” عيطة الساكن في غناء العيطة “لشيخ العيطة الحسين السطاتي

جسر التواصل15 نوفمبر 2024آخر تحديث :
” عيطة الساكن في غناء العيطة “لشيخ العيطة الحسين السطاتي

 شيخ العيطة الحسين السطاتي

يعد فن العيطة من بين أهم الفنون التراثية الموسيقية والغنائية بالمغرب، وهي فرع أساسي من فروع الموسيقى المغربية عموما والموسيقى الشعبية خصوصا. ويعتبر هذا الغناء فنا مميزا على مستوى بنائه القولي المتداخل الدلالات وموسيقاه التي تتسم بميلوديات خاصة لا نجدها في أنماط شعبية أخرى. وقد شهد هذا الفن تدريجيا أنواعا من رد الاعتبار، حيث بدأت فئات عريضة من الجمهور الذي كان يستهلكه في الظل باحتشام، تدرك بأن هذا التراث الغنائي الموسيقي التقليدي هو أحد مكونات التراث الفني والثقافي المغربي.
“وإن هذا الغناء الذي يطلقون عليه اسم العيطة، وأحيانا أسماء أخرى للتمييز، هذا النفس الساخن الصاعد من الدواخل، عبر الأصوات البشرية- الأنثوية والذكورية- والإيقاعات والألحان الآسرة، هو الذي أسعف على ميلاد شعر شفوي ظل يخرج من الجراح الفردية والجماعية مثل النزف الدافق، ويلتصق بذوات وبمصائر الفلاحين والمزارعين والرعاة، والقرويين عموما، المنحدرين من ذاكرة عميقة ومن سلالات عربية لها تاريخ بعيد، مهمل، مكبوت ومسكوت عنه”. المرجع: الباحث الدكتور حسن نجمي في كتابه بعنوان: “غناء العيطة، الشعر الشفوي والموسيقى التقليدية بالمغرب 1″، الصفحة 17.
و”العيطة” فنيا هي فن شعبي يأتي فيه الإيقاع الموسيقي مصاحبا للكلام، وهي أغنية مهيكلة على شكل أجزاء، تنطلق من بداية وتحتمل جزأين إلى تسعة أجزاء أو أكثر وتنتهي بخاتمة، كما أنها مجموعة من المقاطع الغنائية والفواصل الموسيقية الإيقاعية في منظومة تختلف عناصرها باختلاف أنواع العيطة نفسها. ويأتي التركيب كخاصية موسيقية وهوية إيقاعية وزجلية. وهي تتوزع إلى تسعة أنواع، تتنوع حسب تنوع المناطق الجغرافية التي تحتضنها، ونجد هناك: العيطة الجبلية، والعيطة الغرباوية، والعيطة الزعرية، والعيطة المرساوية، والعيطة الحصباوية وتسمى أيضا بالعيطة العبدية، والعيطة الشيظمية، والعيطة الحوزية، والعيطة الملالية، ثم العيطة البلدية وتسمى أيضا بالعيطة الفيلالية الجرفية. وضمن هذه الأنواع العيطية نجد عيطة الساكن التي توجد في كل نمط من هذه العيوط.
والساكن هو نوع من الغناء الشعبي يميل ميزانه إلى الإيقاع “الكَناوي”، نسبة إلى فرق كَناوة، يجمع بين الموسيقي والغناء والرقص، أشعار بمضامين ذات نفحة صوفية بلغة دارجة مغربية عامية، وقد عرفه الباحث الراحل الفقيد الفريد الأستاذ “سي محمد بوحميد” الله يرحمه، بأنه فن غنائي يندرج ضمن الفن الشعبي وهو بروال صوفي يتميز بنفحته الصوفية لارتباطه بفرق وطوائف صوفية تمارس طقوسا خاصة، كعيساوة وحمادشة ودرقاوة وكَناوة.. التي كانت تقوم بالاحتفال الصوفي، لتدخل في فصيلة الساكن، وهو نوع من “الجذبة” تختلف حسب كل منطقة، ويلتقي الساكن في إيقاع واحد متشابه يبدأ بطيئا وخفيفا، ويتدرج في السرعة إلى أن يصل سريعا ومرتفعا جدا، ممثلا في الحركة بالأكتاف أو بالأقدام أو الرأس، كما ترافقه بعض الاستعمالات التي لم تعد تلاءم العصر كضرب وجرح الرأس بالمطاريق أو الشواقير أو الرقص بالأقدام فوق الزجاج أو فوق الجمر المشتعل وهذه الأفعال ليست أعمالا ممسرحة بل طقوسا تريد أن تبين بعض الخوارق لدى البعض من الممارسين والتابعين فقط (جريدة الاتحاد الاشتراكي يوم 07 ماي 2002).

ويضيف الباحث الأستاذ “التهامي الحبشي” في بحثه ( قراءات في فن الساكن الشعبي)، بأن عيطة الساكن هي غناء بدوي شعبي يصب في خانة الأنماط العيطة ويتميز بذكر مناقب وبركات كرامات الأولياء والصالحين، وتذكير السامعين بقوة الخالق وضعف المخلوقين، وتذكيرهم بيوم الحساب واليقين، وبأفعال السحر والشعوذة والساحرين الذين لا يفلحون، والحث على أفعال الخير والصلاح والعبادة والدين.. وهذه العيطة هي نوع عيطي لا يتميز بخاصية التركيب، والكلام فيها مركزا أساسا في تمجيد مكارم الأولياء والصالحين ومقترن بالطوائف الدينية والزوايا كالزاوية القادرية، والتيجانية (هداوة أتباع سيدي هدي)، وحمادشة أتباع (سيدي علي بن حمدوش)، وعيساوة أتباع ( الشيخ الكامل الهادي بن عيسى)..وغالبا ما يتم غناؤها بعد أداء بعض الأنماط العيطية البسيطة أو المركبة حيث يبدأ بالفراش وبالإيقاع الخفيف إلى الغطاء الكثيف، في شكل إيقاعات سريعة وقوية، يصاحبها رقص خاص يمتد فيه الجسد، هذا الجسد الذي ينتصب إلى الأعلى فيدعى ب”السماوي”، أو إلى تحت عبر الدك بالأرجل على الأرض “الكَناوي والحمدوشي”، وهو ما يعبر عنه شيء كامن بالدواخل تفصح عنه بعض الطقوس والتمظهرات الجسدية الغارقة في الجذبة” أو “الرعدة” أو “التحييرة”، وضرب الصدر العاري بكلتا اليدين، وغرز الخنجر أو القضبان الحديدية أو الإبر بالوجه، وشرب الماء المغلى، والتلفع وملاعبة الأفاعي والثعابين، وتعرية الظهر وحمل النباتات الشوكية على الأكتاف، والصياح بأعلى الأصوات أو الهمدة التي تسبقها صرخة كبرى إعلانا عن نهاية وصلة الساكن.
وإذا أخذنا مثلا كلمة ساكن في اللغة العربية، نجدها كلمة عربية فصيحة ويمكن الحصول عليها بسهولة في معجم لسان العرب، فهي اسم فاعل من فعل سكن والجمع ساكنون وسكان، والمؤنث، ساكنة، والجمع للمؤنث، ساكنات وسواكِن، والساكن هو المقيم، وخلاف المتحرك، ونقول ساكن والده بمعنى أقام معه في السكن، وماء ساكن بمعنى، آسن وراكد. أما إذا أخذنا كلمة سَكَنَ، يسكن سكونا وسكينة فتعني الطمأنينة والراحة..وبذلك نجد أن هذه الكلمة “الساكن” بعيدة عما نريده وعما نبحث عنه في شأن فن العيطة، وليست لها أية علاقة بشأن الفن والفنانين العيطيين، سوى إذا أخذنا ما يشعر به الممارس لهذه الطقوس من راحة وسكينة خلال اندماجه في “الحضرة” أو بعد انتهائه من وصلة”جذبة” في “عيطة الساكن”، لهذا و كما ذكر الباحث الأستاذ “محمد جنبوبي” أنه لابد في البداية من تسجيل وقفة احترازية حول ما تحمله كلمة ساكن، من معاني ومفاهيم غير محددة وغير مضبوطة الشيء الذي يجعل من غير المجدي ملاحقة معانيها مع الاقتصار فقط على الشائع والكثير التداول والتردد ونعني به ما مؤداه لفظة الساكن تدل على أن الشخص الممارس لجدبة معينة في إطار غناء صوفي أو طرقي معين كعيساوة أو حمادشة أو كَناوة يكون قد وصل في إطار الحضرة مثلا إلى مرحلة ساخنة وأصبح مسكونا بكائن آخر أو سكنته قوى أخرى وهي المرحلة التي تسمى كذلك بلحظة الحال أو لحظة الامتلاك “الملوك” عند كَناوة.. وإذا كان الساكن يمثل لحظة معينة في الحضرة ضمن الممارسة الطقوسية لبعض الزوايا فهو تسرب إلى الغناء الشعبي عبر ممارسة فرق “جيلالة” الذين مارسوه بالليرة بدل الغيطة لينتقل إلى العيطة بواسطة العزف على آلة الكَنبري ثم إلى آلة الكمنجة ..

ثم نجد الباحث الأستاذ سالم اكويندي يرى أن العنصر الموسيقي هو المادة الميلودرامية الخاصة بالساكن كما ذكر في هذه الفقرة: “عنصر التطريب (الطرب) في العيطة هو نتيجة للإيقاعات الموسيقية المصاحبة، حيث رأينا أن هذا العنصر الموسيقي هو مادته الميلودرامية الخاصة بالعيطة، ولعل هذا العنصر يرتبط بالساكن كنوع مميز وقائم الذات، مادام هو نفسه عيطة خاصة لها صلة بالذكر. وهذه الخاصية التي يتميز بها الساكن لها صلة بمصطلح العيطة الذي يعني البكاء والندبة، غير أن المفهوم كممارسة تجعل الوجدان الشعبي يرقى بها عند التطهير إلى الغناء والرقص، ولعل هذين المعطيين الأخيرين نتيجة لفعل التطهير ذاته، إذ أنه بمجرد ما يتحقق حتى تصبح الذات متحررة من ذكرياتها السيئة والمتولدة عن ماض مثقل بالفواجع والمآسي. وربما تكون هذه النتيجة المتوصل إليها مقصودة ويرغبون فيها إذ تصبح هذه الغاية هي مبرر وجود العيطة وتحولاتها، ويبقى الساكن حاضرا في جل أنماط العيطة والذي نجد له طوائف خاصة به مثل: جيلالة نسبة للوالي الصالح عبد القادر الجيلالي، وعيساوى نسبة للشيخ الكامل الهادي بنعيسى، وحمادشة نسبة لسيدي علي بن حمدوش، والكَناوي الصادر عن طائفة كَناوة والذين يلتقون في هذا مع الحمدوشي والجيلالي لنسبهم القريب من مقام الشرف خاصة الني محمد صلى الله عليه وسلم..” (جريدة الاتحاد الاشتراكي يوم 08 ماي 2002).
ويمثل الأولياء والصلاح الذين تذكرهم عيطة الساكن وتملحم سيرتهم وكراماتهم كشكولا طويلا، نذكر منهم المتداول كثيرا مثل أولئك الأولياء الذين داع صيتهم وطبق الآفاق عموم البلاد بالمغرب، مثل: “الشيخ سيدي بوعبيد الشرقي شيخ الزاوية الشرقاوية بأبي الجعد، ومولاي الطاهر القاسمي بدكالة، ومولاي بوشعيب الرداد المعروف بمولا زمور، ومولاي عبد الله أيت أمغار، وسيدي مسعود بن احساين، وسيدي سعيد بن معاشو بمنطقة أولاد عبو بسطات، بويا لغليمي دفين السطات، وسيدي امحمد البهلول المسمى “عزري العلوة” بابن أحمد “امزاب” ، ورجال العونات، ورجال ركَراكَة، والغليمين، ومولاي ابراهيم الملقب بطبر لجبال، وبويا رحال البودالي زمران ضواحي مراكش، وسيدي بلعباس دفين البهجة بمراكش، وبويا عمر ضواحي قلعة السراغة، ومولاي عبد السلام شيخ جبالة، ومولاي ادريس عمارة فاس، والهادي بن عيسى شيخ مكناس، ومولاي علي الشريف بضواحي الراشدية، وسيدي قاسم وسيدي سليمان، وسيدي بنعاشير، وسيدي بنكَاسم، والباشا حمو، والحبشي، وعايشة البحرية، وميمون الشيباني….وغيرهم..ونجد بعض قصائد عيطة الساكن تتغنى ببعض أولياء صالحين يتواجدون خارج أرض الوطن وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أمثال قصيدة “الصحابة فين غيب السيد علي”، ومولاي عبد القادر الجيلالي دفين بغداد. كما نجدها تمجد حاملي كتاب الله مثل عيطة “الطالب” و”الفقيه السوسي”…
وفي عيطة الساكن يكون مدار الإنشاد فيها هو تعداد الصالحين والتنويه بكراماتهم والحث على زيارتهم، كما هو الشأن في عيطة بوعبيد الشرقي
ياوليدي يا وليدي الشرقاوي يا بوعبيد…بغيت نزورك جيتي بعيد
شلا كَالو وشلا دواو…وشلا قواو في عجوبي
ياوليدي وليدي وليدي را القبة مقابلة لقواس…الشرقاوي على ولادو عساس
الشرقاوي ببراكتو….سعدات لمر اللي زارتو
ومالي مالي مالي سيد المعطي معطى…شريفي وصلاتو العيطة
سيادي شرقاوة كاملين….مكاحلهم ديما عامرين..

إن الاستحضار الكثيف لأسماء الأولياء والمتصوفة إنما يدل على تمكن الوازع الديني والجهادي من نفوس الرواد الأوائل لفن العيطة الأشياخ والشيخات الذين رسخوا وجوده، ولكن ورودها المتأخر على ألسنة الشيوخ والشيخات المعاصرين ربما كان أدخل في باب التقليد والتكرار منه في باب التشفع وطلب التقرب..ونظرا لسهولة حفظ المتن الشعري والتراكيب اللحنية والايقاعية البسيطة لعيطة الساكن وسهولة الارتجال الشعري فيها، صارت الأكثر تداولا بين مختلف الفرق العيطية والمجموعات الغنائية الشعبية، حيث عرفت فترة نهاية الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، فورة لهذا النوع الغنائي العيطي، حيث نجد عدد كبير من أفراد المجموعات الشبابية ” أوركسترا وربايع شيخات، عبر مناطق مختلفة من المغرب اعتمدوا على إيقاعات وألحان الساكن، واستحدثوا كلمات تمجد الأولياء وتتغنى بالأضرحة والمزارات، حيث عملت كل مجموعة غنائية بدوار أو مدشر أو قرية أو مدينة تتغنى بذلك “الضريح ” المبني بها.
كانت عيطة الساكن، في بدايتها تعزف بآلات موسيقية بسيطة إلى بدائية كمختلف الأنماط العيطية التابعة لها؛ (وتار وطعريجة ومقص ومهراس. أو هجهوج وقراقب وبندير والتصفيق “الرش”، أو “مزمار” قصبة مشدوة إلى قرن عجل، وصينية وكأسان وبندير”، أو قصبة غليظة وهي ناي كبير الحجم أجش الصوت ترافقه الطارة وهي بندير صخير…)، إذ كانت في البداية هذه العيطة تقتصر على آلات بسيطة مما يجعل الصوت المرتفع الصادح حاضرا بقوة، وترتكز على الكلام واللحن البكائي النائح وليس على الفرجة فحسب، إلى أن صارت تمارس كباقي العيوط الأخرى بآلات حديثة غربية وعصرية مختلفة أشكالها وأنواعها كما هو الحال عند فرق الأوركسترا الكبيرة.. ومن الآلات التي صارت تستعمل في هذا الفن؛ هناك آلات وترية، ونفخية، وإيقاعية ونقرية. ومن الآلات الوترية نجد: “الوتار، العود، الكمنجة، الربابة، البوزق، السنتير، المندولين، البانجو، القيتارة..وفي الآلات النفخية هناك: الغيطة، المزمار، الناي، القصبة الأحادية والثنائية(المكَرونات) الليرة، إلى الساكسفون..وفي الآلات الإيقاعية نجد: البندير، الطبل، الصنج، الدف، الطر، الصينية والكؤوس، والمهراس، والطعريجة بما فيها الكبيرة والصغيرة “أكوال”، الدربكة، والنويقسات، والمقص، والطمطام إلى “لباتري” العصري..كما نجد أيضا الآلات النقرية كالقانون، والأورغ …مثال على بعض الفرق الموسيقية التي استعملت كل هذه الآلات العصرية في عيطة الساكن نجد: “أوركسترا العسري، أوركسترا طهور، أوركسترا حسن الناجي، أوركسترا عبد الله الداودي..والجوق الأوركسترالي العازف خلف الشيخة الحاجة الحمداوية…). كما انتقلت عيطية الساكن من اقتصار الأداء فيها في الأول على الرجال إلى العنصر النسوي حيث برعت العديد من الشيخات في التعاطي لها بما في ذلك كل من: الشيخة خديجة البيضاوية والشيخة لكبيرة الخادم والشيخة زينة الداودية.. في نمط ساكن العيط المرساوي، والشيخة فاطنة بنت الحسين والشيخة ضونة والشيخة خديجة مركَوم…في نمط ساكن العيط الحصباوي والشيظمي، كما نجد الشيخة المخلوفية والشيخة فاطنة الرحمانية والشيخة التايكة الرحمانية في نمط ساكن العيط الحوزي، والشيخة مليكة الغرباوية في نمط ساكن العيط الغرباوي، والشيخة نعينيعة والشيخة حادة روبال، والشيخةالسعدية الزعرية والشيخة مينة الزعرية.. في نمط العيط الزعري، والشيخة حادة أوعكي الصوت الأمازيغي الصادح الذي غنى عيطة الساكن بامتياز، وغيرهن.. ونجد هناك تفاوت واختلاف بين القرية والمدينة، حيث أن جو أداء عيطة الساكن داخل خيمة بعرس بدوار في قرية يكون أكثر حماسا ونشاطا واستحضارا لطقوسه، منه في قاعة حفلات كبرى بعرس بالمدينة.
والحديث عن عيطة الساكن يجرنا إلى تناول موضوع عيطة شهيرة، ساكن ذائع الانتشار ويُطلب كثيرا من طرف الجمهور في جل المناسبات والأفراح والسهرات سواء منها العمومية أو الخاصة، وهو ساكن “العلوة”، وهي فرع من التوابع العيطية، تابع للعيطة المرساوية بمنطقة الشاوية وبالظبط بناحية “امزاب”، وقد عرفت هذه العيطة إشعاعا وانتشارا قويا تعدى منطقة الشاوية لتجد لها صدى قويا عند مختلف الفرق العيطية المحسوبة على أنماط عيطية أخرى بل حتى فرق أمازيغية، وقد صارت مادة غنائية يتم التعامل معها في أوقات معينة من إحياء الحفلات التي تقيمها فرق العيطة، وبصفتي فنان شعبي شيخ للعيطة ممارس عازف كمنجة ومغني لعيطة الساكن، فإن عيطة “العلوة” دائما مطلوبة في الأعراس والحفلات.. وغالبا ما تكون مبرمجة وسط المدة الزمنية للحفل وقد يعاد غناؤها في ختام الحفل الفني.. هذا الساكن الذي يرتبط في مادته الشعرية بالأولياء والصالحين، والمهداة إلى روح الوالي الصالح سيدي امحمد البهلول المعروف ب”عزري العلوة”، وهذه العيطة تتغنى بمناقب وكرامات أولياء منطقة ابن أحمد “مزاب”، وكذا ذكر بعض الأماكن بالمنطقة وتحديدها في القصيدة، ويعتبر الشيخ “سي أحمد ولد قدور” المغني الشعبي “شيخ العيطة” بالمنطقة الذي حافظ على الأداء الجيد لهذه العيطة بعزفه الفريد المنفرد على آلة لوتار من نوع “السويسدي”، وغالبا ما كان ينشط سهراته بمفرده، وقد أداها بإتقان ومهارة أخذا بالطريقة المنقولة عن الأشياخ الأسلاف، بحكم أنه من منطقة ابن أحمد مزاب، فبالإضافة إلى أصالته وتمسكه بأصول الغناء التقليدي، فهو يعرف المنطقة المزابية جيدا كما يعرف التوزيع الجغرافي للأولياء الصالحين الذين تأتي على ذكرهم قصيدة العلوة الأصلية التي يغلب عليها الطابع الصوفي، لتمجيدها للأولياء والصلحاء، ومناداة الأشياخ والشيخات الأولين الأسلاف عليهم واستنجادهم بهم، والتعديد بخصالهم ومكرماتهم وكراماتهم.. ولا يقحم الشيخ “سي أحمد ولد قدور”، في غنائه لهذه العيطة أي اسم لأي ولي صالح لايوجد داخل منطقة العلوة، الشيء الذي لا نجده عند غيره من الأشياخ والشيخات الذين غنوا “العلوة” وقد مزجوا فيها الأسماء والأمكنة والأزمنة بشكل سيء، بل من المؤسف أن بعضهم استحدث كلمات غزلية مبتذلة، أو كلمات تمجد بعض الأولياء إلى حد الشرك بالله، مثل هذه الأبيات:
ديري دراعك فوقي…وديري لاخر تحتي
البارح بايت ع وحدي…والليلة جابك ربي.
أنت سيد التاغي…الطلبة فيك تلاغي
ترزقني ما باغي …أنت طواع الطاغي
أنت سيدي مرشيش…ترزقني باش نعيش
الوالي شي مخافيك…كل شي بين ايديك

وكذلك الشأن إذا أخدنا عيطة ساكن رجال ركَراكَة”، التابعة للعيطة الشيظمية، فهو يتغنى بمجموعة من الأولياء والصالحين بمنطقة الشياظمة، ومن هؤلاء الأولياء نجد ذكر أسماء أجانب يدينون بديانات أخرى “سيدي دنيال، سيدي واسمين.. ” وقد برع فيها الشيخ الضاحي حسن العازف الماهر على آلة لوتار، وقد أداها بالطريقة الوصفية التي أدى بها الشيخ سي أحمد ولد قدور عيطة ساكن “العلوة”.
وبحكم أنني ممارس لعيطة الساكن، عازف كمنجة ” كوامنجي”، ومغني للسواكن، فخلال لحظة الممارسة المشحونة بجو “الجدبة” ، أجد نفسي أعيش ذلك الطقس الروحاني مندمجا مع صخب الجمهور المهيأ والمستعد من قبل لهذه الجذبة، وبما أنني أكون لحظتها قائد هذه الموسيقى التقليدية الصاخبة والعنيفة “الحضرة” ، يتحتم علي أن أكون يقظا وحذرا وحريصا كل الحرص على حسن القيادة الموسيقية، لتمر في أحسن الظروف سالمة وسليمة، وذلك بالحرص على ضبط اللحن البكائي الفجائعي بواسطة أنغام كمنجتي في موازنة عالية للأوتار ومقام موسيقي مرتفع “مساوية طالعة”، وضبط التنقلات اللحنية الموسيقية بين الأشعار المغناة والفواصل الموسيقية الصامتة “الخيلاز” ، عاملا على مواصلة الايقاع الخفيف القوي، وأنا أعرف أن هناك من لا تهمه كلمات الأشعار بقدر ما تهمه الموسيقى الساكنية”، تلك الموسيقي النائحة الناذبة، كما يجب التركيز على مواصلة وطيس الجذبة حاميا للاحتفاظ بجو “الحيرة” ، وذلك بإطالة الوجبة الموسيقية والغنائية الساكنية (حتي يبردو الساكن)، كما ينبغي علي أن أراقب عن كتب ما يجري داخل هذا الفضاء الروحاني الذي تختلط فيه الخرافة بالحقيقة، حيث يصاحب هذه الموسيقى الصاخبة رقص عنيف..وطقوس قد تبدو غريبة (العيط والصراخ بأعلى صوت وبكلمات مبهمة، حالات إغماء، شرب الماء الساخن إلى حامي مغلى، غرز الإبر والأشواك بالجسم، الهجوم على كل شخص يلبس لباسا أحمرا وعظه، أكل اللحم نيئا، حالة هياج وقضم الزجاج بالأسنان…)، ..أكون حينها في تلك اللحظة منتشيا بهذا الجو وبنجاحي في هذه المهمة، التي أكون مسبقا مهيأ ومترقبا لها بل منتظرا لها، ومستعدا لكل طارىء قد يحدث، ينتابني وقتذاك شعور غريب دليل على نجاحي بالمهمة المنوطة بي، وأعتقد أنه شعور طبيب يرى مفعول دوائه على مرضاه أمام عينيه..لأختم الوجبة العيطية الساكنية بخاتمة “سدة” من العيط الحوزي، لكي أهيء المتلقي للاستعداد للتوقف..هذا التوقف الذي عادة ما يليه سقوط أشخاص من الجنسين مغمى عليهم، ومنهم من يدخل في نوبة صرع..
ومن مظاهر المساس بالقيمة الفنية لغناء العيطة اليوم هو تنامي المجموعات الغنائية الشعبية التي تتمثل غناء العيطة، وتستحدث كلاما سوقيا، يركبونه على ألحان عيطة من العيوط حيث يندرج فنهم ضمن فضاء العيطة وليس ضمن نصوصها أو ضمن متنها، وهناك بعض الشباب يستلون بعض الجمل أو اللازمة من ساكن ويضيفون إليها كلام دون المستوى، طبعا من حقهم التجديد لكن مع مراعاة قوالب الفن العيطي دون المساس بهويته، ودون تحريف أو مساس بمضمون النص الشعري الأصلي. وعلى سبيل المثال ما نجده من تحوير في العيطة الحوزية بعيطة”ساكن سيدي رحال”، هذه العيطة التي تتغنى بالثقافة العالمة لمنطقة زمران، ووصف جمال طبيعة منطقة تساوت وجودة الماء الطبيعي بها الذي يشفي بعض الأمراض، وكأن هذه العيطة بمثابة وثيقة تعريفية للسياحة بالمنطقة، بما في ذلك السياحة الدينية والجيولوجية، وهي منطقة معروفة بدروس الدين وتعليم الفقه بالمدرسة القرآنية، وجمال الطبيعة، كما نجدها تمجد مناقب الوالي الصالح سيدي رحال البودالي رحمه الله ولي قبائل زمران، والشيخ العلامة سيد الزوين رحمه الله بأحواز مراكش، هذه العيطة التي يقول مطلعها الأصلي:
واو واو واو واو على شريفي بويا رحال….تعالى ياوليدي وتعالى ياسيدي…نزورو شيخ الصالحين
رحنا زايرين وراجعيــــــن…..طالبين ضيف الله في سيد الزوين
واو واو واو واو شربي ميهة لعيون…ياك اسيدي ع شربي يا لالة…. شحال من حاجة تقضات بيه
راه حنا زارين ورايحين…..شيخ الطلبة سيد الزوين…
نجد أن هذه العيطة “الساكن” الجميلة تنتهك وتلوث ويتم تشويه نصها من طرف بعض الأشياخ والشيخات ومنهم المشهورين، قد يكون ذلك دون تروي وعن غير قصد، حيث أنهم لا يستوعبون المغزى ولا يعون بما ينطقون، فيغيرون في المخزون الشعري، ليصبح هناك نوع من الخلط لدى المتلقي المستمع.. إذ يتم تركيب كلمات سوقية على ألحانها وإيقاعاتها الشجية ذات اللحن الروحاني لتصير أغنية مبتذلة كالتالي في هذا المثال:
واو واو واو واو شريفي بويا رحال..ياك يا بنيتي… ياك يا لالة …سربي لا تبطايش
رحنا اليوم زاهيين… والليلة نباتو ساهرين
واو واو واو واو الشربيل مو العيون… ياك يا بنيني… ياك يا الهايجة….داه الحاج يحج بيه
راحنا زايرين وناشطين والليلة نباتو مقصرين.
لالة لالة لالة سكرتي وجاك حلو…لواه يالالة..لواه يا بنيتي….ع شربي وديري للكاس قياس
لواه يا الزين لواه يا الزين..الليلة نباتو محيحين
وهذا مثال على تشويه و تمييع النص العيطي للساكن، وعلى الفنان العيطي الممارس شيخ أو شيخة أن يميز بين الأماكن، بين الجلسات الخاصة المغلقة أو “لقصاير”- والحذر كل الحذر من وسائل التسجيل التكنولوجية الحديثة “كاميرات رقمية جد صغيرة، هواتف ذكية..”- وبين السهرات العمومية المختلطة بين الجنسين، والغريب في الأمر نسمع فنانين مشهورين لا يعون بما ينطقون ويتفوهون بهذه التفاهات الساقطة بسهرات تعرض على العموم بالقنوات التلفزيونية بالقطب العمومي، ولا من رادع أو متدخل من جهات وصية على القطاع، يتدخل ويصحح هذا العبث بتراثنا اللامادي. في المقابل نجد فنانين محافظين على الهوية المغربية لهذا الرأسمال اللامادي، شيخات وأشياخ من فرق غنائية معينة أعطت القدوة والمثال الايجابي عن نضج ممارستها الفنية وحسن العلائق والتدبير في حضورها وتنظيم حفلاتها ومشاركاتها داخل وخارج المغرب، ولها خلفية ثقافية ونباهة في ضمان استمرارية البعد الثقافي لفن العيطة، وهناك شباب ممارسون للفن الشعبي ولفن العيطة عن دراسة موسيقية أكاديمية مولعين بهذا التراث، يبدعون فيه بطرق سليمة تحترم الأصول دون الخروج عن الهوية المغربية، فشكرا لهؤلاء الفنانين المناضلين الذين لم ينالوا حقهم في الوسط الفني المغربي ولم تطالهم يد الدعم والمساعدة، يساهمون ويضحون بوقتهم ومن أموالهم الخاصة للحفاظ على هذا المورث الثقافي، شكرا للذين ساهموا في نفض الغبار على هذا الكنز الثمين وظلوا متشبتين بأصالتهم وبهذا الفن الذي يسافر بالمتلقي إلى كل ماهو جميل…
إن تراث العيطة طالما أسيء استعماله وتهميشه، وقد حان الوقت للارتواء والأخذ والاغتراف من حمولته الموسيقية والفرجوية والحكائية، لما يتضمنه من تعبيرات ثقافية عدة وجب استغلالها في سياقات فنية حديثة، بصفته فنا تراثيا أصيلا، وأصالته عموما تكمن في امتداده التاريخي، وهو يشكل جزءا من هويتنا الثقافية، تراثا لا ماديا ثقافيا وفنيا يمتلكه المغاربة، ولهم الحق في إعادة امتلاكه باستمرار، لكن علينا جميعا أن نحافظ عليه من التشوه والتمييع، وصونه من الضياع ومن الهجمة الشرسة لبعض الأنماط الموسيقية الأجنبية الدخيلة، وعلينا أن نكثف الجهود من أجل إدماجه ضمن الصيرورة الإبداعية المعاصرة، وأن نحمل المشعل إلى الأجيال القادمة.. ولكي نضمن استمرارية هذا النمط من الغناء التراثي الأصيل، نحن في أمس الحاجة إلى تبصير الشباب بجذور هذا الفن وألوانه وموضوعاته، كل منا من موقعه “ممارسين، باحثين، إعلاميين، جمعيات، مؤسسات وصية ومهتمين…”، كما يتوجب علينا توثيق ذلك المتن القليل الذي وصلنا منه، بصفة فن العيطة إرثا مشتركا، وهو إنتاجا فنيا قام بالتعبير عن هموم وأفراح الإنسان الشعبي خلال فترة حاسمة من تاريخه، وسجل لنا مظاهر حية من معيشه وطقوسه وأحلامه.. فقد حان الوقت لسبر أغوار هذا التراث الأصيل على أسس علمية لإعادة الاعتبار إليه. ولما لا نبدع ونخلق عيطات جديدة قد تصل إلى مستوى أو تقارب ما تركه أجدادنا.

وعلينا دائما أن نجدد الشكر والتحية للسيدات والسادة الدكاترة والأساتذة الباحثين والإعلاميين والمهتمين.. الذين اشتغلوا على فن العيطة والتراث الشعبي وأناروا لنا الطريق في هذا المنحى، فأنا كاتب هذه المقالة فنان شعبي عاشق شغوف ومولع بهذا الفن، ممارس ومهتم، موسيقي “كومنجي” ومغني لفن العيطة، أجتهد وأبحث كي أرقى إلى مستوى شيخ للعيطة، لأصير متمكنا من العزف والغناء ومن طريقة الصحيحة للأداء..حتى أتمكن من نقل ما وصل إلى علمي للمتلقي وللناشئة، وأكرر قولي أنني لست باحثا، لأن كلمة باحث هي كلمة كبيرة في عمقها وتعريفها الأكاديمي، وقد شقا الباحثون سنين طويلة، وأنفقوا من أموالهم وأوقاتهم للوصول إلى مراجع ومستندات علمية منها التي كانت مطمورة، ومنهم باحثون أكاديميون محنكون يجب دائما التذكير بأعمالهم والتنويه بها كنوع من التكريم، والترحم على الأموات، لهذا أعيد خلال كل مقال أكتبه عن فن العيطة أن أذكر وأشكر وأنوه بفخر واعتزاز هؤلاء الذين نبشوا وهبشوا، ونفضوا الغبار عن هذا الكنز المشترك بين المغاربة، هذا الموروث الثقافي اللامادي، رحم الله الأموات منهم وزكى في عمر الباقين الأحياء، وأذكر منهم الراحل رائد البحث والتحري العيطي محمد بوحميد أستاذنا وملهمنا في هذا الهم المشترك، الله يرحمه،، وحسن نجمي، وادريس الإدريسي، وحسن بحراوي، ومحمد شقير، وأبو بكر بنور، ومحمد أقضاض، ومحمد الولي، وصالح الشرقي، وعبد العزيز بن عبد الجليل، وعبد الفتاح السليماني، أحمد عيدون، وعباس الجيراري، وأحمد الصبيحي السلاوي، وعلال الركوك، وعبد الكريم الجويطي، وسعيد فاضلي، وعزيز خمريش، وسالم اكويندي، ومضمون محمد، والتهامي الحبشي، والمصطفى بن سلطانة، وسالم عبد الصادق، وعبد السلام غيور، وعبد العالي بلقايد، ومحمد جنبوبي، والغازي عبد الله، ونسيم حداد، والسهامي رشيد، وعلي المدرعي، والمصطفى حمزة، ولطفي محمد، والمصطفى مشيش برحو.. ومنهم كذلك باحثون أجانب جذبتهم أنغام العيطة من قارات أخرى، كالباحثة الأمريكية “ديبورا كابشن”، التي أنجزت عملا هاما في موضوع العيطة ضمن بحث كلفت به من جامعتها ب”تيكساس”، والباحثة الموسيقية الايطالية “اليسندرا توتشي” الموفدة من جامعة أمريكية لدراسة هذا الفن موسيقيا وأكاديميا.. شكرا لهؤلاء جميعا، وغيرهم من الذين لم تسعفني ذاكرتي على تذكرهم فمعذرة منهم.
وجزيل الشكر لجمعية “أطلس أزوان”، في شخص رئيسها الأستاذ الباحث والخبير الموسيقي “ابراهيم المزند”، صاحب “أنطولوجيا العيطة”، الذي عمل عملا ثقافيا أدبيا توثيقيا يتضمن كتابين باللغتين العربية والفرنسية، وأقراصا مدمجة مسجل عليها العديد من الأغاني العيطية بأصوات خيرة الشيخات والأشياخ من مجموعات عيطية غنائية من مختلف مناطق المملكة المغربية.
وخالص الامتنان وجزيل الشكر مع أسمى عبارات الحب والتقدير لجمهور فن العيطة عموما، وخصوصا جمهور الشيخ الحسين السطاتي.

الاخبار العاجلة