م.م. ماجد رمضان جاسم
ملخص الدراسة:
إن بنية النص هي السبيل الأهم لنا في دراستنا هذه إذا استطعنا من خلالها الوصول الى الدلالة الكامنة في سياقات النص الشعري، فظاهر النص هو الشكوى المرتبطة بالرثاء الذي وقف به الشاعر على اسباب الحزن التي ظهرت عاقبة لحالة الفقد، مما دفع بالدراسة إلى السير على منهج منتظم_ أتخذ من البنية أساساً له ثم انطلق من خلالها في فضاء الدلالة عبر السياقات اللغوية والبيانية، والمرجعيات الثقافية التي ساعدت على نشوء نص ذي لغة مكثفة ، جسدت خطابا انفعاليا، هيمن على نظم القصيدة وموسيقاها الشعرية التي تمخضت عن غنائية القصيدة وحرارة العاطفة.
الكلمات المفتاحية(البنية،الحزن،الشكوى،الرثاء،الرحيل،الموت).
تمهيد
أ- مفهوم البنية والنص
البنيةفي اللغة العربية تشتق كلمة (بنية) من الفعل الثلاثي (بنى)؛ وتعني البناء أو الطريقة، وكذلك تدل على معنى التشييد والعمارة والكيفية التي يكون عليها البناء، أو الكيفية التي شيد عليها، وفي النحو العربي تتأسس ثنائية المعنى والمبنى على الطريقة التي تبنى بها وحدات اللغة العربية، والتحولات التي تحدث فيها. ولذلك فالزيادة في المبنى زيادة في المعنى، فكل تحول في البنية يؤدي إلى تحول في الدلالة، والبنية موضوع منتظم، له صورته الخاصة ووحدته الذاتية؛ لأن كلمة (بنية) في أصلها تحمل معنى المجموع والكل المؤلف من ظواهر متماسكة، يتوقف كل منها على ما عداه، ويتحدد من خلال علاقته بما عداه.( )
واصطلاحاً, تعني البنية في رأي ليفي شتراوس أنهاليست سوى طريقة أو منهج بالإمكان تطبيقها في أي نوع من الدراسات تمامًا؛ كما هي بالنسبة للتحليل البنيوي المستخدم في الدراسات والعلوم الأخرى( ),فهو يحدد البنية على أنها نسقيتألف من عناصر يكون من شأن أي تحول يعرض للواحد منها أن يحدث تحولاً في باقي العناصر الأخرى( ).
اما عند دي سوسير فلا يمكن تعريفها إلا بالرجوع إليها بوصفها بناءً أو نظاماً، أي بالرجوع إلى علاقاتها الداخلية (الدال والمدلول), بدلا من علاقاتها الخارجية(سياق اجتماعي، تاريخي)؛ إذ تتضح وظيفتهابحسب تناقضاتها الداخلية, وعلى الرغم من أن دي سوسير نفسه لم يستخدم كلمة “بنية”، وإنما استخدم كلمة “نسق” أو “نظام”، إلا أن الفضل الأكبر في ظهور المنهج البنيوي في دراسة الظاهرة اللغوية يرجع إليه هو أولاً وبالذات( ).
ويعتمد مصطلح البنية على التصوير الوظيفي للبنية كونها عنصراً وظيفيَّاً منتجاً في (كلٍّ) أشمل, وقد ركز هذا التصوير على السياق, وعالج به الكثير من مشكلات اللغة, كالترادف, والنموذج الواضح لهذا التصور هو علم الصوتيات الذي يرى في الوحدات الصوتية ( الفونيمات ) أو الحروف عناصرَ ذات معنى, لكنها لا تكتسب معناها إلى بدخولها في نظام أشمل( ). وهو كما ورد عن الجرجاني في نظرية النَّظم, التي تفيد بأن الكلمة لا تعني شيئاً مفردةً, إلّا في سياق أشمل يوجه معناها المطلوب.
والبنية إذاً هي كيان مستقل يشتمل على تنظيم داخلي خاص به قائم على ارتباط متبادل مع المجموعة التي تدخل في عداده( ).
أما النص ففي اللغةهو “التحريك حتى تستخرج من الناقة أقصى سيرها.. ونص كل شيء منتهاه. أما عند ابن الإعرابي: النصُ الإسناد إلى الرئيس الأكبر، والنص التوقيف، والنص التعيين على شيء ما”( ). ونصَ الحديث إليه: رفعه، وناقته: أستخرج أقصى ما عندها من السير، والشيء: حركه.( )
وكان يقال: “نصَ الحديث : رفعه وأسنده إلى المحدث عنه.. (النصُ): صيغة الكلام الأصلية التي وردت من المؤلف: وما لا يحتملُ ألا معنى واحدا، أو ما لا يحتمل التأويل، ومنهم قولهم لا اجتهاد مع النصنصوص. ومن الشيء : منتهاه ومبلغ أقصاه. يقال: بلغ الشيء نصه. وبلغنا من الأمر نصه: شدته”( ).
وفي الاصطلاح فالنص عند البنيويين هو جنس من أجناس المؤسسة الاجتماعية ( أي الكتابة الأدبية: الأدب)، يشاركها في سماتها العامة ويتميز عنها بخصائص مقننة هي الأعراف والشفرات الأدبية والتقاليد المتعارف عليها، فتجعله فرعا من فروع المؤسسة الاجتماعية (الكتابة عموما)( ).
النص: الكلمات المطبوعة أو المخطوطة التي يتألف منها الأثر الأدبي( ).
النص: ما ازداد وضوحاً على الظاهر لمعنى في المتكلم، وهو سوق الكلام لأجل ذلك المعنى( ).
والنص ما هو إلا نتاج الشحنة الانفعالية المتوهجة عند الكاتب من مرجعية معرفية لها تماس مع معطيات ذاتية( ).
ب- سيرة الشاعرة
سميرةفرجي,شاعرةومحاميةمغربية (مواليد 5 مارس 1966 فيوجدة)،،شاركت في عدةندوات فكرية،ومهرجانات أدبيةمغربيةوعربية،كمانشرت أبحاثهاوقصائدهافي عدةمنابرإعلاميةأدبيةداخل المغرب وخارجه. حاصلةعلى الإجازةمن كليةالعلوم القانونيةوالاقتصاديةوالاجتماعيةبجامعةمحمدالأول بــوجــدةبالمملكةالمغربية,وعل ىشهادةالأهليةفي المحاماة_وهي محاميةمقبولةلدى محكمةالنقض,وعضو بالنقابةالحرةللموسيقيين المغاربة .
دواوينهاالشعرية
• «صرخةحارك» (مطبعةالمعرف – الرباط،عام 2010م).
• «رسائل الناروالماء» (تقديم عميدالأدب المغربي الدكتورعباس الجراري- مطبعةالمعارف- الرباط،عام 2013م.)
• «مواويل الشجن» (مطبعةالمعارف الرباط عام 2015م).
• «رسالةللأمم المتحدة» (مطبعةأنفوبرانت – فاس،عام 2017م).
• تناول شعرهابالدراسةوالتحليل عددمن النقاد
• تُرجم شعرهاإلى عدةلغات عالميةمنها: الفرنسيةوالإنجليزيةوالإسبانيةوالأمازيغيةوالألمانية،والتركيةوالأندونيسية. والمطرب التونسي لطفي بوشناق, المطرب المغربي فؤادطرب( ).
قصيدة رحلوا( ).. الشاعرة سميرة فرجي
كـأن الــمــوتَ فــي فـَـلَـكـِـي يــدورُ ولا يـثـنـــيـــه عَــطـْــــفٌ أو فـــتــورُ
يـُـــوَدِّعـُــنِــي حــبــيـــبٌ كـلَّ عــامٍ فـيـسـقـط مـن قـلاع القـلـب ســـــــورُ
يـعـزّ عـلي مــن رحـلـوا كَـسِـــرْبٍ فـأبـكـيـهــــم وتـبـكـيـنـي الصــخــورُ
وَلـَــوْ كـان الـبـكـاء يـعــيـد مـَـيْــتــًا لـضــاقـتْ عــن مـَـدَامِــعـِـيَ البحـورُ!
أنــام علـــى جِــرَاحِــيَ واللـيـــالــي تـطــول وقــد خـبــا في الــــدار نــورُ
وَتَـهـْمُــدُ نــارُ فـُـرْقَــتـِهِــــمْ عــــنــاءً وحـــــــــــيــن تــمـــر ذكـراهــــم تـــفـــورُ
وجـوه كــيـف أنـســاهـــا وعـيـنــي تــراهــــــــــا كـلــمــــا وجـــهــي يـــدورُ!
ومــا أقــســى عـــذاب الفــقـد لـمــا شـبـيـــه المَـيْـت يـخـلـقــه الشـعـــورُ!
إلهي لا اعــتــقــادي فـيــــه رَيْــــبٌ ولا قـلـبـــي بـمــــا تــقـضــــــي كـفــورُ
ولـكـــن الـفـــواجـــــعَ حــــــــــــارقــــاتٌ وكـــفّ الــمــــوتِ أحـيـانًـــا تـجـــــــــورُ
ولـو حَـمَلَـتْ صــدور الخـلـق قـلبي لَــفَـرَّتْ مــن مــواجـعـهــا الصــــــدورُ
أمُـرُّ عـلى الأمـاكــن حــيــث مـروا فــتـنـطــق بالأســـى والشَّـجْـــــوِ دُورُ
هـنا رقـدوا…هـنا جـلســوا…وهذي بــقـــايــاهـــم كـمـا عـَــصْــفٌ تَـمُــــورُ
هـــنــا أطــلالـهـم فـــي كـل ركـــن وجــيــش الـذكـريــات بـهــا يَـثُـــــورُ
هـنا صـحـفٌ…هـنا مِـشطٌ…وَبَعْضٌ مِــنَ القـمـصــان تسبقهـــا العـطــــورُ
هــنـا صــور بـهــــــا نــظــرات شوق كــــوخـز السـيـف فـي عيـنـي تـغــــورُ
فــأنَّـــى للـزمــان يُـعــيــدُ صَــــــفْـــوًا أَبَـعْــدَ رحـيـلـهـم يـرجـــى ســـرورُ؟!
أزور قـبــورهـــــم فـأرى شــتـاتـي وقـــد أودى بــه الـزيـــف الـغــــرورُ
كـأنِّي الـمَـيْــتُ جـاء يــزور مَـيْـتــًا وَيُـجْـهَــلُ مَــنْ يُــزَارُ وَمَـنْ يَـــــزُورُ
ولــم أُطِـــقِ البُعَــادَ وَهُــمْ أمــامــي فــكـيــف أطـيـقـــه وَهُــــمُ قـــبــــورُ!
وكـيــف أَفِــرُّ مـن واحـات حـزنــي وأوجــــاع الفــــراق لهــــا جـــذورُ!
وكـيــف يُـصَـبِّـرُ الـدَّاعـون قــلـبـي وصـبــري بَـعـْــدَهُـــمْ غَــدْرٌ وزورُ!!
ســـأرقُــدُ بـيـنـهــم وبـذا عــــزائــي وتـجـمـعـنـــا القـيــامــــة والنُّــشُـــورُ
أنَا فــي دفــتـر الأحيـــاء رقــــــــمٌ وتــعــرفُــنــي المــقـابـرُ والحُــشُـــورُ
فـيـا حـفَّــار قـــبـري جُـدْ بـنـصــبٍ عــــلــى قــبــري تُـخَـلِّــدُهُ سُــطـُــــــورُ
ألا يَـا زائـــرَ الأجــــداث مـهــــــلاً هــي الـدنـيــا وإن طــالــتْ عُــبُــــورُ
فَـلا تـمــلَأْ كـؤوســكَ مــن ســرابٍ وعـــــيــش كــل مــا فـيـــه قُــشُـــــورُ..
مدخل
إنَّ التحليل لا يعطي نتيجة نهائية في فهم النصوص, إنما هو امرٌ نسبي, يحاول فيه الناقد بطريقة او بأخرى تقصي الحقائق والوقوف على جميع مكونات النص؛ للوصول إلى أعلى نسبة في الدقة.
التحليل:
نبدأ بعنوان القصيدة, إذ يعد عتبة مهمة من عتبات الدلالة للنص الأدبي, فالشاعرة أرادت ان تقول ( لأنهم رحلوا أرى ذلك وأشكو), مما جعل العنوان موجهاً رئيساً من موجهات الرؤية التي تكونت منها القصيدة, إذ تركب العنوان من صيغة سببية شكلت رؤية فكرية انطلقت من خلالها جميع أفكار القصيدة, فالمطلع يحل محل المفعولية لفعل الرؤية, وقد أثر ذلك سلباً على قناعات الإنسان بسنة الحياة_ التي تقضي بأن الفناء للجميع إلا وجهه تعالى. فالعنوان ( رحلوا) فعل ماض مسند إلى واو الجماعة, لتدل على ان فعل الرحيل مرتبط بجماعة الأحباب, وهو ما جسدته الشاعرة في أبيات القصيدة.
إن الغرض الأساس في القصيدة هو الشكوى, حيث تستهل الشاعرة قصيدتها بـ( كأن) التي تفيد التشبيه, في سياق توحي بها بالتأمل والتساؤل والتعجب, وهي تقف على منصة البوح, كما جاء في القصيدة:
كـأنالــمــوتَفــيفـَـلَـكـِـييــدورُولايـثـنـــيـــهعَــطـْــــفٌأوفـــتــورُ
وقد ذكرت الشاعرة (الموت) الذي يستدعي معه ( الحياة) لتجسد لنا ما يفسره عنصر التضاد بين الأبعاد الدلالية للكلمتين, لتخرج لنا بدلالة التداخل الشعوري بين الموت والحياة, فالشاعرة تحاول تفسير أثر العمومية التي يحملها الموت؛ فهو لا يستثني أحداً ولا يبالي ولا يستمع لأحد, فالموت= العدم___ الفقد___ الحزن___ الشكوى, والحياة = الوجود___ الوصال___ القرارة, فهي دلالة الصراع بين الوجود والعدم. وقد جاء في السياق سيطرة مدلولات الموت التي لن تترك لصفة الحياة مكاناً؛ لتكون الحال هي الفراق والحزن والشكوى والتفجع واللوعة, وهنا استعارة مكنية, إذ شبهت الموت بالكوكب الذي يشغل مداراً ضمن مجموعة فلكية_ أي: ضمن حياة كاملة وشيئاً ملازماً لها, فهي دلالة فقدان السيطرة على مدار الحياة لتنتهي بالفقد والفراق الذي يتكرر كلَّ عام, كما سيأتي في البيت التالي . وبعد أن يفهم المتلقي الفكرة الأساس في القصيدة, تنتقل الشاعرة إلى الولوج في الأسباب, أي: أسباب الشكوى, كما جاء في البيت التالي:
يـُـــوَدِّعـُــنِــي حــبــيـــبٌ كـلَّ عــامٍ فـيـسـقـط مـنقـلاعالقـلـ بســـــــورُ
هنا تتمحور قضية الفقدبين سبب ونتيجة, فالسبب هو الموت الذي ارتكز على فعل الرحيل,والنتيجة ما يخلفه الموت من الوداع وفراق وحزن واشتياق, وقد تجلت تلك المفاهيم بصيغة المضارع للتعبير عن الآنية, مع وجود مفارقة دلالية بلفظة(عام) التي تحمل الدلالة الإيجابية, ليخرجها السياق إلى الدلالة السلبية التي تتعالق مع الحالة الشعورية, ولكن هذه المفارقة ضمنت السياق دلالة التسليم أمام وجود السبب. ثم تتجلى في الشطر الثاني دلالة الشموخ التي تحملها لفظة (القلب), فهي استعارة مكنية, إذ شبهت الشاعرة القلب بالمملكة ذات القلاع والأسوار,ثم أكدت على قلاع القلب بتقديمها على كلمة( سور),لتجعل من هذا التقديم محور حديثها, فهي دلالة ما تختلجه الانفاس من ألم, وقد أرادت بالسور هم الأحبة, فالعز والقوة بوجودهم, فهم الأعزاء, ورحيلهم يدمي القلبَ حزناً, وهو ما جاء في البيت التالي:
يـعـزّعـليم ــنرحـلـواكَـسِـــرْبٍ فـأبـكـيـهـــ ـموتـبـكـيـنـي الصــخــورُ
وقد وصفت الشاعرة الرحيلَ بالتوالي والتتابع بلفظة( سرب) لتفصل بينهم مسافات زمنية وهي (عام), لتعقبها مباشرة حالة حزنوبكاء, ونلاحظ في هذا البيت أن هناك تناصَّاً مع قول السياب:
إليهِ إليها أنادي عراقْ
فيرجعُ لي من ندائي نحيبْ
تفجَّرَ عنهُ الصدى..
أحسُّ بأنِّي عبرْتُ المدى
إلى عالمٍ من ردىً لا يجيب
ندائي..( )
ففي قول الشاعرة تعبير عن القطيعة النفسية التي تستدعي ما مرَّ به السياب, الذي جسد هذه القطيعة في قصيدته, فالشاعرة تمر بقطيعة نفسية جعلتها تعيش في غربة شعورية بسبب فاجعة الفقد التي تكررت عليها سنةً بعد أخرى, لتعيش تراكماً عظيماً من الآلام والأحزان والإحساس بالضياع والتشظي العاطفي, وعدم احتمال ألم الفراق. ونجد هناك تقديم المتعلق المقترن بالذات على الفاعل الذي جاء بصيغة حرفية ليدل على العموم_ وهو عموم الاحبة, لتفيد بذلك عدم إحصاء الأفراد, ليؤدي ذلك الرحيل إلى البكاء الذي يحمل صفة اللاجدوى بقولها ( وأبكيهم وتبكيني الصخورُ), فهناك تكرر تقديم الذات, فهي دلالة على عذابات الذات التي تعاني منها الشاعرة بسبب الفقد.
كذلك نجد في الشطر الثاني دلالة المشاركة الشعورية بين العاقل(الأنا) وغير العاقل (الصخور), إذ عبرت عن الأزمة النفسية والحزن العميق الذي يتجاوز العاقل إلى غير العاقل. وقد أكدت الشاعرة على صفة اللاجدوى من البكاء في البيت التالي:
وَلـَــوْكـان الـبـكـاءيـعــيـدمـَـيْــتــًا لـضــاقـتْ عــن مـَـدَامِــعـِـيَ البحـورُ!
فالشاعرة بدأت البيت بـ(لو) وهو حرف امتناع لامتناع, أرادت منه الكف عن البكاء او التقليل منه, من خلال جملة شرطية_ امتنع فيها جواب الشرط ( لضاقت عن مدامعي البحور)؛ لامتناع فعل الشرط( كان البكاء يعيد ميتاً), وقد قدمت المدامع على البحور تعبيراً عن أهمية الجانب المتصل بالحزن والشعور, وهو أهم من الجانب الذي ينتهي إليه الشعور_ وهو المكان المفتوح, الذي يمنح التركيب صفة التشظي والضياع. وتعود الشاعرة إلى حالة من الوعي لتقف على منصة البوح التي تعرب فيها عن شكواها, بقولها:
أنــامعلـــىجِــرَاحِــيَواللـيـــالــي تـطــولوقــدخـبــافيالــــدارنــورُ
وهو تناص مع قول أبي فراس الحمداني, بقوله( ):
إذا الليلُ أضواني بسطْتُ يدَ الهوى وأذللتُ دمعاً من خلائِقِهِ الكِبرُ
وكذلك تناص مع قول امرئ القيس( ):
وليلٍ كموج البحر أرخى سدوله عليَّ بأنواع الهمومِ ليبتلي
فهو تعبير عن الهموم التي تنتابها أثرَ الفقد وما يحدثه الشوق إلى الأحبة, وقد بدأت بفعل النوم(أنام) ويليه المجرور( الجراح) فهي دلالة عدم الوصول إلى الغاية من فعل النوم بوجود الجراح, لتكتمل ملامح الصورة الحالية التي اقترنت بزمن الليل الذي يحمل دلالة اللون والوقت(زمن, وسواد), وقد عبرت به عن السأم والملل بوصفه بالفعل ( تطول). ويستمر وجود الزمن نفسه ليشمل الشطر الثاني من البيت, لتتجلى صورة الفقيد بأثرها الجلي على الذات, وقد ذكرت (الدار) لتوحي لنا بالصلة القوية بالفقيد, وقد يكونون من الأسرة بوجود كلمة( الدار)_ فهو المكان الذي يجتمع فيه مَن تربطهم ببعضهم صلة رحم, وقد سبقتها بالفعل ( خبا) وهو الاختفاء, لتسنده إلى الفاعل(النور), وهي استعارة تصريحية شبهت من خلالها الفقيد بنور البيت, فهي دلالة الأسرة أو القرابة القوية, كذلك صفة العيش تحت سقف واحد.
إن حالة الحزن لدى الشاعرة تتأرجح بين التعب الذي يؤدي إلى الاستسلام ثم التوقف من جهة, وبين الذاكرة التي تنهض بالحزن إلى أعلى درجاته من جهة اخرى, كما جاء في البيت:
وَتَـهـْمُــدُنــارُفـُـرْقَــتـِهِــــمْعــــنــاءً وحـــــــــــيــنتــمـــرذكـراهــــمتـــفـــورُ
وقد وجدت كلمة ( الذكرى)لتدل على الشعور بوجود الإنسان الغائب, وقد اتضح المقصود في البيت التالي:
وجـوهكــيـفأنـســاهـــاوعـيـنــي تــراهــــــــــاكـلــمــــاوجـــهــييـــدورُ!
فالشاعرة عبرت عن عدم تقبل حدث الفراق الأبدي, لتعيش مع الذاكرة, فهي صفة اللاشعور, بسبب تعلقها بأحبائها الذين أخذهم الموت, إذ تحيطها الذاكرة بكل تفاصيلها؛مما تؤدي إلى الشعور بوجودهم, وهو ما دلت عليه كلمة( وجوه) فهي صورة كل واحد منهم, لأنها ترفض نسيانهم, فهي الرؤية الباطنية التي تكرس الشعور بالغائب. وتعود بالشاعرة إلى الإحساس بالعذاب, بقولها:
ومــاأقــســىعـــذابالفــقـدلـمــا شـبـيـــهالمَـيْـتيـخـلـقــهالشـعـــورُ!
وقد افتتحت هذا البيت بالتعجب الذي يحمل دلالة شدة الألم؛ نتيجة الفقد, ليوحي لنابفقدان التوازن الشعوري والفكري, الذي يؤدي بالإنسان إلى الاستسلام لحزنه_ وهو ما جاء في الشطر الثاني من البيت.
وفي البيت التالي:
إلهيلااعــتــقــاديفـيــــهرَيْــــبٌ ولاقـلـبـــيبـمــــاتــقـضــــــيكـفــورُ
تعود الشاعرة لتعبر عن حالة من التوبة إلى الإله, وتشير إلى الرضا بقضاءه وقدره وبعدم حيادها عن الطريق القويم, فهي مرجعية دينية تشير بها إلى عقيدتها الإسلامية التي تؤكد ركناً من أركان الإيمان_ وهو الإيمان بالقضاء والقدر, إذ تنفي عن نفسها جميع صفات الجحود التي تقضي بعدم الرضا والقبول, وقد قدمت القضاء على الكفر؛ لتجعل من القضاء والقدر ما يمنع القلب من السخط والرفض لما كتبه الله, إذ تعزو ذلك إلى الموت الذي جلب لها الفواجع, كما في البيت:
ولـكـــنالـفـــواجـــــعَحــــــــــــارقــــاتٌ وكـــفّالــمــــوتِأحـيـانًـــاتـجـــــــــورُ
هنا نرى الشاعرة تترامى على بعضها حزنا وألماً, وقد تضمن خطابها ابتهالاً إلى الخالق وشكوى من وجود الموت الذي تسبب بألمها وحزنها. وقد ذكرت(وكـــفّالــمــــوتِ) ليليها الزمن (احياناً), تنزيهاً للموت عن صفة الجور الملازمة له, فهو حق على الإنسان لكنه يؤلم أحباءه؛ مما يجعلهم يشعرون بأن الموت لا يأتي سواهم, هنا تتجلّى دلالة الحجاج الذي نتج عن الشكوى, لتستمر في البيت التالي:
ولـوحَـمَلَـتْصــدورالخـلـققـلبي لَــفَـرَّتْمــنمــواجـعـهــاالصــــــدورُ
فهنا تعرب لنا الشاعرة عن حالها- بأنها قد احتملت ألما يفوق قدرتها مما لا يقوى احدٌ من الخلق احتماله, وهو ما حمله السياق الذي تركب من جملة الشرط التي افتتحتها بالأداة (لو). ويعود بها النفس الشعري إلى عمود الشعر العربي القديم حيث الوقوف على الأطلال وذكر أماكن الأحباب, كما في البيت التالي:
أمُـرُّعـلىالأمـاكــنحــيــثمـروا فــتـنـطــقبالأســـىوالشَّـجْـــــوِدُورُ
ففي هذا البيت تناص معنوي مع قول قيس بن الملوح:
أمرُّ على الديار ديارِ ليلى أقبِّل ذا الجدارَ وذا الجدارا
وما حبُّ الديار شغفْنَ قلبي ولكن حبُّ من سكنَ الديارا
ففي هذا البيت إشارة إلى قوة الأواصر الاجتماعية والتعايش مع المجتمع. وقد جاء بيت الشاعرة على المعنى والموسيقى الشعرية التي تبنتها تفعيلات الوافر, فالشاعرة تحمل نفساً شعرياً تحاكي به الشعراء العرب القدماء, فالشاعرة ترسم لنا صورة شعرية جميلة – تحمل كل معاني الألم والتعلق والوفاء للأحباب بتشخيص (الدور)_أنسنة واستنطاق الموجودات والجوامد, لتأخذنا في رحلة شعورية ذات تيارٍ عالٍ من الحزن والبكاء الداخلي, فهي تقدم الأسى على الدور لتفيد لنا أن إيصال الشعور إلى المتلقي وبث الحزن هما محور الكلام, وهي دلالة كثرة المرور بجنس( الدار), التذي يوحي بالمكان الذي تعيش فيه الشاعرة قد يكون ريفاً, او أن الشاعرة تنحدر من جذور ريفية, لتجنح إلى الولوج في تفاصيل الذاكرة, وهذا ما نجده في البيت التالي:
هـنارقـدوا…هـناجـلســوا…وهذي بــقـــايــاهـــمكـمـاعـَــصْــفٌتَـمُــــورُ
إذ تعيد لنا طرح المعاني بأسلوب الشاعر القديم حيث استذكار الأماكن التي سكنها الاحباب بالإشارة إلى أماكنهم, فهي حالة من السكون والتأمل في أطلال الأحبة , فهي تفعّل أثر المكان في دلالة الحزن والشوق, ثم تخرج من الجزءْ إلى الكل في الابيات التالية:
هـــنــاأطــلالـهـمفـــيكـلركـــن وجــيــشالـذكـريــاتبـهــايَـثُـــــورُ
هـناصـحـفٌ…هـنامِـشطٌ…وَبَعْضٌ مِــنَالقـمـصــانتسبقهـــاالعـطــــورُ
هــنـاصــوربـهــــــانــظــراتشوق كــــوخـزالسـيـففـيعيـنـيتـغــــورُ
فالشاعرة تكرر ظرف المكان ( هنا) لتحمِّل المكان جميع الأسباب التي تحول بينها وبين النسيان, وهو ما نطقت به الدور, فهي فانتازيا شعورية جسدت بها الشاعرة حالة شعورية تضمنها السياق اللغوي الذي تركبت منه الصورة الجزئية, فالشاعرة تقف أساساً في موقع الذكريات, وتبوح بما تختلجه أنفاسها من الحزن والشوق والالم, لتفعّل عنصر الخيال الذي يأخذها إلى استرجاع الذاكرة في أماكن الاحبة وذكرياتهم, ثم تشير إلى ميزة يتميز بها الراحلون: وهي أنهم من أصحاب الوعي والطبقة المثقفة, وهذا ما دلت عليه الكلمات(صحف, مشط, قمصان, عطور), فهي من دواعي العقل والمظهر, وتشير بها إلى بساطة العيش وبساطة الناس, وكذلك مكملات الحضور التي يتمتع بها الراحلون, والتي تجعل وجودهم مؤثراً لدى الشاعرة, مما يجعل غيابهم أكثر فجيعة واضطراب لدى محيطه, ثم هي تستلهم ذكراهم بمشاهدة صورهم التي تفصح عن عالم مضى بفقدهم, مما انعكس على الشاعرة انعكاساً سلبياً جعلها تعاني الحزن والشوق الذين ألقياها في حالة من التشظي والألم. وتبقى الشاعرة تعيش في هول عاصفة الحزن التي تجعل عنصر الزمن أكثر وقعاً في نفسها, وهو ما أثبتته في البيت التالي_ بقولها:
فــأنَّـــىللـزمــانيُـعــيــدُصَــــــفْـــوًا أَبَـعْــدَرحـيـلـهـميـرجـــىســـرورُ؟!
ليكون للزمن الأثر النهائي والقرار الأخير, الذي جعل الشاعرة تعيش استسلامها باستمرار, ليمنحها الزمن تلك الذاكرة التي تعيدها بين آونة وأخرى إلى العيش بين أحبابها الذين رحلوا بلا عودة, لتصحو على حاضر مليء بالغياب والفقد فتسوء حالتها مرة أخرى؛ لتجد نفسها بين متناقضين, هما( رحيل, وسرور)؛ إذ يغيب السرور برحيل الأحباب, وهم صفوة حياتها. وقد تبحث الشاعرة عن ملاذ آخر تعيد به حضور الراحلين, وهو زيارة قبورهم, بقولها:
أزورقـبــورهـــــمفـأرىشــتـاتـي وقـــدأودىبــهالـزيـــفالـغــــرورُ
لتعلن فشلها بالخروج من محنتها, فتجد الشتات والصعوبة في مشاهدة القبور التي ترمز إلى اللارجوع, فهي رؤية شعورية وليست بصرية تحاول بها أن تحقق لنفسها شيئاً من التفاؤل بوجودهم, لتتقبل عكسه على مضض, فتقول:
كـأنِّيالـمَـيْــتُجـاءيــزورمَـيْـتــًا وَيُـجْـهَــلُمَــنْيُــزَارُوَمَـنْيَـــــزُورُ
إشارة إلى صعوبة الموقف الذي تعيشه, فتقول( كأني الميت), تشبيها لحالها بحال الأموات, لما تعانيه من الألم والحزن, فهي دلالة عنصر التضاد الذي يتكون من الموت والحياة, لتتحقق المفارقة المعنوية بذلك, وهي أن الزائر الحي هو الذي أصبح يعاني الموت, وليس الميت, فهي دلالة الاضطراب النفسي الذي سببه رحيلهم, كما تقول الشاعرة:
ولــمأُطِـــقِالبُعَــادَوَهُــمْأمــامــي فــكـيــفأطـيـقـــهوَهُــــمُقـــبــــورُ!
فهي تنفي مطلقاً تحملَ بُعد الفقيد بوجوده, ثم تؤكد على نفسها بصيغة الاستفهام الذي خرج لمعنى التعجب بأنه لن تتحمل فراقهم سواء في الحضور أم في الغياب, وما هو إلا امرٌ غايةٌ في الألم,فهي إشارة إلى التمسُّك بالأحباب والتعلق بهم, فهم جزء من حياتها الاجتماعية, ثم تسترسل بوصف حزنها, في قولها:
وكـيــفأَفِــرُّمـنواحـاتحـزنــي وأوجــــاعالفــــراقلهــــاجـــذورُ!
تكرر ( كيف) لتؤكد التعجب الذي يمنح السياق اليقين النهائي في عدم التحمل وعدم الفرار من الحزن, بسبب الوجع الذي جاء نتيجة الفراق الذي ترسخ في حياتها إلى الأبد, وتبقى مع الشعور بالاضطراب, بقولها:
وكـيــفيُـصَـبِّـرُالـدَّاعـونقــلـبـي وصـبــريبَـعـْــدَهُـــمْغَــدْرٌوزورُ!!
فالشاعرة توظف التركيب الاستفهامي لغاية دلالية مفادها نفي استطاعة الداعين أن يصبروا قلبها, إذ تعدُّ ذلك خيانة لوفائها لهم, فهي تعزز مرجعيتها الاجتماعية بدلالة التواصل التي حملتها كلمة(الداعون) وهم الأقرباء والأصدقاء المواسون, فهي فاعل تلاه المفعول به( قلبي) المسند إلى الذات, وهي دلالة قوة الآصرة بينها وبين الراحلين والمحيط؛ مما يدل على أنهم يتشاركون العيش في بيئة واحدة تسودها المحبة والبساطة. وفي المفعول به مجاز لغوي أرادت به صاحب القلب, وكذلك أرادت بهذا المجاز تحديد مكان الصبر في الإنسان, فهي تطلب الجزء لتعني الكل, وفي الشطر الثاني من البيت قد أعطت الشاعرة الحجة والبرهان على عدم قبولها دعوة الداعين لها بالصبر, وتعود بعد ذلك لتعطي قراراً نهائيا, تجده الأنسب, بقولها:
ســـأرقُــدُبـيـنـهــموبـذاعــــزائــي وتـجـمـعـنـــاالقـيــامــــةوالنُّــشُـــورُ
فهي تقرر أن تعيش مع بقايا الأحباب وتأبى التراجع عن الشعور بوجودهم؛ فهي تجد في ذلك عزاءً لها, على أمل لقائهم يوم القيامة, فهو اليوم الوحيد الذي تأمل أن تلقاهم فيه, إذ تجعل نفسها من الموتى الأحياء, كما جاء في قولها:
أنَافــيدفــتـرالأحيـــاءرقــــــــمٌ وتــعــرفُــنــيالمــقـابـرُوالحُــشُـــورُ
فهي تكون سياقاً تكون من( أنا, حياة, رقم) بهذا التتابع اللفظي جعلت حياتها تتميز شعورياً بالإنسان الذي تسيطر عليه الحياة لكنه رقم فقط, فهي دلالة الشعور اليأس من الخروج من المحنة الحارقة, لتصبح من جلساء القبور التي تذكرها دائما بالراحلين, فهي دلالة التخلي عن الذات, ونبذ كلَّ جميل بعد وقوع رحيل الأحباب الذي تسبب بآلامها. تبقى الشاعرة على ذلك الحال لتعيش في حالة هستيرية, تخرج بها من الوعي إلى اللاوعي, حيث الراحلين واطلالهم والماضي الذي يتضمن وجودهم, كما في قولها:
فـيـاحـفَّــارقـــبـريجُـدْبـنـصــبٍ عــــلــىقــبــريتُـخَـلِّــدُهُسُــطـُــــــورُ
فالشاعرة تتمنى لها قبراً بين تلك القبور لتعيش مع الموتى؛ إذ تعدهم السبب الأساس في وجودها على قيد الحياة, فهي تطلب نصباً مميزاً يذكر القادمين بأن في هذا القبر ترقد امرأة عاشت ألم الفقد ولوعة الشوق المضني وهي المثال الذي جسد فكرة الحزن التي حملها الشعر منذ القدم, فهي إشارة إلى أن أحداث الموت هي عبرة لكل الأحياء, لتؤكد ذلك في البيت التالي, لتنبِّه قائلةً:
ألا يَـازائـــرَالأجــــداثمـهــــــلاً هــيالـدنـيــاوإنطــالــتْعُــبُــــورُ
فهي توجه نداءها إلى البعيد المرئي, لتعطيه وعظاً, إذ وصفته بـ(زائر الأجداث) أي زائر القبور, ليكون له درساً تتجلى به فكرة الخلود التي اصلتها في البيت السابق, وهي تشير نوعاً بها إلى ملحمة كلكامش التي جسدت فكرة أن( لا خلودَ إلَّا بالعمل الصالح), وهذا ما دل عليه سياق الشطر الثاني من البيت, إذ أكدت بالضمير(هي) لتخص به الدنيا, فما هي إلَّا عبور وفناء, وعلى الجميع أن يحسنوا ولا يرتكبوا الخطايا. وقد أكدت تلك الدلالة في البيت الأخير, بقولها:
فَـلاتـمــلَأْكـؤوســكَمــنســرابٍ وعـــــيــشكــلمــافـيـــهقُــشُـــــورُ..
فهي توجه بالنهي لمن يعد الدنيا دار الخلود, بألَّا يخدع نفسه, فالحياة عبارة عن: الفقد _الحزن _الأشواق.
إن القصيدة تعبر حالة الحزن الذي تعاني منه الشاعرة إثر حادثة فقد. وقد اتخذت القصيدة الشكل العمودي من الشعر العربي, فهي تنتمي إلى مدرسة الشعر الكلاسيكي_ التي تنحدر أصولها من البارودي وأحمد شوقي والرصافي وحافظ إبراهيم وغيرهم, فهم الشعراء الذين حاولوا قدر الإمكان إحياء الشعر العربي القديم, والمحافظة على تقاليد القصيدة العربية. وقد اعتمدت الشاعرة تلك التقاليد التي أصبحت القالب الذي احتوى أفكار الشاعرة وهي تعبر عن حالة انفعالية جسدت بها فكرة الفقد والحزن العميق والشوق المضني إلى الراحلين بلا عودة. وقد كانت القصيدة ذات وقعٍ عميق لدى المتلقي؛ إذ إنَّ الشاعرة تعبر عن تجربة صادقة, عادت بها إلى النفس الشعري القديم شعورياً, تأصيلاً لتقاليد الشعر العربي الأصيل الذي يعطي المعاني حقَّها_ سواءً كانت معاني الحزن والشوق والألم, أم معاني الفرح والسرور والساعدة, ام غيرها؛ إذ تتمسك الشاعرة بوفائها للمرثي, وذكر مناقبه, والتمسك بتقاليد الحزن بما تضاهي به الشعراء القدماء أمثال الخنساء وغيرها, ممن وقفوا وقفة إجلالٍ لأحبائهم, وعادوا برثائهم إلى أطلال الأحبة تقديساً لذكراهم, ووفاءً لهم.
نجد في القصيدة هناك تعالقاً لفظياً دلالياً بين العنوان والنص بوجود الكلمات( مَن رحلوا, رحيلهم), وهذا ما جسدت به الشاعرة فكرة الرحيل التي تنحدر منها دلالات النص لتؤدي إلى غرض الشكوى الذي تضمنته القصيدة.
لقد تميزت القصيدة باتضاح العنصر الذاتي؛ بوجود ياء المتكلم فيما يأتي ( فلكي, يودعني, عليَّ, أبكيهم, تبكيني, مدامعي, أنام, أنسى, وجهي, إلهي, اعتقادي, قلبي, أمرُّ, عيني, أزورُ, أرى, كأنِّي, ولم أطق, صبري, سأرقد, عزائي, تجمعنا, أنا, تعرفني, قبري), وكذلك وجود الفعل المسند إلى المتكلم, ووجود الضمير( انا), فهذه الألفاظ تعطي القصيدة صفة الذاتي التي تعد المحور الأساس الذي ترتبط به فكرة القصيدة.
ونلاحظ المرجعية الاجتماعية بوجود الكلمات( أطلالهم, دور), التي تعبر عن قوة الاواصر, والتواصل بين الذات والآخر( الراحلين), إذ إن الحديث عن الأطلال يعد توثيقاً لرؤية اجتماعية, فالشاعرة تصف المكان مقترنا بضمير الراحلين؛ تعبيراً عن شدة تمسكها بالمحيط الذي تعيش فيه حياتها, وقد أشارت إلى قوة الأواصر بالعبارات التالية( يعزُّ عليَّ من رحلوا, أمرُّ على الأماكن حيثُ مرُّوا, ولم أطق البعاد وهم أمامي, وكيف يصبِّرُ الداعونَ قلبي).
ونجد الطابع الريفي الأصيل واضحاً في تشكيل القصيدة, بدءاً من الابيات الأولى, وما تتصف به الحياة الريفية من البساطة والخشونة؛ مما ينعكس ذلك على القصيدة بقوة التراكيب وجزالة الألفاظ, فكلما رقت الحياة رقت الألفاظ. كذلك من دواعي الحياة الريفية وجود الأطلال والتواصل وقوة المجتمع, وهو ما نجده جلياً في القصيدة.
وقد اتضح في القصيدة كثرة وجود الأفعال المضارعة, وهي(يدور, يثنيه, يودعني, فيسقط, يعزُّ عليَّ, أبكيهم, أنام, تطول, تهمُدُ نار, يخلقه الشعورُ, تقضي, تجور, تنطقُ, تمورُ, يثورُ, تسبقها العطورُ, أطيقُه, أفرُّ, يصبِّرُ, تغورُ, أزورُ, يزورُ, تعرفني). إنَّ كثرة وجود صيغة المضارع يعطي القصيدة صفة الآنية, وهناك ما يدل على ارتباط المضارعبالماضي, بقولها (يودعني- كل عام), وهو ما يكون به فعل الواع سبب في فعل السقوط, وهذا انطلقت عليه فكرة الوداع, وكل فعل له دلالته بحسب ما أسند إليه. وقد جاءت صيغة الماضي تالية للمضارع, وهي(رحلوا, خبا, حملت, فرَّت, رقدوا, جلسوا, أودى, جاء, لم أطق), فصيغة الماضي أوضحت أن حالة الفقد والوداع والرحيل هي حالات ماضية, وقد تجلى أثرها في حاضر الشاعر, ثم تنتهي القصيدة بأفعال أسندت إلى صيغة طلبية أفادت الأمر والنهي بدلالة الوعظ والإرشاد. إن كثرة وجود الجملة الفعلية على الجملة الإسمية يمنح القصيدة صفة الانفعالية والتجدد والاستمرار على عنصر الثبوت والاستقرار.
إن هذه القصيدة تعبرعن فكرة الغياب والحضور وأثرهما على الأنا والذات, وهو بوح تراوح به النفس الشعري بين الوعي واللاوعي, لترتسم به ملامح الفضاء الشعوري الذي يصف لنا حدثا تراجيدياً متداخل المفاهيم والدلالات التي ارتبطت بالعنصر الذاتي الذي تعود إليه جميع مفاهيم القصيدة. وقد جاءت التراكيب قوية وألفاظها جزلة تلاءمت مع صعوبة الحالة, ومع الطبيعة الشخصية والثقافية التي تتمتع بها الشاعرة؛ إذ يتضح من ذلك كثرة اطلاع الشاعرة على الأدب القديم وعلى اللغة الشعرية القديمة التي اتضحت في تراكيبها وألفاظها, إذ نجد انَّ الشاعرة تعيش اللغة العربية بجميع جوانبها اللفظية والمعنوية والموسيقية والدلالية؛ مما جعل القصيدة تأتي على لسانها بطريقة منتظمة, تخلو من الركاكة. مضافاً إلى الموهبة الشعرية التي جعلت القصيدة تأخذ مستوىً عالٍ من القوة والترابط.
لقد كان للموسيقى الشعرية أثرها الواضح في القصيدة؛ إذ تبين ان هناك تعالق كبير بين فكرة الحزن التي عبرت عنها الشاعرة بغرضي الشكوى والرثاء معاً, فالغرض الأساس هو الشكوى, لكنه حمل ضمنياً فكرة الرثاء التي حملها عنصر الفقد. وقد انتظمت القصيدة على تفعيلات بحر الوافر (مفاعلتنمفاعلتن فعولُ), وهذه التفعيلات تتلاءم مع عنصر الانفعال الذي يسيطر على القصيدة, ويتلاءم مع آنية الشعور؛ إذ يسهل على الشاعرة من خلالها أن يعبر عن معانيه الانفعالية بانتظام, حيث تأتي المعاني بألفاظ تتلاءم مع الموسيقى الشعرية التي تحاول الشاعرة من خلالها إيصال صوتها إلى المتلقي.
الهوامش
)) ينظر : ابن منظور، لسان العرب، المجلد التاسع، مادة (بني) ط1، بيروت، دار صادر للنشر. وينظر: مشكلة البنية، زكريا إبراهيم، دار مصر للطباعة، القاهرة، (د.ط), (د.ت): 32، البنيوية بين العلم والفلسفة، وعبد الوهاب جعفر، دار المعارف، القاهرة، (د.ط),1989م: 8، والمدخل اللغوي في نقد الشعر قراءة بنيوية، مصطفى السعدني، منشأة المعارف، القاهرة – مصر، (د.ط), (د.ت): 11
)) ينظر: مناهج تحليل النص الأدبي ,إبراهيم السعافين وعبد الله الخياص، منشورات جامعة القدس المفتوحة, ط1، 1993م: 68 – 69
)) علم الشعريات (قراءة مونتاجية في أدبية الأدب , عز الدين المناصرة، دار مجلاوي ، عمان ، ط1، 2007: 540
)) ينظر: مشكلة البنية, زكريا إبراهيم: 47
)) ينظر : تحليل الخطاب الأدبي على ضوء المناهج النقدية الحداثية, محمد عزام : 42
)) ينظر: قاموس مصطلحات التحليل السيميائي للنصوص, دار الحكمة, (د.ط), 2012 : 197
( )ابن منظور: الإمام العلامة أبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم ابن منظور الإفريقي المصري، لسان العرب، المجلد الرابع عشر، مادة نص، (بيروت: دار صادر، 2008) ص 271.
)) مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز أبادي، القاموس المحيط، مصدر سابق، ص 1288- 1289.
)) إبراهيم مدكور وآخرون، المعجم الوسيط، مصدر سابق، ص 926.
)) ميجان الرويلي وسعد البازعي، دليل الناقد الأدبي، ط 3 (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2002) ص 260.
))مجدي وهبة، معجم مصطلحات الأدب، (بيروت: مكتبة لبنان، 1974) ص 566.
( )الشريف الجرجاني، كتاب التعريفات، (بيروت: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 2005) ص 167.
)) علي محمد هادي الربيعي، الخيال في الفلسفة والأدب والمسرح، (عمان: دار صفاء للطباعة والنشر، 2012) ص 166.
)) ينظر: ويكيبيديا
)) ديوان نور, سميرة فرجي, منشورات الحلبي, الرباط – المغرب, ط1, 2022: 103 – 113
16)) ديوان بدر شاكر السياب, مج2, بدر شاكر السياب, دار العودة, بيروت – لبنان, (د.ط), 2016: 268
17)) ديوان أبي فراس الحمداني, أبو فراس الحمداني, مؤسسة هنداوي, 2020 :91
18)) المعلقات السبع مع الحواشي المفيدة للزوزني, تقديم وتحقيق: محمد خير أبو الوفا, مراجعة وتصحيح: مصطفى قصاص, مكتبة البشرى, باكستان, ط1, 2011: 28
المصادر
1. إبراهيم مدكور وآخرون، المعجم الوسيط، مصدر سابق،
2. ابن منظور، لسان العرب،ط1، بيروت، دار صادر للنشر, 2008.
3. البنيوية بين العلم والفلسفة، وعبد الوهاب جعفر، دار المعارف، القاهرة، (د.ط),1989م
4. تحليل الخطاب الأدبي على ضوء المناهج النقدية الحداثية, محمد عزام.
5. ديوان أبي فراس الحمداني, أبو فراس الحمداني, مؤسسة هنداوي, 2020
6. ديوان بدر شاكر السياب, مج2, بدر شاكر السياب, دار العودة, بيروت – لبنان, (د.ط), 2016.
7. ديوان نور, سميرة فرجي, منشورات الحلبي, الرباط – المغرب, ط1, 2022
8. الشريف الجرجاني، كتاب التعريفات، (بيروت: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 2005).
9. علم الشعريات (قراءة مونتاجية في أدبية الأدب , عز الدين المناصرة، دار مجلاوي ، عمان ، ط1، 2007
10. علي محمد هادي الربيعي، الخيال في الفلسفة والأدب والمسرح، (عمان: دار صفاء للطباعة والنشر، 2012).
11. قاموس مصطلحات التحليل السيميائي للنصوص, دار الحكمة, (د.ط), 2012
12. مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز أبادي، القاموس المحيط،
13. مجدي وهبة، معجم مصطلحات الأدب، (بيروت: مكتبة لبنان، 1974)
14. المدخل اللغوي في نقد الشعر قراءة بنيوية، مصطفى السعدني، منشأة المعارف، القاهرة – مصر، (د.ط), (د.ت)
15. مشكلة البنية، زكريا إبراهيم، دار مصر للطباعة، القاهرة، (د.ط), (د.ت).
16. المعلقات السبع مع الحواشي المفيدة للزوزني, تقديم وتحقيق: محمد خير أبو الوفا, مراجعة وتصحيح: مصطفى قصاص, مكتبة البشرى, باكستان, ط1, 2011.
17. مناهج تحليل النص الأدبي ,إبراهيم السعافين وعبد الله الخياص، منشورات جامعة القدس المفتوحة, ط1، 1993م
18. ميجان الرويلي وسعد البازعي، دليل الناقد الأدبي، ط 3 (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2002)
19. ويكيبيديا