عبد العزيز حنان
الدار البيضاء
تمهيد
المتفحص في المجموعات الشعرية الصادرة للشعراء عندنا ، سيجد نفسه أمام صنفين .
الصنف الأول:
مجموعة شعرية لا خيط رابط بينقصائدها ، سوى كونها صدرت لاسم واحد . بمعنى أدقّ ، مجموعة شعرية متنافرة المواضيع و متعددة الأغراض . فيها من كل غرض من أغراض الشعر قصيدة بل و منها من تجد فيه تعارضا و نشازا بين قصيدة و أخرى . و هذه الأخيرة لها دلالات و تحليل آخر ليس هنا مقامها .هي مجموعات شعرية – ربما – الهدف منها الإصدار فقط . تحت عنوان : أنا أُصدر ( ديوانا ؟؟؟ )، أنا موجود ).
الصنف الثاني :
حين تتابع النصوص ، تلامس اجتهادا ورؤية متّزنة . و تلامس أن هناك رابطا يجمع بينها انطلاقا من أرضية متبصّرة للفعل الإبداعي . و ذلك من خلال وحدة السّياق الموضوعي و تفتيته عبر منظومات شعرية قد تختلف في المعالجة لكنها تتوحد في الأرضية و الهدف .
هذه المجموعات الشعرية تُشبع نهم المتلقي و تجعله ليس فقط إتمام قراءة القصائد ، و إنما الانصهار فيها و العودة إليها مرات و مرات ، قصد إشباع النهم الذي تحدثه فيه .هناك شعراء من الجنسين مَن تأسّس إصدارهم على الاجتهاد المتميّز، و إن كانوا قلة مقارنة مع الكمّ الكبير من الإصدارات المنتمية للصنف الأول .
هذا المُنجز الشعري
مدخل أولي لِ : ( عْنَادْ الْڭَمْرَة ، وَ بْيَاضْ اللِّيلْ )
الغلاف
( العنوان و اللوحة )
الشعر ، تجلّي روحي و ليس مجرد تصفيف كلام و حروف اللوحة الممتدة على دفتي الغلاف الخارجي ، هو مفتاح المجموعة الشعرية .و هما معا (اللوحة/ القصائد) خرجا من رحِم واحد. و لذلك كان التجانس
إذِ النصوص عبّرت عن لوحة دِفتي الغلاف الخارجي و هذه خاصيّة تُحسب للشاعرة/ الفنانة التشكيلية .
العنوان
يقدم نفسه على بساط تشكيلي بصورة بلاغية متميزة . (عْنَادْ الْڭَمْرَة ، وَ بْيَاضْ اللِّيلْ ) .
كيف تعاند – الْڭَمْرَة – شعلة نورها ؟؟؟
و كيف يتحول الليل إلى بياض ؟؟؟
إنه الِمِخْيال التشكيلي الذي يهيء الصورة الشعرية قبل الكتابة . هذا الفِعل الكتابي هو ما يُصطلح عليه بالطّباق في المفهوم البلاغي ، حين يتأسس على الشيء و نقيضه بنفس المصدر اللغوي .
اللوحة تبوح أو تمهّد للبوح بما سيتفجّر في القصائد .
امتزاج بين البياض و السواد . هما النقيضان و المتضادان ، هما أيضا (عْنَادْ الْڭَمْرَة ، وَ بْيَاضْ اللِّيلْ ) ، لكن الملفت في لوحة الغلاف المساحات الخضراء التي تخترق اللونين المتناقضين . و هذا هو صلب الحكاية . حكاية عائشة البحرية و أبو شعيب الرّدّاد .
حكاية ( الْڭَمْرَة )البدر في تمامه المشع ، و (وَ بْيَاضْ ) ضدا على الظلمة .
الْڭَمْرَة .. عِناد ، و الليل .. بياض . هو تلاقح النقيض بالنقيض و كأنها عملية في الرياضيات ، عندما نضرب رقم ناقص في رقم ناقص ، يعطينا رمز ( + ) .
( -x ) ×( -x) = +
و هو اختيار ذكي للعنوان و تصميم من خلال اللوحة أكثر ذكاء ، لدلالة المعنى من خلال اللوحة . دون إغفال الاخضرار الذي يتخللهما و دلالاته اللونية و الإيحائية .
و كما نجد في الدّفة الأولى من الغلاف العنوان متماهيا مع التشكيل ، و بنفس الذكاء ، نجد الدفة الثانية تختم الغلاف بالتبشير للآتي …
طريقة ذكية جدا . فأول ما يتعامل معه أي مُتلقي للكتاب هو الاطلاع على دفتي الغلاف . و هنا في هذا المنجز الشعري دفة تحضنه .
اللدغة الأولى مع العنوان و المصاحبة التشكيلية ، و الثانية تبشر للمنجز الشعري القادم و الذي أراه استمرارية لهذا المنجز الشعري ، يجعل المتلقي مشتاقا أولا لقراءة ما بين يديه ، و متشوّقا للقادم …
المقطع الإعلان للقادم ..
تْفَڭْعَتْ الْمُوجَة
مَنْ لَبْحَرْ
وَ هْرَبْ الْحَرْفْ
عْلَى السّْطَرْ
وَااا عْيِيتْ
نْزَاوَڭْ
فِ هَاذْ لَعْمَرْ
يَنْسَانِي
غِي شْوِيَّة .
//////
من الديوان القادم
“” كْمِيشاتْ مَنْ لَكْلامْ “”
————————–
مدخل ثاني …
كم هي الإبداعات الشعرية التي استوحت من حكايا الماضي و من قاع المجتمع السفلي ، مجالا خصبا لإبداعها ؟؟؟
ما أكثر الحكايا و الرموز في كل جهة من جهات المغرب التي تجعل من شخصيات معينة أبطالا أسطوريين نسبت إليهم قدرات خارقة …حكايا يتجاذبها الخيال الجامح و الواقعية الصارمة …
حكاية ( عائشة و بوشعيب ) من المأثورات الأكثر انتشارا في مجتمعنا. هناك من يتناولها بسطحية ساخرة من تفاصيل الحكاية و المصدقين لها ، و هناك من غاص في امتداداتها الزمنية و المحكية دون أن يغفل
الامتداد الذي ما زال يتنفس بيننا .
هذا المنجز الشعري لفاطمة بلعروبي يتناول الحكاية من منظور يُزاوج بين الواقع و المتوقّع … بين الذي كان و الذي يعيشه الكثيرون حاليا ، و ستعيشه أجيال قادمة …
هي حكاية عائشة البحرية و أبو شعيب الرداد ، بين الحقيقة و التأويل ، بين السرد الشعبي و المعلومة التاريخية و رمزية استحضارها لهذه المجموعة ، ثم الارتقاء بها إلى اليومي الذي تبنّته الشاعرة .. سواء من خلال تجربتها أو تجربة من عايشتهم أو من حكوا لها .
الشاعرة في إعدادها ا لهذا المنجز الشعري ، استندت إلى رؤية منظمة و ذلك من خلال فصول أربعة داخلية و الخامس خارجي يمهد للآتي .
هذه الفصول تتوزع بين التمديد و الاختصار المقصود ، معتمدة على فن الحكي . و هو الفن المدهش الذي يعتمده الحكاواتيون المتمرسون الذين لهم قدرة هائلة على إقحام المتلقي في أجواء الحكاية ( فن الحلقة ) ، وليس من يتوهمون أنهم حكواتيون و هم بعيدون عن ذلك بمسافات ضوئية .
الفصل الأول
شِي حَاجَة قْبَلْ لَعْنَادْ
هي عملية تسخين استعدادا للرحلة . و هي تشبه التسخينات الأولى التي يقوم بها الرياضيون قبل الدخول الفعلي في أية مباراة أو سباق . و هي المبنية على معرفة الأرض و طبيعة العشب أو المضمار.
ينطلق هذا المشهد من ثنائية هُوَ و هِيَ . هذه الثنائية الجدلية منذ بدْء الخليقة البشرية على الأرض من خلال آدم و حواء كما قدمهما القرآن الكريم . مشهد تقدمه الشاعرة كتمهيد للآتي … تفتح من خلاله فضاءات التصورات المختلفة و الممكنة أمام المتلقي ، لِتشركه في فعل الحكي . و ذلك من خلال اعتماد الحكواتي كما عرفه المجتمع المغربي المُرتكز على فنّ التشويق:
( هِيَ حْكايَة سْمعْناها وْ سمْعاتْها الأُلوفْ
حْكايةْ رَبْطَة زُغْبيَّة ،
حْكايْةْ عَطْفَة مَعْمِيّة ،
جْلَاتْ مَحْضارْ و كْواتُو كِيَّة .
حْكايْةْ بُوشْعيبْ وْ عَايْشة بَحْريَّة
وَاخَّا التَّارِيخْ مَا زَّمْهَا فَ سْطُورُو ،
مَاجَابْ خْبارْ مْحكّرَة عْلَى تِيهْ بُوشْعيبْ وْ ضَرُّو .
وَ لكِنْ لَفْوامْ تْعاوَدْ وْ مَا زَالْ تْعاوَدْ
عْلَى قَصَّةْ عَطْفَة وَ دْمُوعْ حْنانْ )
مُنحنى البنية الحكائية
الشاعرة تجنّبت تعمُّد و اصطناع الصياغة الحكواتية ، لم تفتعل اللغة و لا الإيقاع و إنما أطلقت العنان السّردي بما يتطلبه الحكْي من مقومات أساسها التشويق ، و استعمال معجم لغوي سلس و تلقائي دون تكلّف . إذ يبدو للمُتَقّين في تركيبته لهجة ( عْروبِيَّة ) محظة لكن في الحقيقة هذا المعجم اللغوي يصور لنا غِنى هذه اللهجة من خلال اعتمادها على اللغة العربية المعيارية و القدرة على تذويبها في الإيقاع اللّهْجوي حيث يبدو جليا في هذا المقطع :
(وَاخَّا التَّارِيخْ مَا زَمّمْهَا ف سْطُورُو ،
مَاجَابْ خْبَارْ مْحَكّرة عْلَى تِيهْ بُوشْعَيْبْ وْ ضَرُّو .
وَ لَكنْ لَفْوَامْ تْعاوَدْ وْ ما زَالْ تْعاوَدْ
عْلَى قَصَّةْ عَطْفَة وَ دْمُوعْ حْنَانْ )
و للإشارة و الصدق ، قد توفّقت الشاعرة في هذا التقديم الحكواتي بشكل جد متميز ، سواء في بنيته اللغوية أو تمثّلاته المحكية حين تتقمص شخصية الراوي و هو وحده على الركح أو وسط دائرة المتابعين للمحْكيّ و الحاكي . و ذلك ببسْط الأرضية لإشراكهم في المشهد الموالي و المشاهد اللاحقة . خصوصا عند تقديم شخصيتيْ و بطليْ الحكاية : ( عائشة / بوشعيب ) . لأن التقديم / التشويق ، له أهميته في دفع المتلقي الإصرار على المتابعة و حتى المشاركة .
التقديم
المستوى الأول :
( كَانَتْ عَيْشَة مِيرَة
وْ كَانْ بُوشْعَيبْ بَالْعَطْفَة سَلْطانْ
كَانَتْ عَايْشَة فْتِيلَة
وْ كَانْ بُوشْعَيبْ بَالرّْجَا فَرّانْ عْوَافِيهْ ڭَادْيَة ِنيرانْ . كَانتْ عَايْشَة قَصَّة
وْ كَانْ بُوشْعَيْبْ حْدِيثْ
كَانَتْ عَايْشَة الطَّالَّة عْلَى الدَّنْيَا بْعَيْنْ لَغْرِيبْ
الطَّالَبْ حْرُوفْ فَتْيَاتْ.
وْ كَانْ بُوشْعيبْ الطَّامَعْ فَ مْحَلَّة فْ بَغْدَادْ تْفَرَّحْ الْخَاطَرْ
وَ تْكُونْ الزَّادْ فَ طْريقْ الْعِلْمْ الطوّْيلَة
كانَتْ عَايْشَة مَا تَعْرَفْ مَا تَدْرِي آشْ فِ رَاسْ الدَّرِّي
وْ كَانْ بُوشْعيبْ يَفْهَمْ الصّْوَابْ وْ ما يَدْخُلْ غِيرْ مَنْ الْبَابْ
الخاتمة المفتوحة
المستوى الثاني
و يرتكز على المفاجأة غير المتوقعة :
( وْ يَتَّعْكَسْ سَارُوتْ الْفَرحْ حِيثْ
قْبلْ مَا يَفْصحْ عْلَى الْمَطلُوبْ وْ يَتْحَقّقْ لِيهْ الرّْجَا
وْ يكُونْ مَكْتُوبْ ،
تْسَدُّو فِي وَجْهُو وَ رْجَعْ رَجْعَةْ الْمَغْلُوبْ .
جْمَعْ اللّْواحْ وْهَرّسْ الْخابْيَة الْجَامْعَة مّيّتْ الْعْطشْ فْالَمْراحْ
وَ رْجَعْ لَبْلَادُو قْبَلْ ما يَطَلّْ الصّْباحْ
كَانَتْ عَايْشَة قْبَلْ لَخْبَارْ تَتْمَنَّى
ولَّاتْ بَعْدْ لَخْبَارْ مَا قَادَّة تَتْسَنَّى …
شَڭَّاتْ طْرِيقْ لَبْحَرْ تَابْعَة الْمَحْضَارْ
بَاشْ الْخَاطَرْ يَتْهَنَّى ..
((( إلى الجزء الثاني من السفر )))
(الجزء الثاني يتبع )