني الشعبية المتضمنة للقصص والحكايات، أنه كان من المعتاد أن يتنقل محترفو هذا الفن من أشياخ وشيخات أفرادا أو جماعات..بين المدن والقرى المجاورة أو المتباعدة..طلبا للعمل أو السياحة والاسترواح أو بمناسبة زيارة مواسم الأولياء..وخلال هذا الانتقال كان يتم الأخذ والعطاء والتبادل المعرفي بين الرباعات المختلفة
وبصفتي شيخ ممارس لفن العيطة، أقف وقفة احترام للأشياخ والشيخات الذين بفضلهم قام فن العيطة عموما، على امتداد مسيرة طويلة في مختلف مناطق المغرب ببواديه وحواضره، حيت صدحت حناجرهم بأصوات طربية في مناسبات وملتقيات مختلفة، أصوات أشياخ، زجالين، نُظام، ومغنين حفاظ “كَراحين”، رواة حكواتيين، حملوا مشعل هذا الفن، وأصوات شيخات “عياطات”، حافظات “طباعات”، مغنيات قاصات، وراويات حكواتيات، استمد بفضلهن فن العيطة وجوده الفني وكينونته.. أسماء تركت بصماتها على مدى سنوات، بعضها انتقل إلى دار البقاء الله يرحمهم، والبعض يعاني التهميش ويعيش التنكر، والقليل منهم من كان محظوظا وحضي بعيش كريم. والشكر لهؤلاء الفنانين الوقتيين المناضلين الذين مازالوا متشبتين بفنهم ولم ينساقوا إلى أي فن بديل، رغم أنهم لم ينالوا حقهم في الوسط الفني المغربي ولم تطالهم يد الدعم والمساعدة، يساهمون ويضحون بوقتهم ومن أموالهم الخاصة للحفاظ على هذا المورث الثقافي، شكرا للذين ساهموا في نفض الغبار على هذا الكنز الثمين وظلوا متشبتين بأصالتهم وبهذا الفن الذي يسافر بالمتلقي إلى كل ماهو جميل…وللنهوض بهذا الموروث الثقافي والرأسمال اللامادي وكي نرقى به إلى مستوى عال، لابد من برنامج تنموي مدروس، لصون هذا التراث بالمعنى الحقيقي للكلمة، وهذا الصون يتأتى عن طريق برنامج متكامل يمكن أن يعتبر الدعامة الأساسية للمحافظة على هذا الإرث، وذلك بإدخال دراسة التراث الغنائي الشعبي في مناهج التعليم العمومي والخصوصي عبر مختلف المستويات الدراسية، وبالمعاهد والجامعات..وأن يتم تدريسه في إطار ينمي لذا المتلقي احترام التراث، كما يطلعه ليس على التراث الشعبي القروي الريفي فحسب، وإنما يطلعه أيضا على عناصر التراث المتولدة في البيئة الحضرية، فيتكون لديه إيمان علمي بالتنوع الثقافي على مستوى الوطن..وينبغي العمل على تنسيق الجهود المحلية والإقليمية عن طريق إنشاء مراكز للتكوين تكون تابعة لوزارة الثقافة، كإضافة أجنحة تربوية تكوينية تهتم بالتراث الغنائي داخل المعاهد الموسيقية، ودعم البحوث التراثية العلمية بكافة السبل عن طريق توفير مساندة ودعم اقتصادي للأفراد والمؤسسات التي تدرس المواد التراثية أو تعرف بها وتعتني بشؤونها. والاكثار من المهرجانات التي تتيح الفرص لاشتغال الفنانين الممارسين وتشجيعهم وتدعم هذه الفنون الشعبية كمهرجانات فن العيطة بكل من أسفي، وسطات، وبرشيد، والدار البيضاء والرباط..ومهرجانات الحكاية بكل من مدن زاكورة، وتمارة، والرباط وسلا..حتى يتسنى لنا مواجهة هذا الزخم الفني القادم من الخارج وحتى لا نفقد هويتنا المغربية في ظل التقدم التكنولوجي، كما ينبغي علينا مسايرة الركب والتطور الحضاري، واستعمال مواقع التواصل الاجتماعي والأنترنيت وتطبيقات التراسل الفوري.
إن أصالة فن العيطة عموما تكمن في امتداده التاريخي، وهو يشكل جزءا من هويتنا الثقافية، ومن أجل الحفاظ على هذا الفن وصونه من الضياع، علينا أن نكثف الجهود، وأن نحمل المشعل إلى الأجيال القادمة، ولكي نضمن استمرارية هذا النمط من الغناء الأصيل، نحن في أمس الحاجة إلى تبصير الشباب بجذور هذا الفن وألوانه وموضوعاته، كل منا من موقعه “ممارسين، باحثين، إعلاميين، جمعيات، مؤسسات وصية…”، كما يتوجب علينا توثيق ذلك المتن القليل الذي وصلنا منه، بصفة هذا الفن الشعبي إرثا مشتركا، وهو إنتاجا فنيا قام بالتعبير عن هموم وأفراح الإنسان الشعبي خلال فترة حاسمة من تاريخه، وسجل لنا مظاهر حية من معيشه وطقوسه وأحلامه.. فقد حان الوقت لسبر أغوار هذا التراث الأصيل على أسس علمية لإعادة الاعتبار إليه. ولما لا نبدع ونخلق عيطات جديدة ونجدد حكايات وقصص حديثة من الواقع ومن الخيال قد تصل إلى مستوى أو تقارب ما تركه أجدادنا وقد تفوقه.

الاخبار العاجلة