أحمد إفزارن
ليسَت هذه حُريّةَ اختِيار.. هي إجبارٌ على نمَطٍ حياتيّ..
والإجبارُ ضدّ الحُريّةِ الفرديّة.. إكراهٌ أَقربُ إلى التّعرّضِ لاستِبدَاد..
والاستِبدَادُ هو أن يُفرَضَ على الناسِ أن يَعِيشُوا عكسَ إرادتِهم.. بكيفِيةٍ لا يَختارُونها.. ولا يَقبَلُونَها.. ولا يَرتاحُون بِها.. ولَها.. وإليها..
ولا علاقةَ للإكراهِ بحُرّية الاختِيار..
وفي بيئةٍ إكراهية، ترى الناسَ تَصطَنِعُ حياةً عمُوميةً وخصوصيةً ذاتَ وَجهَيْن.. ومُتناقِضتَيْن..
ويَجنَحُون إلى ازدِواجيّةِ الشخصية، حتى لا يسِيرُوا عكسَ التّيار السّائِد، ولكي يكونُوا في مَظهرٍ مُتناسبٍ مع مُجتمعِ الحياةِ العامّة السّائدة..
ويَظهَرُ الفردُ للعُمومِ بوَجهٍ آخرَ غيرِ الوجهِ الذي يعِيشُ به حياتَه الخاصة..
وازدِواجيةُ الشخصيةِ تَناقُضٌ يُناسِبُ السّياسةَ العامةَ التي تَنهجُها حكومةُ استِبداد.. إنها تُنشئُ مُجتَمعًا مُنمّطًا في قَوالبَ يَتِمّ تجهيزُها بكيفيّةٍ يكُونُ فيها المُجتَمعُ صورةً مُكرّرةً مِنْ بعضِها..
وإعدادُ الناسِ في قَوالبَ مُكرّرة، هذه صورةٌ من بعضِها.. ظاهرةٌ تعرفُها مُجتَمعَاتٌ مُنمّطةٌ وِفقَ قالبٍ واحد، وكأنّ أفرادَها لم يُخلَقُوا أحرارًا، بل صُورةً من بعضِها.. محرُومةٌ من حياةٍ مُستَقلّةِ القرار..
وحكوماتُ الاستِبدادِ يَستَهوِيها أن تُمارِسَ المزيدَ من الاستِبداد..
وتتَجنّبُ تنشئةَ أجيالِها الصاعِدة في بيئةٍ سليمةٍ قِوامُها الاحترامُ المُتبادل، وأن يَكُونَ المُواطنُ فيها كما يُريدُ أن يكُون.. في الشّارع.. في الحياةِ الخاصّةِ والعامّة.. والمُناسَبات..
وحُرّيةُ اللّباسِ والتّغذيةِ والفكرِ والعلاقاتِ والتّفاعُلات، هذه تكُونُ مُثمِرةً وأكثرَ إنتاجيةً في بيئةٍ مُتنوّعةِ المَشاربِ الفِكرية، وتُمارِسُ حقَّها في اختيارِ أسلوبِ حياتِها، ورَسمِ الطريقِ إلى مُستَقبَلِها، وإلى وُجودِها المُجتَمَعِي، بعيدًا عن أيّ ضغطٍ وإكراه..
وفي مُناخِ حُريةِ القرَار، وأضواءِ النّمَطِ الحياتي الفَردِي، يَختارُ بنَفسِهِ لنفسِهِ كيف يَعِيش، وأين يَعِيش، ومع مَن يَعِيش، على أساسِ قَناعاتٍ ذاتية..
وليست هذه الحياةُ مُتاحةً في بيئةٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ واجتِماعية، تَحكُمُها تقاليدُ وعاداتٌ تؤثّرُ في اختياراتِ الفرد، وتَجعلُ الثّقافةَ السائدةَ تُوجّهُ الحياةَ الفردِية، عَكسَ الرّصيد المَعرِفي للفَرد، المُكتَسَبِ من خِبرةٍ حياتيّة سابٍقة..
وَتتدَخّلُ حكومةُ التّنميطِ الاجتماعي، للضغطِ كي يُوجِّه الفردُ نفسَه في ما يَقرأ ويَكتُب، وكيف يكُونُ ضدّ نفسِه حتى في طريقةِ التأمّل..
وقد يَجنحُ إلى اعتقادٍ بأنهُ غيرُ طبيعي، وأنّ عليه أن يُصلِحَ نفسَه بنفسِه، لكي يكونَ مع الناس في طريقةِ التفكير والسلوكِ والعادات، وأن يَنضبطَ لمُناسباتٍ فيها أنواعٌ من الأغذِية، وتسُودُها رياضاتٌ وزيارات..
ويُصبحُ المرءُ خاضعًا لبِيئةٍ عامّة هي تَحكُمُ حتى سُلوكَه اليومِي..
وعندما يَنضبطُ الفردُ لسُلوكٍ عامّ، ويَدخلُ في الصفّ مع الآخرِين، يَسهُلُ على الحُكومةِ أن تُصنّف الناسَ إلى فِئات، وسُلوكات، وطبائع، وميُولات، وأن تَستَقرئَ المُستقبَل، وتتَوقّعَ ما سيَحدُثُ في الأسواقِ والمُلتقياتِ والأندياتِ الرياضية، وغيرِها..
وهذا يُسهّل على الحُكومةِ أن تُوجّه الناسَ حسبَ ما هو مُتاحٌ لها، وما هو مُمكِن..
وتَستطيعُ رسمَ سياساتٍ تُوجّه المُجتمَعَ إلى هذا الاتّجاهِ أو ذاك، وأن تُعِدّ مُخطّطاتٍ احتياطية، لمُواجهةِ أيّ فَشلٍ سياسِي أو اقتِصادِي أو اجتماعِي..
ويَسهُلُ عليها توجِيهَ الناس، على أساساتٍ مُعيّنة، اعتبارا لاختلافِ الطبائع، اعتِبارًا لكونِ الطبائعِ تختلفُ من مَكانٍ إلى آخَر..
وتَستطيعُ تسويقَ مادةٍ مُعيّنة في مكانِ كذا، بدلَ مكانٍ آخر، على أساسِ طبائعِ الاستهلاك..
وتستطيعُ تنميطَ الناس، حسبَ طريقةِ أَكلِهم وشُربِهم، والمكانِ الذي يُفضّلونه، والتوقيتِ المناسِب للبيعِ والشراء، والقُدرةِ الشرائية..
وهذه المعرفةُ المُسبقَة تجعلُ الجهاتِ المَعنيةَ تُقرّرُ خريطةَ التجارةِ الشعبية، من حيث المكانُ والزمانُ والسّلعة، وتكُونُ لها خريطةٌ استهلاكية، مع الإنتاجِ والتّصنيعِ والأثمنةِ والتسويق، حسب ما يُناسبُ كلَّ فئةٍ مُستَهدَفة…
الحكومةُ بحاجةٍ إلى كلّ المعلوماتِ التواصُلية والتسويقيةِ والتعليميةِ والتشغيليةِ وغيرِها، لضبطِ كيفية التعاملِ مع شُؤون الحياةِ الاجتماعيةِ اليومية..
ونفسُ الطريقة تُستخدَم في مختلفِ مجالاتِ السلوك الفردي والجماعي، اجتماعيّا وسياسيّا ومُعتَقَديّا، وتُضبَط بشأنها الحرّياتُ والقوانينُ والمُخطّطاتُ الاقتصادية..
وعلى هذا الأساس، تُضبطُ كيفيةُ التعامُل السياسي مع القضايا المطرُوحةُ اجتماعيّا، بما فيها العيشُ المُشترَك، في بيئةٍ اجتماعية، وبيئةٍ طبيعيّة..
كما تُضبطُ بقيةُ التّوازُناتِ المُجتمَعيّة، في عالَمٍ مُتحرّك، تَحكمُه ضغوطاتُ إعادةِ توزيعِ الثروات..
وطُموحاتُ التعايُشِ والاندماج..
– في رخاءٍ وسلامٍ واحتِرامٍ مُتبادَل!