شيخ العيطة الحسين السطاتي
العيطة الفيلالية: أو ما تسمى بالعيطة الجرفية البلدية، هي تلك الأغنية الشجية ذات النداء، التي نشأت موسيقاها على ألحان أصوات عواصف الرمل، وحفيف سعف النخل وطنين النحل، ورغاء الإبل..
يزخر المغرب بعدة أنماط موسيقية مختلفة، تتنوع بتنوع تضاريسه الجغرافية، وتتفرع حسب المناطق، وبلدنا غني بتراث موسيقي متنوع، ومن بين هذا التراث نجد فن “العيطة”، وهو من أعرق فنوننا الغنائية الشعبية، فن موسيقي تقليدي، غناء البدو.. فن رعوي أصيل متجذر في التراث الشعبي، نداء كتعبير عن ألم مشترك، وعن الحب بلذاته وعذاباته.. ورغم ما أضيف إليه من تحسينات وتهجينه بآلات موسيقية عصرية، قد عانى ولا زال يعاني من الإهمال سواء على مستوى الدراسة أو على مستوى التأليف والنشر، ويعاني من قلة المصادر التي يمكن أن يعتمدها الباحثون والمهتمون بعلوم الموسيقى، وعموم المواطنين الشغوفين بهذا الموروث الثقافي، إذ يشكل جزءا من الثقافة والهوية المغربية.. غناء تراثي مركب، واكب مجموعة من التطورات الاجتماعية التي انطلقت من مخالطة اللسان العربي بصفة فعلية لسكان كثير من المناطق المغربية الأطلسية، التي تقع خلف الهضاب الأطلسية، عند أقدام جبال الأطلس المتوسط، وكذلك أقدام الأطلس الكبير في فسحة الحوز إلى منطقة تافيلالت سجلماسة، وكذا فيما يلي المناطق المجاورة بما في ذلك؛ الشاوية، ودكالة وعبدة إلى حدود مناطق حاحة.
ونُذكر أن “العيطة” فنيا هي فن شعبي مغربي يأتي فيه الإيقاع الموسيقي مصاحبا للكلام، أشعار تغنى باللهجة العامية العربية المغربية، وهي أغنية مهيكلة على شكل أجزاء، تنطلق من بداية وتحتمل جزأين إلى تسعة أجزاء أو أكثر وتنتهي بخاتمة، كما أنها مجموعة من المقاطع الغنائية والفواصل الموسيقية الإيقاعية في منظومة تختلف عناصرها باختلاف أنواع العيطة نفسها. ويأتي التركيب كخاصية موسيقية وهوية إيقاعية وزجلية داخل فن العيطة.. والكلام عن هذا الإرث الثقافي اللامادي متشعب وكثير، فهي تتوزع إلى تسعة أنواع، تتنوع حسب تنوع المناطق الجغرافية التي تحتضنها، ونتطرق في هذه المقالة إلى نوع من هذا الفن وهو : “العيطة الفيلالية”:
العيطة الفيلالية: هي عيطة مركبة، من ثلاثة إلى خمسة أجزاء وأكثر، نسبة إلى منطقة تافيلالت سجلماسة بالجنوب الشرقي للمغرب، وقد عرفت أيضا بالعيطة الجرفية أو “البلدية”، إسمها من البيئة التي نشأت فيها، بمنطقة “الجرف” بنواحي “قصر السوق” ب”الراشيدية”، والجرف معناه في اللغة العربية شق الوادي إذا حفر الماء في أسفله، والجمع أجراف، وجِرفة. ونقول جرفه جرفا وجَرفة بمعنى ذهب به كله أو أخذه أخذا كثيرا، ونقول جرفت السيول تراب الأرض بمعنى كسحته وقشرته..والمستمع المولع بهذا الفن السجلماسي يجرف مع روعة ألحانه وإيقاعاته وبلاغة كلامه..وقد نشأ هذا الفن على ضاف الوادي وخيراته، بين القصور الطينية والقصبات والواحات والكثبان الرملية.. وتقدم هذه العيطة صورة فنية بديعة عن البيئة الصحراوية الزراعية والرعوية التي احتضنتها ورعت محاولاتها الأولى، وتقتصر على الإشارة العابرة لبعض مكونات هذه البيئة كتمجيدها للخيل والفرسان والنخل والإبل، وإطرائها على صفات الشجاعة والإقدام التي تكون مطلوبة في رجال القبائل وسادتها بالمنطقة.
فالعيطة الفيلالية أو ما تسمى بالعيطة الجرفية البلدية، هي تلك الأغنية العيطية الشجية التي نشأت على ألحان عواصف الرمل، وحفيف سعف النخل وطنين النحل، وإيقاع سير ورغاء الإبل، وخرير مياه الوادي والسواقي..وهي مجموعة أهازيج لبراويل بأشعار تغنى باللهجة العربية العامية المغربية، تصدح بها حناجر في بيئة صحراوية خلابة، بين واحات النخيل ومغروسات أشجار الفواكه من أصناف متنوعة.. وللأسف فرغم روعة وجمالية هذا الفن العيطي ظل مهمشا بعيدا عن المركز، ولم يُحض بالإشعاع الإعلامي الذي يليق به كسائر الأنواع العيطية الأخرى، فنادرا ما نجد فنانو العيطة الفيلالية البلدية بسهرة على أثير الإذاعة أو بسهرة على قناتي القطب العمومي التلفزيونية، أو على صفحات الجرائد والمجلات..ولم يستفد حتى من المهرجانات التي خصصت لفن العيطة..لكن وبفضل أصالتها الفنية وإلتزامها الأدبي قاومت -هذه العيطة الفلالية -كل الرياح والعواصف والتقلبات واستطاعت أن تحافظ على مكانتها في الوسط الفني الغنائي المغربي، ومن بين العيوط الفيلالية الجرفية الشهيرة التي مازالت متداولة نجد هناك:
عيطة البيضا وتسمى أيضا ب”الحريمية”، عيطة العين، عيطة الساخي بيا، عيطة داني، عيطة الخاوي لبلاد، عيطة الملاكة، عيطة رجال لبلاد.. وعيطة الساكن نذكر على سبيل المثال لا الحصر: ” مولاي احمد، مولاي علي الشريف، مولاي التهامي، سيدي أحمد بناصر، سيدي مجبر…”، وهناك أغاني شعبية خالدة بإيقاعات وموازين بلدية، مزال صداها يتردد إلى يومنا هذا كالتي أبدع فيها الراحل الفنان الشيخ محمد باعوت، والشيخ مولاي التهامي الفيلالي، والشيخ الحاج العمراني.. وجعلوها ترقى إلى مستوى العيطة، وتلقى شهرة وتجاوبا داخل وخارج المغرب ومنها : “البراد، ومولات الخلالة. ودركَوك علي لجبال، والوشام، والعساسة ما ريتو غزالي…
ومن الأسباب الأساسية التي كانت تؤدي إلى الاختلاط والتمازج الذي شهدته متون وإيقاعات العيطة بالمغرب، أنه كان من المعتاد أن يتنقل محترفو هذا الفن من أشياخ وشيخات أفرادا أو جماعات..بين المدن والقرى المجاورة أو المتباعدة..طلبا للعمل أو السياحة والاسترواح أو بمناسبة زيارة مواسم الأولياء..وخلال هذا الانتقال كان يتم الأخذ والعطاء والتبادل المعرفي بين الرباعات المختلفة. (المرجع: الدكتور حسن بحراوي، فن العيطة بالمغرب).
ومن الأمثلة نستحضر الفنانان الكبيران الراحلان الشيخ سي محمد باعوت، والشيخ مولاي عبد الله الفيلالي اللذان انتقلا من جهة تافيلالت إلى سهل الشاوية ودكالة، واستقرا بمدينة الدار البيضاء حيث كانا يقومان بإحياء الحفلات والأعراس وأفادوا من الفن البلدي واستفادوا من الفن المرساوي.
ونذكر الدور الكبير الذي لعبه شيخ العيطة الفيلالية الجرفية البلدية “مولاي التهامي الفيلالي”، المؤلف والملحن والمغني، الذي أغنى الساحة الفنية المغربية بالعديد من الأغاني الشعبية دائعة الصيت التي ألفها ولحنها للعديد من الفنانين، فهو صانع مجد الفنانة الراحلة الشيخة “فاطنة بنت الحسين” رائدة فن العيطة، وهو الذي كان يمدها بكلمات وألحان بعض الأغاني التي صنعت مجدها، حيث كتب لها إحدى عشر أغنية منها الأغنية المشهورة: “داويني يا الميمة داويني”، وكان يعزف على أطراف الصينية لأداء إيقاعاته وألحانه. المرجع: “الباحث الدكتور حسن بحراوي نفس الكتاب”.
وقد تلاقحت العيطة الفيلالية مع شقيقتها العيطة المرساوية في أخذ وعطاء بينهما، كما نجد ذلك في بعض الأبيات والألحان، وعلى سبيل المثال نذكر ذلك التمازج بين عيطة “دامي” المرساوية وعيطة “داني” الفيلالية، ونفس الشيء بالنسبة لعيطة “العين” الفيلالية وعيطة “ألباس”، كما نجد كذلك التمازج والتلاقح في الإيقاعات و بعض المتون بين عيطة “ركوب الخيل” وعيطة “عريس الخيل” من المرساوي مع عيطة “رجال لبلاد” الفيلالية..
وإذا أخذنا مثلا المقطع التالي:
اجدب اجدب يا البركَي يا عريس الخيل…اجدب اجدب شحال هذا ماجدبتيشاي
اركَب اركَب يا خليلي الليل طويل…اركَب اركَب شحال هذا ماركَبتيشاي
عينيك عينيك جابو الهوى من شيشاوة….عينيك ملاح في قليبي زادو لجراح
عينيك نسور صيدو الزرزور من فوق لكَصور…عينيك جباد طيحو الصياد في جنب الواد
العين كحلة بلا كحل تهبل وتقتل…..العين كحلة بلا مرود تداوي وتمرض
عينيك مكحلة طيحو الحجلة من فوق النخلة….عينيك نبلة في قليبي دارو خبلة
هذه أبيات نجدها في مقطع من عيطة “العين”، تلك الرائعة الفيلالية البلدية، ونجدها كذلك في العيطة “البيضا” من الفن البلدي، كما نجدها بالفن المرساوي، بكل من عيطة “ركوب الخيل” وعيطة “ألباس” وعيطة “عريس الخيل”..ومن مميزات قصيدة فن العيطة هناك عدم وحدة النص، وعدم احترام الوزن والقافية… وتقدم لنا العيطة الفيلالية صورة فنية بديعة عن البيئة الصحراوية، والتربة الطينية التي احتضنتها ورعتها..وهي تمجد الخيول، و الإبل والفرسان، وتطري على صفات الشجاعة والإقدام في حق رجال القبائل ونسائها خلال الفترة الحامية من تاريخ البلاد…والمستمع المتأمل في قصائد العيطة الفيلالية البلدية، سيجدها ذات جمالية عالية، من حيث المتن الشعري وصوره الرائعة، وكذا البرقيات المشفرة التي تحمل في نصوصها..وتمتاز بالتنوع النغمي والإيقاعي، كما تتميز على مستوى اللحن البسيط والإيقاع البطيء المتأني، وهي عيطة متعددة الأنغام والأجزاء. حيث تصل إلى خمسة أجزاء كما هو الشأن بالنسبة لعيطة “البيضا” أو ما تسمى بعيطة “الحريمية”، وكذا عيطة “العين”، إذ تبتدئ العيطة بموال مصاحب بتقاسيم وباستهلال بطيء ثم متأني إلى إيقاع أسرع، لكن ليس بتلك الخفة والسرعة التي نجدها في نهاية باقي أنواع العيوط.
وفيما يتعلق بموضوع المرأة والتغزل بها والعشق والهيام، فقد أبدعت العيطة الفيلالية البلدية روائع من عيوط و”براويل” مشهورة في هذا الشأن، فهي عيطة وجدانية تحتفي بالعاطفة الإنسانية وتصور تقلباتها بين الحب والهجر والعتاب والتوسلات ونذكر من بينها كما جاء في عيطة “البيضا” أو ما تسمى بعيطة “الحريمية”:
البيضا منين منين منين وفين…..منين جاك المشماش عضمو حلو
جابو ليا سيدي وليد عمي…..بغاني نزهى معاه
البيضة منين منين منين وفين….من جاك الشربيل خلاني هبيل
جابو ليا حبيبي وليد عمي…..جابو لي في الصداق
الله الله الله يا العالي….آهيا وهيا
أش كان سبابي……آهيا وهيا
حتى فرقت حبابي….اهيا وهيا
إلى أن نصل في هذه العيطة إلى الجزء الأخير وهو جزء العتاب واللوم:
اجدب اجدب يا البركَي يا عريس الخيل….اجدب اجدب شحال هذا مجدبتيشاي
اركَب اركَب يا خليلي والليل طويل….اركَب اركَب شحال هذا مركَبتيشاي
عينيك نسور طيحو الزرزور من فوق لكَصور….عينيك ملاح في قليبي زادو لجراج
شلا هذا ما زهينا بغينا نزهاو….شلا هذا ما كَلسنا مع ناس الحال
ديري صالة فوق صالة يا العمالة….ديري صالة فوق صالة للزلالة
ديري صالة فوق صالة لشريب الكاس…أنا عدو راسو اللي شرب كاسو ونسا ناسو
وقد نجد أغلب قصائد العيطة الفيلالية الجرفية البلدية تتغنى بالخيل والإبل والنخل والرمل، حيث تعطي قيمة كبيرة للواحة. مازجة بين جمال الطبيعة والخيل والإبل والأنثى، تلك المرأة الإنسانة ملهمة الرجال، معتمدا على التلميح بدل التصريح، حيت تحضر تضاريس الجسد الأنثوي وثناياه، وفواكه بستان الأنثى الآدمية للسمو بالإبداع الشعبي بلغة مغربية بدوية ضاربة في العمق، في قالب إبداعي مشفر جميل، بعيدا عن الإسفاف والابتذال.
وكمثال على ذلك ما جاء في عيطة “العين”:
عينيا آه يا عينيا…..عيني عينيك عجبو عينيا
عينيا آه يا عينيا…عينيا ايلا وتيت سامح ليا
سامح ليا بضاض ما عمل لي شرعية
سيدي بضاض صعيب والربطة زغبية
عين مسكي الحيـــــــة…..وسط الجبال مبنية
نخلة عالية محنية……الميهة صافية ونقية
الخدود الوردية….العيون الحجلية
لحناني صحراوية….الكاس والصينية
بلاد النخلة….بلاد الرملة..بلاد النعمة
بلاد التمرة….بلاد النخلة…بلاد الخضرا
قليبي مكَواه….الزين كواه….والعين دواه
قليبي مكَواه….خرج من جواه….من غير هواه..ع الرجا في الله
العين كحلة بلا كحل تهبل وتقتل…..العين كحلة بلا مرود تداوي وتمرض
الحاجب نخلة مخلخلة دايرة خبلة ….الخد وردة بلا ندى مفتحة في الجردة
الشعر كحل غري غراب زايد العذاب….الشفايف حمرة بلعمان صباغة الرحمان
هذه الأبيات من عيطة “العين”، كما نجد بعضا منها في العيوط المرساوية؛ عيطة “عريس الخيل” وعيطة “ركوب الخيل” ، وعيطة “ألباس” وعيطة “عشاق الخيل”،..وقد نجدها في أنواع أخرى من الغناء العيطي.
كما هو الشأن لعيطة “رجال لبلاد” في هذه الأبيات:
جيبو لي البركَي….وعطيوني لجامو
فين ما راح الليل…..نتفكر كلامو
كل تمر وكيالو….كل نخل وجريدو
قتلوني ثلاثة….العيون والخيل والسراتة
ركَبت على الدرا….بانت ليا خضرا
مزين الكَعدة فوق الجريد…..يبانو لمعاضيد
مزين الكَلسة في لجراف…..والشربة بالغراف
وكما يظهر في هذه المقاطع من العيوط الفيلالية الجرفية البلدية، نجد هناك ارتباط وطيد بين التغزل بالمرأة ومجالس شرب الخمر وجمال الطبيعة الصحراوية، تلك اللحظة التي يكون فيها العاشق المحب نهبا لمشاعر المعاناة، ويجدها مناسبة سانحة لتذكر الحبيب الغائب، والحنين إلى الأيام الخوالي ومباهجها التي راحت معه. حيث نجد نفس الشيء بالنسبة للعيطة المرساوية.
كما أن الرقص في العيطة الفيلالية البلدية له دلالات رمزية، يقوم بها الرجل والمرأة كل في دائرة اختصاصه، حيث كان المجتمع الصحراوي مجتمعا محافظا، يمنع اختلاط الرجال بالنساء، بحيث نجد الراقصون والراقصات يتحركون في تأني ودلال مرفوعي الرؤوس مقلدين بذلك سير الإبل، ويقومون بحركات تمثيلية خلال الرقص مستوحات من الأعمال الزراعية السائدة بالمنطقة، كطريقة شد المحراث التقليدي أتناء الحرث، أو طريقة نثر وزرع البذور، وكيفية فتح السواقي الطينية للماء بالمعول، ثم إلى طريقة حصاد الزرع بالمنجل وتشكيل الغمرة، وطريقة نفض الثمار من الأشجار، وكنس الأرض بسعف النخيل، وطريقة غزل الصوف بالمغزل على الفخذ، وحتى الصياح الذي يصدره المزارعون لفزع الطيور التي تحط وسط المحاصيل، وكذا التصفيق المسترسل” الرش”، المصحوب أحيانا بالزغاريد، وبالنداء والصياح المتتابع كما هو الحال في طريقة فزع طرائد الصيد من مخابئها “التحياح”، .. وغالبا ما يتبع “سدة” العيطة الفيلالية الجرفية البلدية وصلة موسيقية ذات إيقاع سريع “خيلاز” موسيقى صامتة “ماية” تتخللها فقرات رقص، لتنهال من أجل ذلك على الفرقة المنشطة إكراميات الجمهور. وعرفت الرقصة البلدية برقصة “الصينية والكيسان” في إشارة إلى الترحيب وحسن الضيافة والكرم، وجودة نكهة الشاي الصحراوي، وقد أبدع فيها فنانون من الجنسين، كما نذكر أن الفنان سي “محمد باعوت” كان يستعمل الحزام ناحية ذراعية “الشمار” في إشارة إلى العمل الجدي بعيدا عن اللهو.
كانت العيطة الفيلالية، في بدايتها تعتمد على آلات موسيقية بسيطة إلى بدائية، (وتار وطعريجة أو ناي وبندير، “ليرة”وصينية وكأسان…)، إلى أن صارت تمارس كباقي العيوط الأخرى بآلات حديثة غربية وعصرية مختلفة أشكالها وأنواعها، ومن الآلات المستعملة في هذا الفن؛ هناك آلات وترية، ونفخية، وإيقاعية ونقرية. ومن الآلات الوترية نجد: “الوتار، العود، الكمنجة، الربابة، البوزق، السنتير، المندولين، البانجو، القيتارة..وفي الآلات النفخية هناك: الغيطة، المزمار، الناي، القصبة الأحادية والثنائية(المكَرونات) الليرة، إلى الساكسفون..وفي الآلات الإيقاعية نجد: البندير، الطبل، الصنج، الدف، الطر، الصينية والكؤوس، والمهراس، والطعريجة بما فيها الكبيرة والصغيرة “أكوال”، الدربكة، والنويقسات، والمقص، والطمطام إلى “لباتري” العصري..كما نجد أيضا الآلات النقرية كالقانون، والأورغ …
وقد اشتهرت العيطة الفيلالية الجرفية البلدية بمناطق تتميز بطبيعتها الصحراوية الخلابة الغناء، وبتضاريسها المتنوعة؛ (جبال، هضاب، تلال، كثبان رملية، واحات، وديان، عيون مائية، سواقي…مع وفرة المياه الجوفية والسطحية، على امتداد نهر وادي زيز بسهل تافيلالت سجلماسة، إلى حدود سهل درعة، وتشمل كل من: (الراشيدية، أرفود، الجرف، الحدب، السهب، الزريقات، مدغرة، بودنيب، تيسمومين، بوحيارة، الريصاني، وزازن، الطاوس، ألنيف، توغرة، مرزوكَة.. إلى تزارين، النقوب، تنزولين، أكدز، ورززات، زاكَورة.. إلى واحات امحاميد الغزلان..ثم نعود إلى أرفود ، أوفوس، تنجداد، تاركَة، تنغير، الريش، إلى كَلميمة، بومية وميدلت….).
وبصفتي شيخ ممارس لفن العيطة، أقف وقفة احترام للأشياخ والشيخات الذين بفضلهم قام فن العيطة عموما، على امتداد مسيرة طويلة في مختلف مناطق المغرب ببواديه وحواضره، حيت صدحت حناجرهم بأصوات طربية في مناسبات وملتقيات مختلفة، أصوات أشياخ، زجالين، نُظام، ومغنين حفاظ “كَراحين”، حملوا مشعل هذا الفن، وأصوات شيخات “عياطات”، حافظات “طباعات”، استمد بفضلهن فن العيطة وجوده الفني وكينونته.. أسماء تركت بصماتها على مدى سنوات، بعضها انتقل إلى دار البقاء الله يرحمهم، والبعض يعاني التهميش ويعيش التنكر، والقليل منهم من كان محظوظا وحضي بعيش كريم.
وللعيطة الفيلالية الجرفية البلدية أشياخ وأعلام قدامى وجدد، حيث عرف هذا النوع العديد من الفنانين نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر:
– الرواد القدامى الأشياخ : الحاج بوجمعة، الحاج العمراني، محمد الباعوت، مولاي علي بلمصباح، علي الفيلالي، العيسي محمد “باحمو”، الديك، سيدي عبد الكريم الغرفي، مولاي التهامي الفيلالي، مولاي عبد الله الفيلالي، مولود الكاوي، اميح، عمي علي…
– والأشياخ الجدد نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: الشريف مولاي الحمري، ميلود المسكاوي، دحان، الجلولي، اسماعيل العلوي، المصطفى العمراني، المصطفى لعنان، عبد الواحد مجبر، عبد الله هامي، سعيد أوصغير، جبوري، اسعيد بحو، سويلم الجرفي، عبد المجيد لهلال، يوسف بوري، الحنفي، كمال الإدريسي، رضا، عروب، نوح الشاروخاني، سعيد المجاهد، يونس البولماني..
وعلينا أن نستحضر دائما الدور الكبير والفعال الذي لعبته المرأة، إلى جانب الرجل في هذا الميدان فمن الشيخات اللواتي أبدعن في فن العيطة الفيلالية البلدية، نذكر منهن: عايشة الزكود، سميرة كَلميمة، ماما طارة، تودة الجرفية، كريمة كَلميمة، فاطمة الريش….
أما اللباس الذي يلبسه ممارسو هذا الفن السجلماسي، فنجد غالبا الزي التقليدي المغربي: للذكور( الجلباب والفوقية “الدراعية”، والجبادور، والعمامة على الرأس والبلغة، أما النساء الشيخات فنجد: (التكشيطة، القفطان، الدفينة والسبنية والملحفة والشال)، لكن مؤخرا صرنا نجد المجموعات الغنائية تخرج عن العادة وترتدي لباسا عصريا أو إداريا بربطة العنق ولباسا شبابيا بسروال الجينز والقمصان القصيرة والأحذية الرياضية..
وفيما يتعلق بعدد أفراد المجموعة المغنية لفن العيطة الفيلالية، نجد أنه يبدأ من فرد واحد إلى أوركسترا تضم عشرات المغنيين والعازفين.
وسيظل فن العيطة الفيلالية البلدية، مدينا بالكثير للشيخ “محمد باعوت”، الله يرحمه، على فضله الكبير، ذلك الفنان الهرَم، الذي وصلنا عبره نماذج العيطة الفيلالية وفنون الغناء البلدي، بكل الاحترافية والالتزام بالأصول عبر نبرات صوته الشجية، وذلك بتجديده في هذا الفن، من خلال دوره الكبير في النقلة النوعية التي أعطاها لهذه العيطة، حيث أضاف إليها الموال، والنظم المرافق للتقاسيم، وجعلها تنافس باقي العيوط، وقد اشتهر بحفظه للتراث البلدي ولقحه بالمرساوي، ونقله للناشئة والمولعين، وقد جعل فن البلدي يصل إلى المركز بما في ذلك سهل الشاوية ليستهوي جميع الأذواق، بعدما كان محدود الانتشار بالجنوب الشرقي جهة تافيلالت سجلماسة..
كما يجب أن ننوه بالمجهودات الكبيرة التي قام بها أشياخ هذا الفن حاملي المشعل الذين أزاحوا طابع الجمود عن هذا الإرث، ونذكر منهم: الثنائي المتميز ” المصطفى لعنان الصوت الدافئ الرخيم مع صاحب الحنجرة القوية مجبر عبد الواحد”، ثنائي منسجم ومتناغم، لهما ازدواجية في الخامة الصوتية “قرار وجواب”، إذ نقلا لنا هذا الفن بصورة اجتمعت فيها الأصالة بالحداثة مع الحفاظ على المنبع..ونجد كل من الشيخ الحمري مولاي الشريف، والشيخ أميح، والشيخ يوسف بوري، والشيخ الحمري عبد الغني، والشيخ مولود المسكاوي وغيرهم..ونشيد بالدور الذي يقوم به بعض الفنانين الشباب الذين أضفوا على الفن البلدي روح التمدن والعصرنة، ونذكر من بينهم الفنان هامي عبد الله بجوقه السمفوني، والشيخ الأستاذ “سعيد المجاهد”، الملقب ب” المايسترو” ، شيخ حافظ لمتون الفن البلدي، وأستاذ دارس ومدرس للموسيقى، عازف ماهر على مجموعة من الآلات الوترية، والذي أعطى إشعاعا كبيرا لفن العيطة الفيلالية البلدية، إذ يعتبر أحد الفاعلين اللامعين في أدائها والمحافظة عليها بطريقة عصرية مع الحفاظ على الجوهر، واشتهر بصوته وأدائه لسراريب وعيوط الفن البلدي في الحفلات والأعراس كما في السهرات الكبرى على خشبات المسارح، إذ مثله خير تمثيل، ونقله من الهامش إلى المركز بكل من الرباط وسلا والقنيطرة والدار البيضاء بفرقته الموسيقية الكبيرة.. ونعرج على الشيخ “سعيد أوصغير” الذي مثل هذا الفن في محافل كبرى وسهرات ومهرجانات عبر ربوع المملكة..كما تجدر الإشارة إلى بعض الشباب العصريين المجددين في هذا الفن السجلماني، ونستحضر منهم الفنان الشاب “يونس البولماني”، الذي أدخل ألحان وإيقاعات هذه العيطة في توزيعه الموسيقي على إبداعاته الغنائية، حيث لقيت بعض أغانيه ضجة وشهرة داخل وخارج الوطن، كما هو الشأن لأغنيته “حتى لقيت اللي تبغيني”..كما قامت بعض المجموعات الغنائية بمحاولة إبداع وتجديد في العيطة الفيلالية البلدية، وجعلتها تتردد في أوساط الشباب، وكانت هذه المحاولات الجميلة ضمت ألحانا ومقاطع من الفن العيطي الفيلالي البلدي، إضافة إلى توزيع موسيقي حديث، ولقيت تجاوبا واستحسانا من طرف الجمهور، لكنها سرعان ما انطفأت وخمد وهجها بعد وقت وجيز، ولم تعمر كما خلدت العيوط الفيلالدية الجرفية البلدية الأصيلة..
والشكر لهؤلاء الفنانين المناضلين الذين لم ينالوا حقهم في الوسط الفني المغربي ولم تطالهم يد الدعم والمساعدة، يساهمون ويضحون بوقتهم ومن أموالهم الخاصة للحفاظ على هذا المورث الثقافي، شكرا للذين ساهموا في نفض الغبار على هذا الكنز الثمين وظلوا متشبتين بأصالتهم وبهذا الفن الذي يسافر بالمتلقي إلى كل ماهو جميل…
إن أصالة فن العيطة تكمن في امتداده التاريخي، وهي ذاكرة ثقافية مغربية، ومن أجل الحفاظ على هذا الفن وصونه من الضياع، علينا أن نكثف الجهود، وأن نحمل المشعل إلى الأجيال القادمة، ولضمان استمرارية هذا النمط من الغناء الأصيل، نحن في أمس الحاجة إلى تبصير الشباب بجذور هذا الفن وألوانه وموضوعاته، كل منا من موقعه “ممارسين، باحثين، إعلاميين، جمعيات، مؤسسات وصية…”، كما يتوجب علينا توثيق ذلك المتن القليل الذي وصلنا منه، بصفة فن العيطة إرثا مشتركا، وهو إنتاجا فنيا قام بالتعبير عن هموم وأفراح الإنسان الشعبي خلال فترة حاسمة من تاريخه، وسجل لنا مظاهر حية من معيشه وطقوسه وأحلامه.. فقد حان الوقت لسبر أغوار هذا التراث الأصيل على أسس علمية لإعادة الاعتبار إليه. ولما لا نبدع ونخلق عيطات جديدة قد تصل إلى مستوى أو تقارب ما تركه أجدادنا.
وعلينا دائما أن نجدد الشكر والتحية للسيدات والسادة الدكاترة والأساتذة الباحثين والإعلاميين.. الذين اشتغلوا على فن العيطة والتراث الشعبي وأناروا لنا الطريق في هذا المنحى، فأنا كاتب هذه المقالة فنان شعبي عاشق ومولع بهذا الفن، ممارس ومهتم، موسيقي “كومنجي” ومغني لفن العيطة، أجتهد وأبحث كي أرقى إلى مستوى شيخ للعيطة، وأنقل ما وصل إلى علمي للمتلقي وللناشئة، وأكرر قولي أنني لست باحثا، لأن كلمة باحث هي كلمة كبيرة في عمقها وتعريفها الأكاديمي، وقد شقا الباحثون سنين طويلة، وأنفقوا من أموالهم وأوقاتهم للوصول إلى مراجع ومستندات علمية منها التي كانت مطمورة، ومنهم باحثون أكاديميون محنكون يجب دائما التذكير بأعمالهم والتنويه بها كنوع من التكريم، والترحم على الأموات، لهذا أعيد خلال كل مقال أكتبه عن فن العيطة أن أذكر وأشكر وأنوه بفخر واعتزاز هؤلاء الذين نبشوا وهبشوا، ونفضوا الغبار عن هذا الكنز المشترك بين المغاربة، هذا الموروث الثقافي اللامادي، رحم الله الأموات منهم وزكى في عمر الباقين الأحياء، وأذكر منهم الراحل محمد بوحميد، الله يرحمه، وحسن نجمي، وادريس الادريسي، وحسن بحراوي، وصالح الشرقي، وعبد العزيز بن عبد الجليل، وعبد السلام عيدون، وعباس الجيراري، وأحمد الصبيحي السلاوي، وعلال الركوك، وعزيز خمريش، وسالم اكويندي، ومضمون محمد، والتهامي الحبشي، وسالم عبد الصادق، وعبد السلام غيور، والغازي عبد الله، ونسيم حداد، والسهامي رشيد، وعلي المدرعي والمصطفى حمزة.. ومنهم كذلك باحثون أجانب جذبتهم أنغام العيطة من قارات أخرى، كالباحثة الأمريكية “ديبورا كابشن”، التي أنجزت عملا هاما في موضوع العيطة ضمن بحث كلفت به من جامعتها ب”تيكساس”، والباحثة الموسيقية الايطالية “اليسندرا توتشي” الموفدة من جامعة أمريكية لدراسة هذا الفن موسيقيا وأكاديميا.
لا ينبغي لنا أن نركن إلى التقليد والتمجيد من أجل التخليد، بل علينا تطوير هذا الفن بالخلق والإبداع والتجديد إذا نحن أردنا أن نذهب به إلى بعيد.