كريم القيشوري.
عن مطبعة وراقة بلال بفاس / المغرب. تم إصدار المجموعة القصصية: ” تكلم كي لا أموت ” للقاص حسن البقالي في طبعة أولى من السنة الجارية 2024.
1- عن لوحة غلاف الكتاب:
لوحة الكتاب تتقاطع ومضامين النصوص حيث طيف كائن بشر/حيوان ” أنثوي” مجسد في شجرة ” . الشجرة مصابة باليباس والجفاف المؤدي إلى الموت، وفوق فرع من فروعها يتربع طائر- الغراب تجسيدا لرمز يحيل على السردية التي تحكي ما أقدم عليه أحد أبناء سيدنا آدم من وضع حد لحياة أخيه- قتل قابيل لهابيل – ودور طائر ” الغراب ” في تقديم فعل كيفية الدفن، بحكم تجربة سابقة.
هذا المشهد تتخلله ظلال أشجار خافتة الألوان ، حيث يتداخل اللون الأصفر” الجفاف” بحمرة تشي ب ” الحريق ” ب” النار ” وبشبه خضرة قليلة كغبش منثور على الهامش.
في أعلى صفحة الكتاب يتربع العنوان في المنتصف: ” تكلم كي لا أموت ” بخط بارز باللون الأسود، تحته كتب جنس المكتوب. قصص. وبخط أقل بروزا من العنوان، وأسفل قدم لوحة الغلاف أشير إلى اسم الكاتب: حسن البقالي بخط رقيق، وفي هذا العرض التراتبي التشكيلي/ الفني إحالة إلى المتضمن في النصوص، والمعبر عن :
“الموت في مختلف تجلياته”.
وفي خلفية الكتاب صورة للكاتب بزي صحراوي يمتطي حيوانا بريا ضخما جملا أو وحيد القرن أو البيسون الأمريكي الذي يعتبر ثاني أكبر أنواع البقريات على وجه الأرض بعد الغور الآسيوي، ونص بيان يصدر عنه كاعتراف بموت القصة القصيرة جدا، وهي إحالة ذكية إلى الحجم تمثيلا بالحيوان الضخم.
2- العنوان وسيميائيته :
إن قيمة كل نص لا تتحدد فقط بمتنه ومضمونه،بل أيضا بسياجاته،أو ما اصطلح عليه النقاد ب” عتبات النص” وأول عتبة تطالع القارئ عند أول وهلة قبل الولوج لفناء النص هي ” العنوان” .
يعد العنوان مفتاحا إجرائيا ومدخلا أساسيا لأي نص، وحلقة أساسية ضمن حلقات بنائه الاستراتيجي، كما أنه يمثل نواة دلالية تؤسس للنص وتهبه مشروعية الوجود، ومنه تنطلق الشرارة الأولى للقراءة.
عنوان المجموعة القصصية ” تكلم كي لا أموت ” لم يختره الكاتب اعتباطا، بل إشارة إحالية للقارئ لمفتاح الدخول إلى فناء النصوص، وأيضا توازيا مع مقولة الفيلسوف سقراط ” تكلم حتى أراك ” وكلمة الإمام علي- رضي الله عنه – الذي أراد من خلالها إعادة تشكيل المعنى الذي قصده سقراط ” الرجال صناديق مغلقة مفاتيحها الكلام” بل المقصود ردود فعل القراء والنقاد مع ما يقدم لهم من نصوص قصصية بين- بين.
3- عن مفتتح المجموعة القصصية :
الموت القاهر لكل الكائنات الحية من إنسان وحيوان ونبات..بله إلى الأدب وبالأخص الأجناس الإبداعية ومنها القصة القصيرة جدا كما اعتبرها صاحب الأمر بالتكلم.
فالكلام ترجمته كتابة، على اعتبار أن الكتابة حاجة روحية في الإنسان، وهي تجل لنعمة البيان التي ميز بها الله الإنسان” خلق الإنسان علمه البيان ” . الكتابة تعني أن تتجاوز حدود ذاتك في الزمان والمكان،وأن تفيض على الناس من روحك وتنثر عليهم من بذورك فتسري كلماتك من قلب إلى قلب، وتجد لها أنصار يتبنونها، فتنتصر بذلك على خوفك من الفناء وتشق طريقا للبقاء بعد الموت.
فهل الإحساس بالخوف من الموت قتلا هو ما يجعل الحكي متدفقا عبر الأزمنة ،
كما جاء في قصة ؛ ” أنت أيضا يا ولد ” ص 42 – 43،والتي تم توظيف الأسطورة الإغريقية فيها بشكل منتقى لإبراز نوع من التطرف بما في ذلك القتل في اللعبة السياسية ؟ ” طعنة بروتوس لصديقه يوليوس قيصر”.
أم هي اللعنة التي سنها شهريار لحكي العالم حفاظا على البقاء ؟
قصة : ” فرح” ص53
والتي يعتمد الحكي فيها بشكل مكثف لما بعد أربعين سنة، حيث “يسأل الحفيد الجد عن سبب كل تلك الدماء في الحرب الطويلة بين المملكتين والتي كان سبب اشتعال نيرانها كلبة عوت أو سرقت، أو ماتت ميتة مشبوهة لعلها كلبة الزعيم..كان الحفيد يريد كلبة يربيها ويسميها فرح، بعد الحكاية ثارت ثائرة الحفيد
وأصبح لا يريد كلبة، لا يريد ال “فرح”.
” تكلم كي لا أموت” مجموعة قصصية تتيح إمكانية قراءتها من زوايا متعددة ومن مستويات متنوعة لاتساع قاعدة خصوصيتها ووسمها بمجموعة من السمات أبرزها :
– التصدير الذي يبين من خلاله القاص موقفه من كتابة الققج، ومن كتابها الذين كان لوسائل التواصل الاجتماعي سببا في نشر غسيل تأتآتهم، وتنبؤه بموت هذا الفن من خلال إصداره لهذه المجموعة التي تتخذ تيمة الموت مرتكز الفكرة الأساس، بعدما تداول في الأمر مع ثلة من الأصدقاء الممارسين لفعل الكتابة والمهتمين بالأدب ، والتي كانت إجاباتهم منطلقة من مبدأ واضح :” إذا كان الموضوع واحدا فينبغي التنويع في التناول دفعا لأية مونوتونية قاتلة للنصوص ولمتعة التلقي “
– اختلاف هوية الكتابة من قصة إلى أخرى.
قصة : لكن كيف ترى الموت ؟
الاستفهام الذي طرح على الفيلسوف المحاضر في موضوع السعادة من قبل أحد الحاضرين، بعدما حلق كفراشة في حقول المعرفة والأنساق وأنشطة التخييل في علاقة ذلك بسعادة الإنسان ورفاهيته، جعل منه شاذا، حيث حدق مليا في السائل وبدأ يعرض عليه قيمة كتاب اختلف كثيرا في هوية مؤلفه وتاريخ التأليف..إلى أن شعر بخدر يسري في جسده وتوسد ذراعه ونام.
نام الفيلسوف ولم يستيقظ أبدا . قصة فلسفية تنم عن خبرة في السرد، وتمكن من التعبير المسبوك، والتخييل المرن..
– تنوع آليات الكتابة وأدواتها من قصة إلى أخرى.
– اختلاف أحجام قصص المجموعة .
– تنوع لغة السرد بتمتيعها بخاصيات العجائبي/ الغرائبي، الحكمي/ التاريخي..
– توظيف البياض بشكل ملفت للنظر عدديا وهندسيا. في قصة : “جدوى الأدب” ، مقارنة مع قصة : “حب “
وقصة : ” خبط عشاء ” مع قصة :” احتياط ضروري” وقصة : ” شر محض” مع قصة :” تعاطف”..
– تكثيف الجملة السردية في قصص وتمطيطها في أخرى .
هذه القراءة العاشقة/ الثقافية- إن صح التعبير- تدخل في إطار الاستجابة لتلبية أمر الكاتب بالكلام. فالكلام عن المجموعة لا تكتمل إلا باستحضار إنجازاتها الجمالية، تأتي اللغة في مقدمتها باعتبارها تراهن على المعنى لتنتج قيمة جمالية مضافة للنص تأسر بانسيابها ، وتلف في عذوبتها كل مفتتن بهذا الجنس الأدبي الذي هو فن الإيحاء والتضمين والاستبطان..
قصة : ” شر محض” ص 89
قصة تحكي عن سمكة تنتقم من بني جنسها، لشعورها بأنها أذكى، وبأنها من طينة غير طينة الأسماك، وبطبيعتها الشريرة كانت تسحب الأسماك لحتفهم..ولما عادت لطبيعة “وعيها”بعد إحساسها باقتراب أجلها،أرادت أن تنتقم من القاتل الأكبر ، أن تقتل آدميا، فازدردت من عشبة سامة ما يكفي لقتل رجل في سويعات وارتمت داخل شبكة للصيد..لم تكن تشعر بأي قلق أو توتر.. هذا القصة نموذج يفسر استناد بعض نصوص المجموعة إلى مرجعيات تناصية عديدة تسمح بالإبقاء على الإنساني في التجربة دون الاقتصار على التوازيات المتقاطعة التي قد لا تسمح باختراق النصوص ومساحتها . ونص قصة : ” كبيت له بابان” ص17 المعبرة عن قصة سيدنا نوح عليه السلام عندما سئل من قبل ملك الموت كيف رأيت الدنيا ؟ فقال : ” كرجل بني له بيت له بابان،فدخل من واحد وخرج من الثاني. تم توظيف الحكي التراثي بالوضع الذاتي للسارد،أي نقلها من سياق إلى سياق يتوافق مع خلاصة
الحدث- الموت.
وقصة : ” جدوى الأدب” ص19.
التي وظف فيها الكاتب إحدى الحكايات الشعبية التي تحكي أن رجلا وأسدا اختلفا في الإجابة عن سؤال من هو الأقوى : الأسد أو الإنسان ؟ وبينما هما كذلك ،تأتي الإجابة من خلال رسم على الجدران عثرا عليه كشمس مشرقة، عبارة عن رجل يقتل أسدا.. ماذا لو كان الرسام أسدا ؟ فجدوى الأدب والفن في تمثل المعرفة وإدراك المعنى. .يكفيان حياة الكائن ،ويمنحان قيمة لحياته..
وحتى لا نحرم القارئ من متعة القراءة والاستمتاع بفن صناعة الحكي بلغة رشيقة ، وأساليب تمتح من البلاغة صورها المجازية والتشبيهية..بعناية فائقة تشي بقدرة الكاتب على تطويعها، وإلباسها لبوسات تتوافق والمراد من توصيل الفكرة – المعنى- للمتلقي..
فكل نص قصصي من المجموعة هو فسيفساء لعمل توحد في التيمة واختلف في أدوات بنائه على اعتبار ملكة إدارة اللغة التي يتميز بها القاص حسن البقالي، وعلى أساسها يضع الأساليب ، تجعل من كل نص له متعته الخاصة، وإدهاشه الماتع..