شيخ العيطة الحسين السطاتي
يزخر المغرب بتراء فني موسيقي، كما يتميز بتنوع في الموسيقى والغناء شكلا ومضمونا، سواء تعلق الأمر بالموسيقى العصرية أو الشعبية التي ينضوي تحتها فن العيطة. ويُعد هذا الفن من أهم وأشهر الأنواع الغنائية الشعبية التراثية المتداولة في المغرب، وكنزا فنيا زاخرا بأغنى الجمل الشعرية والتركيبات اللحنية والإيقاعية، وهذا اللون الموسيقي هو من أعرق فنوننا الغنائية الشعبية، غناء البدو.. فن رعوي أصيل متجذر في التراث الشعبي يجمع بين الموسيقى والغناء والرقص، نداء كتعبير عن ألم مشترك، وعن الحب بلذاته وعذاباته..صرخة الإنسان القروي، وهو نداء القبيلة والاستنجاد بالسلف، لتحريك واستنهاض الهمم، واستحضار ملكة الشعر والغناء..أشعار تغنى باللهجة العامية المغربية، تحمل قيما إنسانية قوية، مازالت تصدح بها حناجر المغنيين من أشياخ وشيخات منذ قرون خلت..فهو تراث أصيل وفن حي ومتحرك ومتجدد، فن يجمع بين الأصالة والمعاصرة، ليؤكد أصالته في أشكاله وقوالبه الموسيقية التقليدية، كما يؤكد حداثته في الاستفادة من الأحداث والوقائع كعوامل مثيرة للإبداع والتجديد والإنتاج، وقد تحولت بعض الأبيات والشدرات إلى أمثال شعبية خالدة يتداولها الكبار والصغار، وخير دليل نجده في هذه الأبيات من عشرات الأبيات من عيطة “دامي” المرساوية:
ايلا ما عندك شهود…را أنت مشدود
مول الجود يجود….ربنا موجود
رضينا بالهم…والهم ما رضا بينا
كثرة الهم…كتعصر الدم
حبيت وتحبيت….وكرهت ومليت
العود اللي سقيت….بيه تكويت
كما نجد ذلك أيضا في هذه الأبيات ومنها الآلاف من عيطة “الحساب الزعري”، المنبثقة من العيطة الزعرية:
اللسان مافيه عظم…وكيجبد الهم
مشاو دوك الناس…وبقاو ع لماس
سير بالمهل…لابد توصل
عنداك تكون مغرور..را الزمان يدور
هذه أبيات زجلية عيطية بلغة ضاربة في عمق البادية المغربية، تتغنى بموسيقى ممتدة من السهل إلى الجبل ثم إلى الصحراء، موسيقى تقليدية تراثية، غناء ورقص بأصوات ناحبة شجية وألحان آلات موسيقية نادبة، ولباس تقليدي فاتن متوارث أبا عن جد.. فن تراثي أصيل لهذا وجب علينا تدوينه وتوثيقه، ورعايته وحمايته من الضياع والابتذال، لذا ينبغي طرح مجموعة من الأسئلة منها؛ ما هو مصير هذا الفن مستقبلا ومآل ممارسيه صانعي الفرجة فيه؟، وكيف يمكن لنا أن نحافظ على هذا التراث اللامادي؟ وكيف يمكن الحصول على النص الأصلي العيطي الأول لتوثيقه؟ وهل توثيق الفن العيطي ضرورة أم ترف؟ وكيف يمكن دعم فناني هذا الفن من أشياخ وشيخات وتوثيق أعمالهم وسيرهم حتى يكونوا نموذجا يحتدا به للأجيال الناشئة، وتكون أعمالهم مراجع ومستندات يعتمد عليها عند الحاجة، وحتى يتسنى لهذه الأجيال أن تقدم لونا فنيا غنائيا يستمد روحه من العيطة ويتماشى مع روح العصر مع الحفاظ على الهوية الفنية؟..
واصطلاحا نقول وثق، يُوَثِقُ، توثيقا، فهو موثِق، والمفعول موثًق، ووثًق الأمر يعني أحكمه، وقواه وثبته وأكده، ووثق المعلومات بمعنى جدد أصلها وتأكد من صحتها.. وتعريف الوثيقة وأهميتها يجب أن يدركه الجميع، لأن الوثائق مستعملة في جميع مجالات الحياة، والوثيقة هي كل ما هو مكتوب أو مرسوم أو مطبوع، والذي يصدر أو يستلم من أية جهة أو مؤسسة رسمية، والذي تقرر الاحتفاظ به لأهميته وفائدته، كما تعرف أنها صك يحتوي على معلومات تصدرها هيئة رسمية معترف بها، ومعترف لها بالحق في إصدار تلك الأشياء، ويحمل من السمات العائدة إلى تلك الهيئة ما يمكن الاطمئنان إلى صحة صدورها عن تلك الهيئة لقطع دابر التزوير.
وللوثيقة أهمية كبرى متمثلة في القدرة على حفظ جميع الأحداث والرموز، والمنع من تغيير جذورها أو مضمونها، والمحافظة على تراث الأمة وحمايته من الشوائب التي قد تعتريه، كما للوثيقة دور هام في تزويد الباحثين والمؤرخين بالمادة الكتابية والتي تعتبر المصدر الأول لديهم ومساعدتهم في التأكد من صحة المعلومات والتحقق من وجودها..
واجب علينا أن نوثق ذلك المتن القليل الذي وصلنا منه وعرضه في صياغة أدبية تعامل تراث العيطة بوصفه إنتاجا فنيا قام بالتعبير عن أحزان وأفراح الإنسان الشعبي المغربي خلال فترة حاسمة من تاريخه..وسجل مظاهر حية من معيشه وطقوسه وعاداته. وتراثنا العيطي غني كل الغنى بموضوعاته التي ألهبت الأحاسيس والوجدان، فشملت النفس الإنسانية بكل صبواتها، ونزعاتها، وتطلعاتها، وعمقها، ورقتها، وأفراحها، وأحزانها، وتفاؤلها، وتشاؤمها. ولم يكن حظ المرأة في القصيدة العيطية بالقليل فهي فيه دنيا من التألق والعبق والجمال..كما لم يغفل الفن العيطي أمور الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وقد ساهم الفنان العيطي المغني الناظم في الدفاع عن الوطن بحمل راية الكفاح ضد المستعمر الأجنبي في مرحلة..في فترة كان العمل السياسي فيها أخطر الأعمال فيقضي الأشياخ والشيخات الكثير من أيام شبابهم في السجون والمعتقلات لما كان لمواقفهم الجريئة، وأغانيهم اللاهبة ونضالهم الفني من آثار بالغة الخطورة بالنسبة للمستعمرين وأعوانهم.. ولم يغفلوا في غنائهم أمر الطبيعة وما فيها من مفاتن وأسرار فنقلوها إلى القصائد ووضعوها على الإيقاعات والألحان التي عمرت سنين طويلة.
إن الباحثين قد اعترضت طريقهم في البداية صعوبات جمة؛ من بينها كيفية العثور على النص العيطي الأول الأصلي، وناظميه من الأشياخ والشيخات الأولين، لأن فن العيطة هو فن شفوي مجهول المؤلف، واعتمد في البداية على وسائل بدائية وبديهية، لضمان حفظه وبقائه، كانت ترتكز على الحفظ المباشر والتداول الشفوي جيلا بعد جيل، بعيدا عن وسائل التدوين والكتابة، لهذا ظلت العيطة تطبعها العفوية وقابلية الارتجال، كما ظلت تغذيها عبر الأجيال ولسنين طويلة إنتاجات وإبداعات تستمد أصولها مما تركه الأسلاف، ولكنها في نفس الوقت تبيح الاستحداث والتصرف البديهي، ولا تجد فيه ما يمس بأصالتها، حيث تجمع بين الأصالة والحداثة، بين التقليد والمحاكاة من ناحية، وبين الإبداع والارتجال من ناحية أخرى..ونعتر هناك على بعض الحالات القليلة التي يشار فيها إلى شعراء العيطة، فإن ما نجده هو تلك المعلومات الشحيحة الشفوية، الأقرب إلى الأساطير، كالرواية المشهورة عن الشيخة “حويدة الزيدية” الملقبة ب”خربوشة”، من قبيلة “أولاد زيد” بمنطقة “عبدة”، ووقوفها في وجه ظلم وجبروت القائد عيسى بنعمر العبدي، وهجائها له، وما إلى ذلك من نهايتها المأساوية التراجيدية من طرفه بسبب نظمها وغنائها لقصائد عيطية تندد بجبروته واعتداءاته على قبيلتها..كما نجد كذلك ما تناقلته الروايات الشفوية عن الشيخة “مباركة البيهيشة”، بقبيلة “بني ملال”، هذه الشاعرة التي قامت قائمتها بمنطقة تادلة ضد المعمرين، الشيء الذي جعل سلطات الحماية تنفيها عن المنطقة على سبيل التأديب التأديب والعقاب.
لقد كانت الأغنية العيطية فيما مضى تؤدى بآلات موسيقية تقليدية بدائية وبأصوات صافية بدون معدلات الكترونية ولا مكبرات للصوت، تغنى في الأماكن الخاصة والعامة، وسرعان ما يتداولها الناس ويتلقفها الواحد من فم الآخر، حتى تطغى موجتها من منطقة إلى أخرى، أما فن التصوير فهو حاضر بقوة في القصيدة العيطية، وقد اختار الزجال العيطي اصطياد الصور النادرة، دون ميوعة أو ابتذال في اللفظ، باستعمال آليات التشبيه والمجاز والترميز، بالتلميح بدل التصريح.. لهذا نستمتع بمشاهد غنائية رائعة في النص العيطي الذي تشبه قصائده أدق الشبه السياحات الكبيرة، ونقصد سياحات الخيال، وهي سياحات تملأنا بالمتعة، تملأ نفوسنا وقلوبنا، وتدفعنا لأن نتملى ونتمعن فيها لأننا نجد فيها غداء فنيا لا يلبت حين نستمع إليه أن نتمثله، وأن نشعر أنه يضيف إلينا ثروة جديدة، لا ثروة خيالية فحسب، بل أيضا ثروة نفسية، فهو يلهب عواطفنا ويقوي عزائمنا ويشد من إرادتنا ويؤجج حماسنا وثورتنا.. ورغم ما أضيف إلى هذا الفن التراثي من تحسينات وتهجينه بآلات موسيقية عصرية، ومعدات إلكترونية كهربائية، فقد عانى ولا زال يعاني من الإهمال سواء على مستوى الدراسة أو على مستوى التأليف والنشر والتوثيق، ويعاني من قلة المصادر التي يمكن أن يعتمدها الباحثون والمهتمون بعلوم الموسيقى، وعموم المواطنين الشغوفين بهذا الموروث الثقافي، إذ يشكل جزءا من الثقافة والهوية المغربية..
ورغم المجهودات التي تقوم بها الجهات المختصة بالشأن الثقافي بالمغرب، بما فيها وزارة الثقافة والشباب والرياضة، إذ لا يمكن أن نتغاضى عن المجهودات الملحوظة والملموسة التي تصب في خدمة الأغنية المغربية عموما، ولا يمكن نسيان اهتمام بعض النقابات بالوضع الاعتباري لبعض الفنانين منهم أشياخ وشيخات، من أجل ضمان حقوقهم الاجتماعية ومساعدتهم في أزماتهم المادية ومحنهم الصحية..لكن مازالت الساحة الفنية الغنائية ومنها فن العيطة بالمغرب تعاني من نقص على مستوى التوثيق. وذلك على الرغم من التاريخ الطويل للإنتاج والإبداع الفني في مجال الأغنية الشعبية ومنها العيطية، وتراكم إبداعات الفنانين المغنين وظهور تجارب جديدة، ساهمت في تحديث الأغنية العيطية، لذا وجب علينا أن نستفيد من المزاولين لهذا الفن ونوثق أعمالهم الجيدة المعترف بها، فكل عام تفقد الساحة الفنية الغنائية المغربية، ومنها الساحة العيطية، فنان، شيخ أو شيخة أو أكثر مشهود لهم بالكفاءة الفنية في ميدانهم، ويشكل فقدان أصحاب الخبرات والمشيخة والقدرات المعرفية في تخصصهم الغنائي، خسارة كبيرة للوطن، وعلى العالم بأكمله مادامت العلوم والمعارف عائدها على البشرية جمعاء. وهذا مسؤولية الجهات الوصية على قطاع الثقافة، كما يرجع لتواضع الفنانين أشياخ وشيخات الذين عادة ما يفضلون منطقة الظل والابتعاد عن الأضواء في نهاية مسارهم الفني سواء باعتزالهم أو بعزلهم، ولا يتم توثيق أعمالهم وكل ما يتعلق بحياة هؤلاء الأشياخ أو الشيخات والمهتمين، وعدم الاهتمام بهم والالتفات إليهم بطبع أعمالهم وسيرهم الذاتية، والنبش والهبش في حياتهم المهنية الفنية أتناء تواجدهم على قيد الحياة، وهكذا يتم فقدانهم مرتين؛ مرة برحيلهم عن الدنيا، ومرة بإهمال تركتهم الفنية المعرفية التي لا يتم أرشفتها حتى تكون للأجيال القادمة المنطلق والمرجع في البحث والتطوير، ويحدث هذا برحيل شيخة أو شيخ مشهور، ولم يحظ بالاهتمام والرعاية ولا حتى التكريم قيد حياته، كما يحدث فور وفاته أن تتسابق جمعيات مختلفة ومنابر إعلامية إلى دويه بعد رحيله للحديث عنه وعن إسهاماته وإصداراته وانجازاته الفنية، أو تكريمه خلال سهرة رمزية، وهذا في حد ذاته أمر جيد وايجابي وتشكر عليه الجهات التي تقوم بذلك..لكن أليس من الأفضل أن يتم تكريم الفنان العيطي والاحتفاء به وتوثيق أعماله طوال مسيرته الفنية المهنية؟ والحال أن هذا التكريم والاعتراف هو مطلب وغاية في نفس الفنان الشيخ والشيخة..وهم على قيد الحياة. وما دموع الفرح التي نعاينها في حالة حصول ذلك إلا دليلا مؤثرا على شعورهم بالاعتراف والتقدير الذي يستحقونه، وعلى عكس ما يتردد أن الفنان اعتزل أو تقاعد عن العطاء، فإن التكريم يكون محفزا ومنشطا للمعني به حتى يواصل عمله الفني وعطاءه بكامل الحيوية والتجدد. وإن تكريم الفنان عموما وتوثيق أعماله وتسجيل سيرته هو رسالة هادفة تجاه المجتمع، للحفاظ على جزء من هويتنا الثقافية، ودعوة لاقتفاء النموذج الناجح والطريق الفني المرغوب فيه، ويشكل بذلك دعوة تحفيز للأجيال الناشئة حتى تتبع مسار النجاح الذي سلكه..إن فن العيطة هو ماضينا الغنائي المشرق وعلينا أن نعتز ونفتخر به، وليس أدل على القيمة الكبرى للماضي بهذا المعنى المتكامل، من أننا نجد أكثر الدول تقدما وتحضرا ورقيا بمعايير العصر الحديث، هي الدول التي تتميز بالمخترعات الحديثة والمظاهر المادية للتقدم، هي نفسها أكثر الدول اهتماما وعناية في التنقيب عن أثار الماضي، مهما كان بعيدا عنها في الزمان والمكان.
إن أصالة فن العيطة عموما تكمن في امتداده التاريخي، وهو يشكل جزءا من هويتنا الثقافية، ومن أجل الحفاظ على هذا الفن وصونه من الضياع، علينا أن نكثف الجهود، وأن نحمل المشعل إلى الأجيال القادمة، ولكي نضمن استمرارية هذا النمط من الغناء الأصيل، نحن في أمس الحاجة إلى تبصير الشباب بجذور هذا الفن وألوانه وموضوعاته، كل منا من موقعه “ممارسين، باحثين، إعلاميين، جمعيات، مؤسسات وصية…”، كما يتوجب علينا توثيق ذلك المتن القليل الذي وصلنا منه، بصفة فن العيطة إرثا مشتركا، وهو إنتاجا فنيا قام بالتعبير عن هموم وأفراح الإنسان الشعبي خلال فترة حاسمة من تاريخه، وسجل لنا مظاهر حية من معيشه وطقوسه وأحلامه.. فقد حان الوقت لسبر أغوار هذا التراث الأصيل على أسس علمية لإعادة الاعتبار إليه. ولما لا نبدع ونخلق عيطات جديدة قد تصل إلى مستوى أو تقارب ما تركه أجدادنا.
إن الوضع الذي تعيشه الأغنية العيطية يدعو إلى الحسرة والقلق، رغم الانتشار الواسع الذي يلقاه، وعلى الرغم من النهضة التقنية واللوجيستيكية في ظل العولمة والتقدم الذي تحقق على مستوى التكنولوجيا الرقمية والإعلام الافتراضي عبر مختلف مواقع التواصل الاجتماعي.. لقد ظل الاهتمام بفن العيطة محدودا من طرف الجهات المختصة الوصية على قطاع الثقافة، وكذا تقصير منظمات المجتمع المدني والنقابات الفنية.. لكن في المقابل علينا دائما أن نجدد الشكر والتحية للسيدات والسادة الدكاترة والأساتذة الباحثين والإعلاميين..على مجهوداتهم الفردية الجبارة والقيمة، هم الذين اشتغلوا على فن العيطة والتراث الشعبي وأناروا لنا الطريق في هذا المنحى، وحافظوا لنا على هذه المعطيات الثمينة عن هذا الموروث.. فأنا كاتب هذه المقالة فنان شعبي عاشق ومولع بهذا الفن، ممارس ومهتم، موسيقي “كومنجي” ومغني لفن العيطة، أجتهد وأبحث كي أرقى إلى مستوى شيخ للعيطة، وأنقل ما وصل إلى علمي للمتلقي وللناشئة، وأكرر قولي أنني لست باحثا، لأن كلمة باحث هي كلمة كبيرة في عمقها وتعريفها الأكاديمي، وقد شقا الباحثون سنين طويلة، وأنفقوا من أموالهم وأوقاتهم للوصول إلى مراجع ومستندات علمية منها التي كانت مطمورة، ومنهم باحثون أكاديميون محنكون يجب دائما التذكير بأعمالهم والتنويه بها كنوع من التكريم، والترحم على الأموات، لهذا أعيد خلال كل مقال أكتبه عن فن العيطة أن أذكر وأشكر وأنوه بفخر واعتزاز هؤلاء الذين نبشوا وهبشوا، ونفضوا الغبار عن هذا الكنز المشترك بين المغاربة، هذا الموروث الثقافي اللامادي، رحم الله الأموات منهم وزكى في عمر الباقين الأحياء، وأذكر منهم الراحل رائد البحث والتحري العيطي محمد بوحميد، الله يرحمه، وحسن نجمي، وإدريس الإدريسي، وحسن بحراوي، ومحمد شقير، وأبو بكر بنور، ومحمد أقضاض، ومحمد الولي، وصالح الشرقي، وعبد العزيز بن عبد الجليل، وعبد الفتاح السليماني، وأحمد عيدون، وعباس الجيراري، وأحمد الصبيحي السلاوي، وعلال الركوك، وعبد الكريم الجويطي، وسعيد فاضلي، وعزيز خمريش، وبنسالم اكويندي، ومحمد بهجاجي، ومحمد قاوتي، ومضمون محمد، والتهامي الحبشي، وسالم عبد الصادق، وعبد السلام غيور، والغازي عبد الله، ونسيم حداد، والسهامي رشيد، وعلي المدرعي، والمصطفى حمزة، ولطفي العوادي وعبد العالي بلقايد.. ومنهم كذلك باحثون أجانب جذبتهم أنغام العيطة من قارات أخرى، كالباحثة الأمريكية “ديبورا كابشن”، التي أنجزت عملا هاما في موضوع العيطة ضمن بحث كلفت به من جامعتها ب”تيكساس”، والباحثة الموسيقية الايطالية “اليسندرا توتشي” الموفدة من جامعة أمريكية لدراسة هذا الفن موسيقيا وأكاديميا.. شكرا لهؤلاء جميعا، وغيرهم من الذين لم تسعفني ذاكرتي على تذكرهم فمعذرة منهم.
وجزيل الشكر لجمعية “أطلس أزوان”، في شخص رئيسها الأستاذ الباحث والخبير الموسيقي “ابراهيم المزند”، صاحب “أنطولوجيا العيطة”، عمل ثقافي أدبي توثيقي يتضمن كتابين باللغتين العربية والفرنسية، وأقراصا مدمجة مسجل عليها العديد من الأغاني العيطية بأصوات خيرة الشيخات والأشياخ من مجموعات عيطية غنائية من مختلف مناطق المملكة المغربية .
وبصفتي فنان شعبي ممارس لفن العيطة، لا أدعو إلى التقليد فحسب لكي لا أتهم بالرجعية، بل أدعو إلى الإبداع والتجديد الايجابي، بكل ما يعنيه التجديد من معان، وما يتطلبه من ثقافة وجهد، لنظيف إلى فننا العيطي الخالد صفحات مشرقة في سفر الخلود. لأن ما نبدعه اليوم سيكون غدا تراثا وإرثا لأبنائنا ولأحفادنا، وإذا اكتفينا بالتقليد، ماذا ستقلد الأجيال القادمة، كما أن الهروب إلى الماضي والدعوة إلى استرجاع عصر فني كان ذهبيا، في حين كان ذهبيا في ظروفه وزمانه، وعودته برمته لا يعني بالضرورة أنه سيكون ذهبيا مرة أخرى، وأحيانا يصل ببعض الأشخاص إلى كراهية هذا الماضي المجيد والرغبة في تحطيمه، كأنه هو العقبة التي تحول دون تقدمهم..ولا يمكن لمجتمع يريد الحياة أن يرجع كليا إلى الوراء. كما لا يمكن أن يهرب مجتمع إلى كهف ينام فيه قرونا ثم يصحو ليجد أن الأمور قد تطورت لصالحه أو أن الحياة قد توقفت عند لحظة إغفاءته. فكل ترتيب وضعه الإنسان قبل مأتي سنة ليواجه به ظروفا معينة، لا يمكن أن يصلح لورثته بعد مأتي سنة. ولا يمكن أن يعفيهم من ترتيب أمورهم من جديد اكتفاء بجهد الأجداد والأسلاف العظام. فهؤلاء الأسلاف كانوا عظاما لأنهم لم يركنوا إلى ما وجدوه من قبلهم، ولكنهم تقدموا وصنعوا الجديد في عصرهم، وكل ماض تندثر منه أشياء وتبقى منه أشياء.
إذا كان التاريخ لم يعطي فن العيطة حقها بسبب غياب العناية والاهتمام وتجاهل المؤرخين والإخباريين لنصوصها وتوزيعاتها الموسيقية..ولم يتتبع مراحل تطورها ولم يحدد مراحل اكتمالها ونضوجها..فان تقاليد التداول في الأعراس والتجمعات الموسمية وحضور العيطة في أماكن متنوعة خاصة وعامة، وفي أزمنة مختلفة، وحضورها في المهرجانات، ومواسيم الفلاحة، وفي المقاهي، والمطاعم، وبالملاهي والحانات، وفي الأسواق الشعبية، وفي القطارات، وحتى على مثن حافلات النقل العمومي.. كل هذا قد حافظ لنا عن بعض تلك النماذج القليلة التي ما تزال ماثلة تشنف أسماعنا وتذكرنا بحقبة ميلاد فن العيطة، أيام كانت تعيش على البساطة والتلقائية وتتهيأ تدريجيا لتحتل مكانها في الميدان الفني، حيث كتب لها يوما أن تعيش عزها ومجدها..
كلنا نتحمل المسؤولية، ولابد من تضافر جهود مختلف الجهات المعنية، بما فيها الوزارة الوصية على القطاع الموسيقي الغنائي، إلى جانب النقابات الفنية، والوسائط الاعلامية ومنظمات المجتمع المدني..فكل واحد منا يجب عليه من موقعه أن يساهم في توثيق هذا الفن، ويهتم به بصفة فن العيطة موروث ثقافي لامادي، فهو مصدر غني للمؤلف الموسيقي ينهل من ينابيعه التي لا تنضب، ومرجع أمين لدارس الآداب الإنسانية، ومؤرخ العادات والطقوس الشعبية والقيم الاجتماعية، وهو من أرقى الفنون الشعبية، ومفخرة من مفاخرنا التي تدعونا إلى الاعتزاز، كما يجب على الكل أن يحافظ على الوثيقة، فحتى في ظل الاحتلال يمنع أن تداس الوثائق بالأحذية أو تسرق أو تسلب أو تحرق لأنها ارث حضاري للبشرية جميعا. إن فن العيطة إرث مشترك بيننا وجزء لا يتجزء من هويتنا الثقافية، ونحن المسئولين عن رعايته وحمايته من الضياع والتمييع والابتذال..وأتمنى أن تكون هذه السطور شعاعا أخضر على عالم رحيب فسيح،كثير الجمال والظلال تتكئ على تخومه شموس الإبداع الخلاق.