مَنْ هو الرّجل الذي قبّلَ الملكُ رأسه ؟

جسر التواصل9 يونيو 2020آخر تحديث :
مَنْ هو الرّجل الذي قبّلَ الملكُ رأسه ؟

د. خالد التوزاني

من المألوف أن يُقبِّلَ الناس أيدي الملوك والسلاطين، في كل زمان ومكان، محبةً واحتراماً، أو هيبةً وإجلالاً، أو خوفاً وطمعاً، أو تزلّفاً وقربةً.. أو غير ذلك من المقاصد التي لا تُرى، وإنما يُشاهَدُ فقط منظرُ الانحناء لصاحب الجاه والسلطان، ولكن أن ينقلب الوضع، ويحدث العكس؛ فيُقبِّلَ الملكُ أو السلطانُ رأسَ واحدٍ من رعيّته، فهذا له معنى الاحترام والإجلال الذي يكنّه الملك لذلك الإنسان، وأيُّ عمل عظيم قام به ليستحقّ هذا الوسام الذي لا يُشبه الأوسمة المعتادة، إنَّ الملك لا يصدر منه هذا التعبير إلا لمن رآه مستحقاً هذا التقدير.

أما السلطان فهو أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس نصره الله، وأما الرعية فهو الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي، الذي وافته المنية خلال فترة الحجر الصحي، وتحديداً يوم الجمعة 29 ماي2020، وبرحيله يكون المغرب قد فقد أحد رجالاته الذين قلّما يجود الزمان بأمثالهم، فقد كرّس حياته لخدمة الإنسانية والوطن، كما يظهر في اختياراته المهنية ومساراته في الحياة، فالرّجل بدأ حياته المهنية محامياً قبل أن ينخرط في العمل الجمعوي ثم النضالي والسياسي، والكفاح من أجل مغرب أجمل وأفضل، ومن أجل مجتمع أسعد وأطيب، وأكثر تماسكاً ووحدة.

أسهمت البيئة الاجتماعية في شمال المغرب في تكوين الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي على المعالي ومكارم الأخلاق وخصال التضحية والنبل والوفاء والإيثار، فقد ولد في طنجة عام 1924، فكان للبيئة المحلية أثر واضح في شخصيته القيادية، واستطاع أن يبقى في منأى عن الشبهات، وهذا نادراً ما يحظى به السياسي، لأن تضارب المصالح والمكاسب السياسية والاقتصادية يخلق الأعداء ويصنع المحاربين وتجار الأزمات الذين يصطادون في الماء العكر، لكن الشخصية الهادئة لهذا الرّجل جعلته يمتصّ كل الصدمات ويواجه أعتى العواصف ويخرج سالماً، دون أن يؤذي أحداً أو يثير الفتن أو يشوّه الحقائق وينشر المغالطات ويوهم الناس بالتغيير، لقد كان حكيماً في أقواله، يختار ألفاظه بعناية بالغة، ويضبط حركاته وانفعالاته، الشيء الذي جعل منه رجلا نموذجياً يحظى بإعجاب ملك المغرب جلالة الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه، ثم ثقة ومحبة أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس نصره الله، كما اتسمت شخصيته بالجرأة واللباقة في الآن ذاته، فكتب مذكراته دون أي خوف أو حساسية ما، وكان دقيقاً في أقواله وملاحظاته، ليؤدي رسالته في الحياة، وينسحب بهدوء كما عاش بهدوء، فيخلّد التاريخ ذكره بمسك الختام، وبمعاني المحبة والوفاء، ولا ينسى العالَمُ، صورته وهو في المستشفى وقد زاره جلالة الملك محمد السادس نصره وأيده، وفي مشهد إنسانية يدل على عَظمة ملك، وعظمة سياسي، نادراً ما تلتقي لترسم صورة جميلة من الوفاء والاعتراف والمحبة المتبادلة، لتعطي درساً بليغاً للإنسانية.

ولأن عالم السياسة محفوف بالمخاطر والأزمات، فقد تعرَّض الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي للاعتقال والسّجن والنفي، مع ما يترتب عن ذلك من معاناة وألم، له ولأسرته وللمحيطين به، ومع ذلك لم يؤثر فيه الأذى الذي أصيب به في بعض الفترات من مساره النضالي والسياسي، فينتقم أو يسيء للآخرين، وإنما نظر بعين أخرى، ولعل ذلك بسبب إيمانه بما يفعل، ويقينه في أهمية ما يبذل ويقدّم، وتشبته بالمبادئ والقيم، فما كان لله دام واتصل وما كان لأجل مكاسب فانية انقطع وزال وتوقّف، والتاريخ يسجل دائما صمود الأوفياء لمبادئهم والرواد في مجالهم، الذين ينفعون أوطانهم ومجتمعاتهم، دون انتظار أي جزاء أو اعتراف أو تقدير أو منصب أو جاه أو مكسب، إنهم يؤدّون رسالتهم بأمانة وإتقان وإحسان، ثم ينسحبون بهدوء، تاركين التاريخ يسجل مفاخرهم، فالذاكرة الإنسانية لا تنسى أبطالها أبداً.

وإنَّ من نِعم الله الكبرى على مغربنا العزيز، هذا التلاحم الوطني والإجماع على صلحاء الأمة وخيارها، ويمثل أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس نصره الله، قدوة الأمة ونبراسها المضيء في السير قدماً نحو التغيير الهادئ والنمو المستمر والتقدم المتواصل، ولذلك كان مشهد زيارة جلالته لهذا السياسي والمناضل الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي، أثراً عميقاً في نفوس العالَم، وليس المغاربة فحسب؛ بكل معاني الرحمة والإنسانية في أجمل صورها الخالدة، والتي لا تتكرّر إلا في بلد مثل المغرب، برجاله ونسائه وكل مكوناته الحية والصالحة، ذلك لمن أراد من السياسيين اليوم أن يأخذ الدروس والعبر، طالما هناك فرصة للتصحيح والتدارك والعمل من أجل الوطن والإنسان.

إن الحديث عن مناقب الرّجل ومحاسِنه ومواقِفه ومبادَراته وسِمات شخصيته، يحتاج إلى صفحات تمنح الرّجل حقه، وتعطي للناشئة من الجيل الحالي والأجيال القادمة القدوة الحسنة، والسيرة المثلى الطيبة، لرجلٍ أخلص لدينه وملكه ووطنه، ولم يكن من أهل الجري وراء المناصب والمكاسب، ولذلك أحبّه ملكُ المغاربة فقبّلَ رأسه، معبّراً عن عميق الاحترام والتقدير، وعن معاني الرحمة التي تطبع شخصية ملك مُحِبّ لشعبه، فكان حقّاً رجلاً بأمّة.

وإن جولةً سريعة في مواقع التواصل الاجتماعي هذا اليوم الجمعة 20 ماي 2020، بعدما انتشر خبر وفاة الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي، تكشف عن حجم المحبة والتقدير الذي يكّنه المغاربة لهذا الرّجل، فقد تنوّعت التعليقات والتعبير عن المشاعر، بين تلك التي تشهد للرجل بالاستقامة والنزاهة، أو تلك التي تستحضر مواقفه ومبادراته، أو تلك التي تتحدّث عن شخصيته القيادة ونبل عطائه، أو تلك التي تدعو له بالرحمة والمغفرة والسلام والسكينة، بعدما عاش دهراً طويلاً، إذ ناهز 96 عاماً، لا شك أنه قضاها في العمل المستمر، والتفكير الدائم في قضايا الوطن، وكيف السبيل للرقي بهذه السفينة.

ومن الشهادات التي نستحضرها في هذا السياق، ما كتبه عميد كلية الآداب بتطوان الدكتور مصطفى الغاشي، في صفحته في الفيس، يقول: “عن سن تناهز 96 سنة قضاها كلها في الكفاح من أجل وطنه ومستقبل أبناء المغرب. عاش شجاعا صادقا وفيا لمبادئه مخلصا لقناعاته الوطنية والإنسانية، نظيف اليدين. لم تكن له مطامع في الدنيا رغم الفرص الكثيرة. لم يكن منافقا ولا انتهازيا. لم يكن ناكرا للجميل أو عديم الأخلاق كما هو حال الكثير ممن ينتسبون كذبا للسياسة. رحمك الله أيها الرجل الكبير وغفر لك وجعل قبرك روضة من رياض الجنة، وأدخلك الجنة مع الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا. عزاؤنا واحد فيك و لا نقول إلا ما يرضي الله . انا لله وانا اليه راجعون. الفاتحة ترحما عليه.”

وقد خلّفَ رحيل عبد الرحمن اليوسفي، تفاعلا واسعا في المغرب، لما تميّز به مسره السياسي والنضالي من مبادئ حافظ عليها في سيرته، وفي سلوكه، ولم تستطع المناصب التي تقلّدها أو الامتيازات المادية التي رفضها، أن تغيّر من شخصيته المتواضعة والبسيطة.

وعلى الرغم من تعرّضه للاعتقال أكثر من مرة، وعاش في المنفى الفرنسي، قبل أن يعود إلى المغرب، ويطلب منه الملك الراحل الحسن الثاني طيب الله ثراه، أن يترأّس حكومة تناوب ويعمل على تشكيل حكومة وطنية، تعمل على ترسيخ الديمقراطية، وذلك عام 1998، وهي الحكومة التي عرفت اهتماماً واسعاً وأملاً قوياً في التغيير.

بعد مغادرة عبد الرحمن اليوسي الحكومة سنة 2002، تفرّغ لحياته الخاصة ولم يعد يظهر في الواجهة، فقد ابتعد عن كل الأضواء، إلى أن أصدر مذكراته التي تحدث فيها عن الكثير من الأحداث والمواقف، ليؤرخ بذلك لقصة مناضل وطني حظي بالإجماع، نظراً لأخلاقه وصفاته الطيبة، على الرغم من أنَّ البعض حاول التقليل من دوره وتساءل عن مُنجزاته في الميدان، ماذا قدّم للمغاربة، وأيضاً أساء البعض إلى النصب التذكاري الذي يحمل اسمه بتدنيسه والعبث به، إلا أنَّ الرجل قدم للمغاربة نموذجاً من السياسي الذي يجعل مصلحة الوطن فوق كل مصلحة أخرى، ويضحي مادياً ومعنوياً لأجل أن يبقى الوطن عزيزاً شامخاً مستقراً وموحّداً، وبناء مثل هذا النموذج السياسي نادراً ما يجود الزمان به.

من مبادرات عبد الرحمن اليوسفي، تأسيس حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وهو حزبٌ منشق عن حزب الاستقلال، سنة 1959، رفقة عدد من السياسيين في تلك الفترة، وهو الحزب الذي شكّل النواة الأولى لانبثاق حزب الاتحاد الاشتراكي الذي يعدُ أبرز حزب سياسي يساري في المغرب، ويتعرض مناضلوه إلى حملة اعتقالات، ويُلقى القبض على عبد الرحمن اليوسفي بتهمة التحريض على العنف والمساس بالأمن الوطن، وفي سنة 1965، غادر اليوسفي إلى فرنسا وظل فيها لمدة 15 عاما، وتمت محاكمته، في ذلك الوقت، بشكل غيابي، وطالب المدعي العام بأن يدان بالإعدام، لكن عفواً صدر بحقه في 1980، فعاد إلى بلده المغرب، ولم تضع هذه العودة حدّاً لمشاكله مع السلطة، ففي سنة 1993، احتج على ما اعتبرها عيوبا شابت الانتخابات التشريعية واستقال من مهامه السياسية، إلى أنَّ ترأس حومة التناول عام 1998 ليصبح أوّل زعيم معارض يتولى السلطة في المغرب.

كانت سنة 2016، بداية التدهور الصحي الذي أصاب عبد الرحمن اليوسفي، حيث دخل المستشفى وفي صورة أثارت تفاعلا واسعا عبر العالم، ظهر جلالة الملك محمد السادس نصره الله، وهو يقبل رأس “الزعيم الوطني”، وفي العام نفسه، أطلق الملك محمد السادس اسم عبد الرحمن اليوسفي على شارع في مدينة طنجة التي ولدَ فيها هذا السياسي المعارض.

هكذا، يطوي التاريخ المعاصر صفحة من صفحات الكفاح من أجل الوطن والكرامة والحرية، والثبات على المبادئ والحق، وقد جاء رحيل عبد الرحمن اليوسفي، في ظروف جائحة كورونا التي فرضت الحجر الصحي، مما فوّت على المغاربة الخروج في جنازة مهيبة، تليق برجل دولة كبير، ولكن يكفيه حب الناس له، والتاريخ لا ينسى أبطاله أبداً.

 

[1] رئيس المركز المغربي للاستثمار الثقافي – مساق- touzani79@hotmail.com

الاخبار العاجلة