جسر التواصل/ سيدي قاسم
خص مجموعة من أساتذة ثانوية عبد الله إبراهيم التأهيلية بمعية عدة تلميذات وتلاميذ مهتمين بالشأن الثقافي يوم الجمعة 24 ماي 2024 مساء وقتا مناسبا للوقوف على الأعمال الروائية والقصصية والشعرية للأستاذ الوافي الرحموني.
أشرف على تسيير الندوة الأستاذ أنس محاسن ، استهلها بعرض شريط من الصور توثق أهم المراحل والمحطات التي قطعها الكاتب في حياته ،وقد تعمد أن يقف عندها محطة – محطة ليستنبط منها عبر أسئلة دقيقة موجهة للكاتب ،ليولد منها أسس التجارب الذاتية في مختلف الأعمال الإبداعية التي كتبها، فيتفاجأ الحاضرون بأن الوافي الرحموني ولج سوق القراءة والكتابة في سن الحادية عشرة من عمره حينما اعترضت طريقه إلى مسكنه بقرية محاذية لمدينة شفشاون فتاة أمية وسيمة تفوق عمره بست سنوات أو أكثر بقليل، تستعطفه لقراءة رسالة من عاشق ولهان يتابع دراسته وتكوينه بالمدرسة العسكرية بمكناس ، ثم يرد عليه برسالة على لسانها ، وبذلك صار وسيطا آمنا بينهما ، وفي كل مرة تجازيه بنصف درهم، وما أدراك ما نصف درهم في تلك الأيام من سنة 1972!، مما دفعه إلى شراء كتاب ” كيف تكتب رسالة ” ، ومن ثم أصبح كاتب الحي، ووسيطا بينهم وبين أبنائهم في الديار المهجرية، وله أسرار كثيرة في هذا الموضوع … ليصبح لاحقا مساعدا لأنداده في كتابة الإنشاءات المنزلية وذلك بعد اطلاعه وتصفحه لعدة مؤلفات بمكتبة البلدية بشفشاون، بتوجيه من قيِّمها الواعي بشؤون القراءة والكتاب ، ثم من بعض أساتذته في مرحلة الإعدادي الذين وجهوه مبكرا إلى القراءة الرومانسية ابتداء من العبرات والنظرات ومجدولين والفضيلة للمنفلوطي ، إلى دمعة وابتسامة ، والنبي والأرواح المتمردة لجبران خليل جبران وأغاني الحياة لأبي القاسم الشابي …فضلا عن الرواية الشفهية التي تلقاها عن والده بخصوص ألف ليلة وليلة ، وقصص الأنبياء وكرامات الصالحين … كل ذلك انصهر في مؤلفه البكر ” معراج العاشقين”، لتنفتح شهية الكتابة عنده ، ويُغني تجربته الإبداعية بسبع مؤلفات أدبية أخرى .
ارتأى الأستاذ أنس محاسن أن يسلط الضوء على المؤلَّف الأخير للكاتب : ” في رحاب الأخيار”فحاول النبش في عنوانه معتمدا في ذلك على المقاربة السيميائية ، غير أنه لم يكتف بذلك ، بل عرى على متنه الحكائي الموزع على سبعة عشر فصلا ، ليستنتج أن العنوان هو لب الرواية وجوهرها المتشظي على غلافها ، وأن الاستمتاع بأحداث الرواية وفضاءاتها وشخوصها يلهب نهم القارئ للاطلاع على جزئها الأول ، رواية “خفايا علبة الحرف ” التي طُبعت سنة 2011… ثم أعطى الكلمة للدكتور هشام مرزوق الذي سلط الأضواء في مداخلته على المرجعية التاريخية في رواية ” خفايا علبة الحرف “، واعتبر أن كل قارئ للرواية خصوصا من نساء و رجال التعليم سيقول أن أحداثها فُصلت على ” مساري أنا ” ، وهذا ما جعلها تحظى بصدى طيب بين المدرسين وطلبة المراكز التربوية ، وكلية علوم التربية، باعتبارها لم تغفل مختلف طرق البيداغوجيا وطرائق التدريس ، والعلاقة القائمة بين هيئة الإدارة وهيئة التدريس ، وهذا ليس غريبا على الكاتب الوافي الرحموني الذي استهلك 26 سنة من عمره بين جدران القسم بعدة مدن مغربية ،قبل أن ينتقل إلى الإدارة التربوية التي هي الأخرى سفت من رحيق عمره 12 عاما ، قبل أن يتلقى في هذه السنة رسالة الحذف(وهي كلمة ذات وقع قاس على متلقي الرسالة …) من وزارة التربية الوطنية ويحال على التقاعد ؛ واستنتج أنها تختزل مرحلة مهمة من سيرورة النظام التعليمي ببلادنا ، في علاقته بالقضايا الواقعية المختلفة ؛إنها تعبر عن الراهن مثلما تحفر في ذاكرة التاريخ منذ بداية الاستقلال إلى تاريخ نشرها ، بل أحداثها وأبعادها تنفتح على المستقبل أيضا ، لذلك فالكاتب في نظر الدكتور هشام يستحضر ذاكرة جيل بكامله اكتوى بمسلسل الإصلاحات التي تاهت في نفق بدون رؤية واضحة من ( التعميم والتعريب ، إلى الأهداف ، فالكفايات، ثم المجزوءات…) و النتيجة هي تفريخ أجيال من العاطلين بلا قاعدة صلبة .
المداخلة الثالثة في هذه الندوة حضور التناص في أعمال الوافي الرحموني، للأستاذ : فهد رجا، حاول في البداية أن يعرف هذا المفهوم و يبسطه للتلاميذ ، و الضيوف الحاضرين في القاعة ، أي انفتاح النص على غيره من النصوص في مختلف محطاتها الأخرى …، معتبرا أن الناقدة جوليا كرستيفا التي اشتهرت بهذا المفهوم بعدما فصلته تفصيلا ، أنها بدورها اتكأت على الناقد الروسي ميخائيل باختين الذي تناوله بصيغة أخرى هي الحوارية، إن هذا الامتصاص من النصوص الأخرى لم ينفه الكاتب خصوصا المؤلف الشهير : الف ليلة وليلة ،ومؤلفات المنفلوطي… باعتبار أعماله الإبداعية نضجت بعدما قرأ عدة مؤلفات أدبية وتاريخية وفن الرحلة والخطابة والأمثال وإبداعات نجيب محفوظ وغيرها ، إن هذه المقروءات كانت بالفعل وقودا للكتابة عند الوافي الرحموني .
ختم الأستاذ رجا فهد مداخلته بقصيدة ألقاها في شخصية الكاتب الذي سيحال على المعاش بعد أيام قليلة، وهيموسومة بعنوان :
ميــــميـــــة الوفــــــــــــــــــــــــــــاء
أتى البين المحتم يا كرامُ
بعد دهر مديدلونه العِظام
عنك أنظم كلامي و ليس فيك إبهام
وافٍوفَّى بعهد التربية ، وإبداعه إلهام
غاص في علوم اللغة وآدابها
وكان في ذلك ضِرغام،
واصطاد من جواهرهماّ،
فحاز معراجا بين أسطره للعاشقين ينجلي الظلامُ
وغنم “المضطهدون” من إمتاعه لُبـــًّا
ما بعده كلام
و”ملحمة …” تبحر بك في أبعاد ، واقعها خياُلُ
يجلى كدرا في يوم يطبعه الغمام
و “خفايا علبة الحرف ” أتى على ذكرها ، وهي التي روت وتروي ظمأمعلم في عزمه همامُ
أشكر المنفلوطي علانية
فبفضل عَبراته
عُضّد فيك الإلهام
اجتبتك الرواية فشرفتها
وكنت وليدا نجيبا أنجبتك لها الأيام
ما بالي أتناسى شفشاون الأبية
مهبط وحي أدبك الرصين
الذي يحلم به النيام
انقضتْ أعوام كنت لي خير مرشد ومعلم
وبكل شيء لك إلمامُ
والآن أُقبـِّل رأسك امتنانا على عظيم ما صنعت معنا
عظما لن يصفه الكلامُ
وإن استرسلت فاعذروني يا كرام
فما بلساني إلا لوعة على بَيْن ٍمقترب
أجحد به ،وليس بينتا استســــــــــلام
*
المداخلة الرابعة من إنجاز الأستاذ مولاي رشيد العسري، اختزلها في تحديد القيم الأصيلة التي وظفها الكاتب في رواية “ملحمة الحب والحرب” و المتجذرة في مجتمعنا العربي والإسلامي والتي جاءت مغلفة في ثوب العجائبية المُغرية بخيال يرفرف بالمتلقي في سماء المتعة الساحرة ، بل تغوص به من خلال بطليْها (صخر و لالَّة زينة ) إلى زمن (عنترة ) من حيث الشجاعة الإقدام.
والذود عن القبيلة والدفاع على شرف قومه …) وتتماهى لالة زينة أيضا مع عَبلة من حيث الحب الخالص ، ومع شهرزاد في ألف ليلة وليلة من حيث الدهاء والحكي … واستنتج من خلال قراءته لمؤلفات الكاتب الرحموني أنه استغل عدة أساطير محلية وعربية كقيمة فنية وجمالية تشد انتباه القارئ بمزيد من المتعة والتشويق ، وكقناع للتعبير عما يصعب التعبير عنه ( اجتماعيا وسياسيا ونفسيا ) ، أهم هذه الأساطير أسطورة هينة والغول في رواية : ملحمة الحب والحرب ، وأسطورة حنَّى مسعودة ، و أسطورة أبي البركات والثعبان في رواية :معراج العاشقين، وأسطورة السندبـــاد في رواية :المضطهدون ، وأسطورة طائر الفينــق / العنقـــاء في روايـــة : ” متاهات الياسمين “كقيمة التجدد والانبعاث والخروج بنجاح من الأهوال …
على هامش هذه المداخلات أعطى المسير الكلمة للأستاذ جواد الخافي. لقد حاول الربط بين مقولة مأثورة هي :” الأديب ابن بيئته ” والبيئة الشيفشاونية التي ترعرع فيها الكاتب باعتباره هو الأخر قضى عدة سنوات كمدرس للتاريخ والجغرافية بهذه المدينة العريقة ،لم يتوقف طيلة هذه المدة الزمنية من الحركة والتجوال بضواحيها ، و بين سواقيها ودروبها ومآثرها ، مثلما دفعه فضول البحث والمعرفة للنبش في تاريخها وتراثها ورجالاتها …. لذلك تبين له من خلال قراءته لرواية ” معراج العاشقين” أن الوافي الرحموني شغوف بسحر جمال هذه المدينة شأن أستاذه الشاعر الكبير عبد الكريم الطبال. الفرق بينهما هو أن هذا الأخير احتضنها شعرا بعدما غاص في وجدان أهلها ؛ والوافي احتضنها سردا و وصفا لجبالها و كداها وأنهارها وغاباتها بأسلوب غير مباشر …دون أن ينسى بيئتها الثقافية من عادات وتقاليد و أخبار عن رجال الله( الأولياء والصالحين والعلماء والأدباء …) وفي هذا الشأن أضاف الأستاذ عاديل قادير من خلال إعجابه بالديوان الزجلي “أوليدات الصيادين ” أنه كتب بدارجة محلية بيضاء ، جلها من جذور اللغة العربية ، وحروفها الأصيلة محليا من حيث النطق :الثاء والظاء ، (الظاء اليحمدية )خصوصا وأن شفشاون ونواحيها كانت محطة للعبور بين بلاد المشرق وبلاد الأندلس وبالتلى فإن الديوان فياض بالأمثلة المحلية والحكم المغربية مثل قوله على لسان الطائر بلارج ” اتركْ الحَبّْ تتحبْ ” ، ” بلارج طار وجا، عينُه كاحلةعوجة “، أو قوله في حكاية / قصيدة : عويشة وريدة لجبال :” يوم الربيع قالوا جات والزهر في اللتشينة، لله يا مّ عينين قلْ لي مين أنتينا ” ، أو قوله : ” حروف الزين بين العينين ” بحكاية / قصيدة : عرس الفيل ،وغير ذلك .
انتقلت الكلمة إلى الأستاذ بنعيسى لكحل بصفته مديرا للمؤسسة لقد أشاد بالصداقة التي تجمعهما منذ أن اشتغلا معا بالقسم ابتداء من سنة 1994 بثانوية المنصور الذهبي، وأن الكاتب منذ ذاك التاريخ –حسب شهادته – كان القلب النابض للحياة المدرسية هناك ..، لقد اعتبر أن المدخلات السابقة أخرجت بالفعل من بنات أفكار الكاتب عدة قضايا فنية ودلالية تزرع بذور الكتابة والإبداع بعقول وأفئدة الأجيال المتعاقبة ، وأن الشكر لكل المتدخلين على هذه المبادرة التي سينعكس ريعها حتما على التلاميذ الذين سيجعلون من الأستاذ الرحموني نموذجا يحتذى به ،بل يسيرون على دربه من خلال أعماله المودعة بمكتبة الثانوية ، خصوصا وأنه لم يبخل على كل تلميذ وتلميذة تلتجئ إليه ، لتوجيههم إلى الإبداع السليم (شعرا ونثرا ) طيلة المدة التي قضاها ناظرا للمؤسسة …
فضل مسير اللقاء أن تنتقل الكلمة إلى جمهور التلاميذ المتتبعين للندوة خصوصا الذين قرأوا أعماله، ليزيلوا اللبس عما صادفهم من وراء تعابير وشخصيات وفضاءات … والغاية من توشيحها بالغرابة والزئبقية والرمزية كما هو الشأن في روايته البكر ” معراج العاشقين “، التي يصعب القبض على شخصياتها ، وحتى في رواية خفايا علبة الحرف يصعب القبض على فضاءاتها المكانية …
لم ينس الأستاذ المسير للجلسة أن يشرك أستاذ التربية البدنية جواد فيلالي أن يدلي بدلوه في هذه الوليمة الأدبية ، وجه هذا الأخير كلمته إلى التلاميذ لتجويد تعلماتهم، وصقل مواهبهم ، وذلك بالاستفادة من أساتذتهم أولا ، خصوصا الذين ولجوا دنيا الكتابة والتأليف ، وبالاستفادة أيضا من إيجابيات وسائل التواصل الجديدة التي أزالت القيود عن المعارف ، لقد أصبحت المعلومة في زمانهم متوفرة إلى حد الإفراط ، وعليهم أن يتجنبوا مخاطر الصورة المدمرة لحب الإبداع والكتابة … انتهى به الكلام إلى الدعاء لهم بالنجاح والتوفيق والشكر الجزيل لمهندسي هذا اللقاء الثقافي .
وفي نهاية اللقاء، ختم الأستاذ المسير بشكر الأستاذ المبدع الوافي الرحموني ، كما شكر كل المشاركين والحاضرين في هذه الأمسية الثقافية .