بقلم الدكتور عبد الأله جنان
لقد شكل شعر الملحون عبر قرون دَيْدَنَ المغاربة وديوانهم الذي أَوْدَعُوا فيه سيرورة حياة مجتمع بأكمله، ضَمَّنَهُ همومه وآهاته وأفراحه ووجدانه وتجاربه، وجعل منه فضاءا رحبا للخطابة والتخاطب والمساجلة والحوار والمُحَاجَّة والمراسلة والمحاكاة والمرافعة والفرجة والعبادة والخيال والاستشراف. فاستحق فن الملحون أن يكون بحق إبداعا خلاقا وذاكرة تاريخية وثقافة مجتمعية تعبر “عن الشخصية المغربية؛ والتغني بما يختلج في نفوس المغاربة من مشاعر دينية ووطنية وعاطفية” كما جاء في الرسالة الملكية التي وجهها صاحب الجلالة الملك محمد السادس لأمين السر الدائم لأكاديمية المملكة بمناسبة إصدار ديوان الشاعر التهامي المدغري في 18 مارس 2010.
ويعتبر شعر الملحون مرآة للمجتمع المغربي تمكن شعراءه بفضل حسهم المرهف وتفاعلهم التام مع قضايا كل الفئات الاجتماعية من تلخيص تجاربهم واستخلاص العبر والدروس منها، كما ساهم في تهذيب الوجدان واكتناه الجمال في كل المخلوقات بمختلف مكوناتها؛ في محاكاة رائعة تروم توجيه الأفراد للعيش في تناغم وتوازن مع محيطهم. كما كانت تبسط لهم كل المعارف والمهارات الدينية منها والحياتية للإبتعاد بهم عن العزلة والحيرة والانحراف والضياع.
وللحفاظ على هذا الموروث الثقافي الأصيل؛ لا كإبداع شعري فقط؛ بل كتراث فني ارتبط بالمجتمع المغربي عبر طقوس وعادات وتقاليد ذات طابع إحتفالي، عملت أكاديمية المملكة المغربية كمؤسسة وطنية عبر عدة محطات على الحفاظ على هذا التراث المغربي إيمانا منها بالحاجة إلى تحصين هذا الإرث التراثي صَوْنًا للهوية الثقافية المغربية المتعددة في إطار ثوابت الأمة الضامنة لوحدتها.
والأكيد أن تقاعس مؤسساتنا العلمية والثقافية في حماية موروثنا الثقافي والفني وتوثيقه كان له بالغ الأثر في تيسير مخطط السطو على تاريخ أمتنا الإبداعي.
الجامعة المغربية تلفظ شعر الملحون المغربي.
منذ صدور كتاب: الزجل في المغرب القصيدة في 1969 للدكتور عباس الجراري, وهي عبارة عن أطروحة جامعية تمت مناقشتها بجامعة القاهرة تحت إشراف الدكتور عبد العزيز الأهواني، ماذا انجزنا بعدها غير ثلاث أو أربع رسائل جامعية يتيمة متفردة ومنفردة لا تعبر عن زخم ٱلاف قصائد شعر الملحون لمئات الشعراء المغاربة من مختلف المراكز الحضرية والقروية بالمغرب.
ظلت الجامعة المغربية رافظة لكل دعوات إدراج شعر الملحون ضمن مسارات البحث والتدريس، بسبب اللغة العامية لهذا الشعر رغم مقوماته الأدبية والشعرية الرائقة.
وزارة الثقافة وغياب استراتيجية لصون تراث الملحون المغربي.
يعتبر مهرجان سجلماسة بٱرفود رغم ضعفه وهشاشته الثقافية والفنية، هو العلاقة الوحيدة لوزارة الثقافة بتراث الملحون، تاركة جمعيات المجتمع المدني المحلية بكل مراكز الملحون تشتغل وحدها وبدون إشراف منها، بشراكة مع بعض الهيئات المنتخبة وبعض المؤسسات الإقتصادية التي تؤمن بقضية التراث والهوية.
بل حتى المجلات والمطبوعات التي تصدرها الوزارة تكاد تخلوا من أي اهتمام بتراث الملحون.
ولولا مبادرة اكاديمية المملكة المغربية بالدعوة لتسجيل تراث الملحون، لسارع اعداء الأمة لسحب تراث الملحون بالتزوير والسرقة في غفلة من كل مؤسساتنا.
دور اكاديمية المملكة المغربية في الحفاظ على تراث الملحون : إن إصدار دواوين شعراء الملحون وإطلاق مبادرة تسجيل تراث الملحون المغربي ضمن لائحة التراث الثقافي اللامادي لدى منظمة اليونيسكو ومضامين ومستجدات قانون إعادة تنظيم أكاديمية المملكة المغربية، تعتبر البداية الصحيحة لصون هذا التراث وتعبر عن الوعي الراسخ بالمسؤولية الوطنية لهذه المؤسسة.
هذا الوعي نتجت عنه مبادرة تاريخية عرفت بدايتها سنة 1984 مع المرحوم الأستاذ محمد الفاسي عندما أصدرت الأكاديمية العمل الموسوعي “معلمة الملحون” والذي لم يكتب له الاكتمال بوفاته رحمه الله. هذا الوعي المتجذر لأكاديمية المملكة المغربية وإصرارها وإيمانها بأهمية الملحون كجزء من التاريخ الثقافي والتراثي المغربي؛ جعلها سنة 2007 تؤسس لمشروع ضخم يروم ويهدف إلى جمع وإصدار دواوين شعراء الملحون المغاربة؛ تبنت فيه منهجية علمية أشركت فيها كل الباحثين المختصين والشعراء والخزانة والمهتمين في إطار لجنة يرأسها الأستاذ الجليل د عباس الجيراري، وأطلقت على هذا المشروع إسم “موسوعة الملحون”؛ صدر منها لحد الساعة إحدى عشر ديوانا لكبار شعراء الملحون بالمغرب. ويعتبر هذا المشروع عملا تأسيسيا حقيقيا سيحافظ للمغرب على ثروة مهمة من تاريخه الثقافي والإبداعي.
* اليوم، بعد ان أعلنت وزارة الشباب والثقافة والتواصل أن اللجنة الحكومية الدولية لصون التراث الثقافي غير المادي لمنظمة اليونيسكو، المنعقدة اليوم الأربعاء 6 دجنبر 2023 في إطار دورتها 18، بجمهورية بوتسوانا، والتي وافقت على طلب المملكة المغربية المتعلق بإدراج فن « الملحون » في القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للبشرية.
ماذا بعد هذا الإعتراف الدولي بهذا الإرث المغربي الأصيل؟
لقد أصبح صون تراث الملحون المغربي والحفاظ عليه مسؤولية وطنية تستلزم:
أولا نشر الوعي بأهمية التراث في تكوين شخصية الفرد والمجتمع وربطه بجدوره التاريخية والثقافية,
ثانيا حماية المجتمع من الانجراف والتفريط في خضم الصراع الهوياتي الذي تعرفه المنطقة و العالم اليوم,
ثالثا صون تراث الملحون المغربي من الاستغلال غير الثقافي والتزوير و التزييف التاريخي.
كما أصبح لزاما بقوة هذا الإعتراف الأممي وضع استراتيجية واضحة المعالم من طرف كل المؤسسات المعنية علميا وثقافيا وفنيا لجرد هذا التراث وتوثيقه شعرا وموسيقيا وصونه والترويج له وتوفير كل الحوافز لحياته داخل المجتمع المغربي موقعه الطبيعي حتى لا يكون مصيره الضياع لأنه بضياعه نفرط في الهوية الإبداعية للأمة المغربية.
فهل لمؤسساتنا القدرة على رفع هذا التحدي بعد هذه الثقة الأممية؟